السيناريوهات الكارثية لزيادة الأجور.. والسيناريو المستبعد منها!
تزايد الحديث مؤخراً عن زيادة الأجور، وتكاثرت الآراء حول سيناريوهاتها المتوقعة والمحتملة، بين ضرورات سد الاحتياجات الأساسية لأصحاب الأجور بالحد الأدنى، وهو ضروري ومطلوب وهام بدون أدنى شك، وبين ذرائع الممكنات المتاحة للحكومة لتمويل الزيادة، مع استمرار غض الطرف عن مصادر التمويل الحقيقية، بحال إقرار الزيادة طبعاً!
فهل من الممكن التعويل على الزيادات الطارئة على الأجر، مهما بلغت نسبتها، في ظل الاستمرار بنفس سياسات الإفقار المعمم؟!
فمعدلات التضخم المستمرة بالارتفاع، بالتوازي مع معدلات تراجع القيمة الشرائية لليرة، لوحدها قادرة على ابتلاع أية زيادة، ومع غيرها من نتائج كارثية للسياسات الظالمة والمنحازة لمصالح كبار أصحاب الأرباح، فإن الوضع المعيشي والخدمي لأصحاب الأجور سيتفاقم انحداراً وتدهوراً أكثر فأكثر!
معدلات التضخم الكارثية!
فيما يلي جدول يبين مسارات متغيرات الخطوط البيانية لمعدلات التضخم (العام- ولأسعار المواد الغذائية) المتصاعدة بين أعوام 2005-2021 وذلك استناداً لبيانات المكتب المركزي للإحصاء:
في البداية فإن الجدول أعلاه يوضح الارتباط العضوي بين معدلات التضخم العام، وأثرها المباشر على معدلات تضخم أسعار المواد الغذائية!
فمعدل التضخم في عام 2004 كان قد بلغ 4%، وفي عام 2005 ارتفع إلى 6%، ووصل في عام 2011 إلى نسبة 8%، ثم قفز قفزات تتابعية كبيرة وصولاً إلى 119% في عام 2021 كما هو مبين!
وبحسب وزارة المالية أيضاً، فإن معدل التضخم في عام 2022 كان 100,7%، وفي عام 2023 أصبح 104,7%!
على ذلك، إن معدل التضخم بالأسعار بين عامي 2011-2023 يشير إلى أن الأسعار ارتفعت بما يتجاوز 160 مرة خلاله تقريباً، وهو ما تم تأكيده من قبل بعض الاقتصاديين أيضاً في قراءتهم لبيانات التضخم الرسمية!
مع الأخذ بعين الاعتبار أن الأرقام أعلاه رسمية وتجميلية جداً بالمقارنة مع الواقع الكارثي، وخاصة بانعكاساته المتراكبة والمتشابكة على أصحاب الأجور والغالبية المفقرة!
وكمثال على ذلك: نذكر أنه في عام 2011 كان سعر البيضة الواحدة 2 ليرتان تقريباً، بينما وصل سعرها الآن إلى 1000 ليرة، أي بمعدل ارتفاع 500 مرة، وسعر كيلو السكر كان بحدود 25 ليرة، وأصبح الآن بحدود 8000 ليرة، أي بمعدل ارتفاع 320 مرة، وقس على ذلك من فوارق سعرية تضخمية كبيرة وتوحشية!
فهذه المعدلات التضخمية المرتفعة على الأسعار تم حصادها على شكل أرباح كبيرة وسهلة ومتزايدة لمصلحة وفي جيوب القلة من كبار أصحاب الأرباح المحظيين، مدعومين طبعاً بالسياسات المنحازة لمصلحتهم على طول الخط، ومستفيدين لأبعد الحدود من الحرب والأزمة، مع كل الذرائع المرتبطة بالعقوبات والحصار لزيادة هوامش أرباحهم، وهؤلاء من المساهمين مباشرة بتزايد معدلات تضخم الأسعار منذ عام 2011 كما هو مبين في الجدول اعلاه!
