القنابل العنقودية: تعبير آخر عن الخسارة
بعدما حل محل مرؤوسه السابق، الجنرال ماك-كريستال، المفصول بسبب انتقاداته التمردية ضد المدنيين الأرفع منه رتبة، ينفي الجنرال ديفيد بترايوس أن يكون الرئيس باراك أوباما قد ألزمه بمهمة «إيجاد مخرج مشرف» من الحرب الأمريكية ضد طالبان، عاقداً عزمه على إحراز النصر، غير أنه يطلب مزيداً من الوقت والعتاد للسير قدماً، فبعد أن «تتوفر المقدرات الكافية»، حسب قوله، في الفترة ما بين أواخر شهر آب وأوائل أيلول، واستناداً إلى خطة الحملة التي رسمها بنفسه و«أتم رتوشها» ماك-كريستال، يغدو النصر قاب قوسين أو أدنى!
لكن القصة الحقيقية لم تسر كما يطرحها بترايوس. فعندما انتُخب أوباما في عام 2008، بعد حملةٍ كان أساسها خوض «الحرب الصح» في أفغانستان وإنهاء الحرب الخطأ في العراق، وبمجرد دخوله البيت الأبيض، وجد أن بترايوس، القائد الأعلى لمسرح العمليات في العراق وأفغانستان، قد أعدّ خطة مسبقة، يتوقع الجيش أن يلتزم بها غرّ الشؤون العسكرية أوباما. وأُحيط الرئيس المستجد علماً بأن ماك-كريستال، قائد أفغانستان الموعود، سيتجه إلى كابول لعقد بضع مشاورات، ثم يقفل عائداً إلى واشنطن ليعرض مجموعة تدابير أعدها الجنرالان بمعية طاقميهما مسبقاً، ستتضمن طلب «تعزيزات»، من القوات (المعلن أنها عاملة في العراق)، ليصبح عديدها (في أفغانستان) مائة ألف جندي، إضافة إلى ما أصبح مكشوفاً بأنه يشكل قوة موازية من المتعاقدين المدنيين مع الجيش، غالبيتهم من غير الأمريكيين، الأقل كلفة ويمكن الاستغناء عنهم بسهولة أكبر من الاستغناء عن المجندين النظاميين.
سأل أوباما الجنرالات عما إذا كانت هذه الخطة تضمن للولايات المتحدة تحقيق النصر في أفغانستان خلال عام واحد، بحيث تتمكن القوات الأمريكية من بدء الانسحاب بحلول تموز، عام 2011. وبدا معنى ردهم «ما في مشكلة سيدي، ولا يهمك»، ملبساً بأفضل الصيغ العسكرية. وبقدر مداهنة هذا الرد، كان وضوح تصريحات الإعلام ومسؤولي الإدارة الأمريكية بأن الجنرالات قطعوا وعداً أمام الرئيس أوباما، الذي صافحهم بدوره واصفاً ما جرى بينهم بالرائع والعظيم. ويبدو أن وزير الدفاع، روبرت غيتس، هو الوحيد الذي يتذكر هذا الوعد، ما خلا حفنة من الصحافيين والنقاد.
إنما، خلال تنقله بين برامج المحطات الإخبارية الأمريكية، يوم الأحد الفائت، طرح الجنرال بترايوس فكرة أن سحب القوات الأمريكية من أفغانستان خلال سنة من الآن، يعتبر قراراً متسرعاً. مما دفع غيتس للتدخل وتذكير قادة الجيش بالوعد المقطوع للرئيس، في عام 2009، ووجوب تنفيذه (على الأغلب، لن يبقى السيد غيتس، الجمهوري، في واشنطن حتى ذلك الحين).
تصريحات متناقضة لافتة لحظة تجاوز عدد قتلى القوات الأجنبية بأفغانستان الألفي قتيل؛ وارتفع كذلك عدد القتلى في صفوف المدنيين الأفغان ارتفاعاً شديداً، حسب تقارير الأمم المتحدة، ومعظمهم قتل في الاشتباكات المباشرة (مع أن حلف شمال الأطلسي، سواء بوجود ماك-كريستال سابقاً، أو بترايوس حالياً، يحاول الحد من الضربات الجوية بسبب ارتفاع عدد ضحاياها من المدنيين!).