ماذا عن الأجور وتكاليف المعيشة؟
على الرغم من صدور مراسيم تقضي بمنح زيادات على الأجور خلال هذه السنوات، إلا أنها كانت محدودة وأقل بكثير من معدلات التضخم المستمرة بالارتفاع، بل على العكس، فقد ساهمت الزيادات على الأجور بمفاقمة هذه المعدلات، وذلك لأسباب عديدة سنأتي على ذكر بعضها بفقرة لاحقة!
وللمقارنة الرقمية، يوضح الجدول التالي تطور الحد الأدنى للأجور في بعض الأعوام بين 2011- 2023:
الجدول أعلاه، يبين أن الحد الأدنى للأجور زاد بحدود 9,5 مرات فقط بين عامي 2011-2023، بينما ارتفعت الأسعار بمعدل 160 مرة خلال نفس الفترة كما ورد أعلاه!
ولمزيد من المقارنة، نورد فيما يلي جدولاً يتضمن وسطي تكاليف المعيشة لأسرة مكونة من 5 أفراد، بحسب مؤشر قاسيون عن بعض السنوات أيضاً:
الجدول أعلاه، يبين المتغيرات الكبيرة الطارئة على وسطي تكاليف المعيشة، والتي توازي نسبياً متغيرات معدلات التضخم المتزايدة على الأسعار، مع قفزات مضاعفة ومتسارعة زمنياً خلال السنوات القليلة الماضية وحتى الآن، وبالمقارنة مع متغيرات الحد الأدنى للأجور يتبين حجم الكارثية المفروضة على أصحاب الأجور بمعيشتهم وخدماتهم!
حسابات الدخل القومي وحصة الفرد!
فيما يلي، جدول يبين حسابات الدخل القومي وحصة الفرد السنوية منه بالأسعار الجارية، وذلك بحسب بيانات المكتب المركزي للإحصاء:
النظرة الأولية للأرقام أعلاه، تُظهر وكأن الدخل القومي بتزايد، وكذلك حصة الفرد السنوية منه (القريبة من حسابات الحد الأدنى للأجور)، لكن واقع الحال يقول عكس ذلك تماماً، ليس من خلال المقارنة مع بيانات التضخم ومعدلاتها المرتفعة والمعترف بها رسمياً، وليس من خلال اعتماد تعداد سكان تقديري في حسابات حصة الفرد، بل من خلال معيار تغيرات سعر الصرف، الرسمي والموازي، كمؤشر مقارنة يمكن الاتكاء عليه لمعرفة حقيقة هذه الأرقام، ولو بشكل نسبي!
فعلى سبيل المثال: إن سعر الصرف الموازي في عام 1980 كان بحدود 4 ليرات، على ذلك فإن حصة الفرد السنوية وفقاً لهذا المقياس كانت بحدود 1,390 دولار بحينه.
وفي عام 1990 كان سعر الصرف الموازي بحدود 48 ليرة، وبالتالي فإن حصة الفرد تراجعت إلى حدود 431 دولار!
ثم وفي عام 2021 أصبح سعر الصرف الموازي بحدود 3,050 ليرة، وحصة الفرد استكملت تراجعها إلى حدود 350 دولار!
أما الآن، فإن سعر الصرف الموازي أصبح يطرق عتبة الـ 9,000 ليرة، وبالتالي فإن الحد الأدنى للأجور أصبح يعادل 10 دولار فقط لا غير!
المقارنة أعلاه، تبين حجم تراجع حصة الفرد من الناتج القومي عاماً بعد آخر، على عكس ما تصوره الأرقام الرسمية التجميلية، كذلك تبين حجم تراجع القيمة الشرائية لليرة، على اعتبار أن أسعار السلع والخدمات في السوق تعتمد على سعر الصرف الموازي، مع هامش إضافي أيضاً تحت اسم «التحوط»!
أما المُغيب وغير الظاهر طبعاً، لكن تفضحه الأرقام، فهو الانعكاسات السلبية الكبيرة لسياسات تجميد الأجور، ولسياسات تخفيض الإنفاق العام، وتخفيض الدعم، ولتراجع دور الدولة المتتابع والمستمر منذ عقود وحتى الآن، وخاصة على المستوى الاقتصادي الاجتماعي!
سيناريوهات التمويل الكارثية!
جملة الأرقام أعلاه، تشير إلى التراجع الاقتصادي العام، وإلى التدهور المستمر الذي طال الأجور بالتوازي مع معدلات التضخم المتزايدة عاماً بعد آخر، والتي دفع ضريبتها أصحاب الأجور والمفقرون، بدليل ما وصل إليه الفارق الكبير بين وسطي تكاليف المعيشة والحد الأدنى للأجور!
وكي لا نبتعد عن جوهر الحديث، المرتبط بسيناريوهات الزيادة المرتقبة على الأجور، تجدر الإشارة إلى أن ما درجت عليه الحكومة لتغطية هذه الزيادات هو اعتمادها على مصدرين أساسيين لتمويلها، الأول: هو زيادة أسعار المشتقات النفطية (بنزين- مازوت- غاز- فيول)، والثاني: هو تخفيض الدعم، وهذا وذاك يساهم مباشرة بزيادة معدلات التضخم وزيادة في الأسعار، مع الكثير من الانعكاسات السلبية على مجمل الواقع الاقتصادي العام، وخاصة على القطاعات المنتجة!
أما الخيارات الأخرى التي تلجأ إليها الحكومة أيضاً لتمويل موازناتها السنوية، وليس الزيادة على الأجور فقط، فهي إما عبر بيع القطع الأجنبي وهو خيار محدود عادة، أو طرح سندات الخزينة، أو الإصدارات النقدية الجديدة، والتي لا تختلف بنتائجها من حيث درجة السوء بانعكاساتها على معدلات العجز والتضخم، وبالتالي على المستوى المعيشي للغالبية المفقرة، وعلى الأنشطة الاقتصادية عموماً!
يضاف إلى كل ما سبق من مصادر تمويل عمليات الخصخصة والتخلي عن الأصول العامة تحت عناوين الاستثمار والتشاركية، وهو ما يجري عملياً بشكل متتابع وموارب، بشكل مباشر وغير مباشر، وفي الكثير من القطاعات الاقتصادية والخدمية!
مع الأخذ بعين الاعتبار أن جملة مصادر التمويل أعلاه مستنزفة لأقصى الحدود سلفاً، فزيادة أسعار المشتقات النفطية لم تقف وهي مستمرة، وسياسات تخفيض الإنفاق العام والدعم ماضية على قدم وساق نحو إنهائه، وجلسات طرح سندات الخزينة أصبح لها برنامجاً دورياً سنوياً، والإصدارات النقدية متتابعة، فورقة الـ 5000 ليرة تعتبر حديثة نسبياً، ونفي إصدار ورقة الـ 10000 ليرة هو نفي مؤقت، وليس قاطعاً ونهائياً، ومسيرة الخصخصة المباشرة وغير المباشرة ماضية بسلاسة!
في حال كانت الزيادة المرتقبة ستعتمد تغطية تكاليفها على المصادر أعلاه، فإن النتيجة ستكون مزيداً من التردي المعيشي والخدمي، والمزيد من التراجع والتردي الاقتصادي العام من كل بد، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المزيد من استنفاذ المصادر التمويلية أعلاه، وفي أحسن أحوالها، ستكون قادرة على تغطية زيادة جزئية ومحدودة وبنسبة غير مجزية!
السيناريو الأكثر كارثية!
من ضمن السيناريوهات الكارثية المطروحة أيضاً، أن يتم إنهاء كل أشكال الدعم ومطارحه، وتخصيص الاعتمادات السنوية المبوبة باسمه لتغطية تكاليف تمويل الزيادة على الأجور، وهو ما يتم الترويج التسويق له أكثر من غيره، على أنه سيخرج زير الأجور من بئر تضخم الأسعار وعجز التمويل!