ومؤخراً، يتخلى الناتو عن مواقعه المتقدمة، وتصعب عليه السيطرة على المناطق التي يستولى عليها من المقاتلين، بسبب إتباع القوى المناوئة التكتيكَ التقليدي المتمثل بالسماح للجيوش الأجنبية باحتلال منطقة ما، ثم التسلل إلى قلب خطوط الناتو، إلى حد مدمر في بعض الأحيان.
وهاهم الهولنديون غادروا قيادة الحلف بسبب اشتداد الضغط الشعبي؛ وحدد الكنديون موعد انسحابهم منها؛ وتتذمر الحكومة البريطانية الجديدة من الأوضاع القائمة. فبالنسبة للحكومات الأوروبية، غدت هذه الحرب عقيمة وضارة سياسياً، ومن المستحيل تحقيق «نصر» فيها. فمن يستسلم لمن؟ من الأفضل ترك الرئيس الأفغاني حامد كرزاي، (الذي سبق له التصريح بأنه يريد خروج المتعاقدين الأجانب قبل نهاية هذا العام)، يتابع مساعي التفاوض مع طالبان، وتشجيع الدول المتأثرة المجاورة لأفغانستان على العمل من أجل تطوير آليات حفظ أمن المنطقة. فأولاً وآخراً، يتعين عليهم، أي الأوروبيين، التعايش مع أفغانستان، بينما الولايات المتحدة تقع في طرف العالم الآخر.
لم تعمل إدارة أوباما على تعزيز الحرب في أفغانستان وإطالة أمدها فقط، بل كذلك أدامت سياسة عسكرة العالم الأكثر رواجاً بين صنّاع السياسة الأمريكية في واشنطن (والديمقراطيون أبرز المتورطين) الذين يطل ممثلوهم، عبر وسائل الإعلام، للإعلان عن لجوئها حديثاً إلى استخدام أسلوب «المبضع» الجراحي بدل «المطرقة». ويعرّفه «جون أو. برينان»، المقدَّم على أنه أهم مستشاري الرئيس لشؤون مكافحة الإرهاب، بأنه برنامج عالمي لاغتيال أفرادٍ تعتبرهم الولايات المتحدة أعداءً لها، ويفترض أن يتأصل مستقبلاً كمكون «متعدد الأهداف» في الحرب الأمريكية الدائمة لتحقيق السلام! ويبدو أن هذا ما يتم تقديمه للمواطنين وتعزيزه لديهم، كفكرة أفضل من فكرة غزو بلد مثل اليمن أو الصومال أو موريتانيا، وقلب أنظمة الحكم فيها، وتنصيب رئيسٍ تابع، وتأسيس ديموقراطية على خراب.
تم تنفيذ واحدة من مهمات الاغتيال السياسي تلك في هجوم ضد «تنظيم القاعدة في اليمن»، وهو التسمية الجديدة لواحدة من العصب المتعددة التي تخوض المعارك الإقليمية والطائفية والقبلية والإيديولوجية في ذلك البلد منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية في عام 1922 (وربما منذ عهد ملكة سبأ في القرن العاشر قبل الميلاد). وعلاوة على قتل العديدين، أدى الهجوم إلى قتل محافظ الإقليم، الذي يحظى بالاحترام العالي والتقدير، أثناء توجهه إلى المسلحين للتفاوض معهم وإقناعهم بوقف القتال. تلقى الرئيس اليمني اللطمة محرجاً واضطر لدفع فدية الدم للقبيلة التي يتحدر منها المحافظ.
وفي كانون الأول الماضي، شُنت غارة أمريكية أخرى «شبه مبضعية» في اليمن، ضد مخيم صحراوي بزعم أنه معسكر لتدريب عناصر تنظيم القاعدة. واستخدمت فيه القنابل العنقودية (المحرمة دولياً، لكن الولايات المتحدة تستخدمها لشدة تأثيرها!). وطال الهجوم مخيماً صحراوياً للبدو في المنطقة. وسرعان ما وصلت صور النساء المقتولات وجثث الأطفال إلى تلفزيون قطر وقناة الجزيرة.
هكذا تجري عمليات بحث أوباما والبنتاغون عن أفضل الوسائل الحربية لنشر الديموقراطية!!