السيناريو أعلاه لا يعني إنهاء الدعم كلياً فقط، مع كل الكوارث التي ستنجم عن ذلك وعلى كافة المستويات، بل يعني عملياً استكمال تحرير الأسعار والأسواق، وإنهاء دور الدولة الاقتصادي الاجتماعي في الكثير من القطاعات كلياً، وهو ما تسير عليه السياسات الاقتصادية الليبرالية أصلاً، وما تسعى إليه قوى السوق والسوء بكل طاقاتها وإمكاناتها ونفوذها!
ومع ذلك، فإن هذا السيناريو لن يكون أحسن من سابقاته بكثير على مستوى النسبة المتوقعة للزيادة استناداً إليه، فهي أيضاً محدودة، بل وستكون أكثر عجزاً من ردم الهوة التي ستتركها خلفها على مستوى التضخم في الأسعار، والتراجع في القدرة الشرائية لليرة!
مصادر التمويل الأخرى متاحة.. ولكن!
إن الزيادة المطلوبة يجب أن تؤمن وصول الحد الأدنى للأجور إلى عتبة وسطي تكاليف المعيشة، مع وضع حد لانهيار القيمة الشرائية لليرة، ولمعدلات التضخم بنفس الوقت، وإلا فإنها لن تحقق الجدوى منها!
فزيادة الأجور أصبحت ضرورة ملحة منذ زمن طويل، ليس من أجل تحسين المستوى المعيشي لأصحاب الأجور والمفقرين فقط، بل من أجل إعادة بث الحياة بالأنشطة الاقتصادية، وبالاقتصاد الوطني للبلاد، قبل فوات الأوان وإعلان موته السريري، بل أصبح لزيادة الأجور بعد وطني من أجل الحفاظ على الدولة ومؤسساتها قبل استكمال تهتك بنيانها، نزفاً وتراجعاً وتقويضاً، فمساعي إنهاء دورها وتقويضه تباعاً يسير بهذا الاتجاه، إن لم يتم تدارك ذلك سريعاً!
واختصاراً يمكن القول: إن ذرائع عدم وجود مصادر لتمويل الزيادات إلا من خلال ما سبق شرحه أعلاه من مصادر تضخمية أصبحت ممجوجة وتفضح ما يتم اغفاله عمداً من مصادر تمويل حقيقية متاحة، لكنها لا تتوافق مع السياسات المطبقة، ومع مصالح الطغمة المستفيدة منها، لذلك لا تتوفر النية والقرار بذلك!
وهذه المصادر الحقيقية، التي تعلمها الحكومة والسلطة القائمة على أمر البلاد والعباد، يمكن اختصارها بنقطتين فقط لا غير:
أموال وجيوب وأرصدة وممتلكات كبار أصحاب الأرباح في البلاد، الذين راكموا ثرواتهم الطائلة من خلال سحق المفقرين، واستنفاذ واستهلاك موارد الدولة والاقتصاد الوطني، نهباً وفساداً واستغلالاً ونفوذاً، خلال العقود الماضية، وخاصة خلال سني الحرب والأزمة، سواء الموجودة منها داخل البلاد أو المهربة إلى خارجه!
التركيز الجدي والفعلي على الإنتاج الحقيقي (زراعي- صناعي، عام-خاص)، مع تذليل كل صعوباته ومعيقاته ما يحقق عوائد حقيقية منه تتمثل بالتالي: زيادة الإنتاج- القيمة المضافة- تشغيل أيدٍ عاملة- زيادة معدلات الاستهلاك- زيادة الصادرات- تخفيض المستوردات- تنمية فعلية- معدلات نمو حقيقية...
ومن النقطة الأولى ووصولاً إلى الثانية، كسيناريو متاح ومستبعد، يعني إنهاء كل السياسات الظالمة والمنحازة، التي أدت إلى كل ما نحن فيه من كوارث وأزمات وموبقات، جملة وتفصيلاً، مع المستفيدين منها جوراً وتوحشاً، أي التغيير الجذري والعميق والشامل، لمصلحة البلاد والعباد!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1127