أول الغيث (قسائم): فلاش باك في تجربة (البونات) السوريَّة... المازوت المدعوم بديلاً عن زيت القلي

لم تفهم جارتنا لتاريخه نظرية الحكومة الجديدة بتوزيع المازوت المدعوم بالقسائم، سألت باندهاش: «يعني مثل السكر والرز»؟

حالتها تشبه حالة كل السوريين، الذين ولأيام قليلة لم يكونوا على يقين بالتجربة، بل وتناقلوا إشاعات عن عزم الحكومة التخلي عن الفكرة، إلا أن الأمور قد حسمت حالياً لصالح نظرية الفريق الاقتصادي، فقد أصدر وزير الداخلية تعليماته بهذا الشأن: 

«بإمكان الأخوة المواطنين مراجعة مراكز توزيع قسائم مادة المازوت المدعوم الموجودة في مراكز المحافظات والمناطق والقرى والبلدات اعتبارا من 12-4-2008 ولمدة 15 يوماً، لاستلام قسائمهم، علماً أنه يحق لرب الأسرة الحصول على هذه القسائم من أي مركز بغض النظر عن مكان قيده بعد اصطحابه البطاقة العائلية والبطاقة الشخصية الحديثة...».

وبين الوزير أنه بإمكان أرباب الأسر من العاملين في الدولة استلام قسائمهم من محاسبي الإدارات التي يعملون بها.

إذاً الأمر حسم، وعلى المواطنين اصطحاب وثائقهم والتجمع أمام مراكز توزيع القسائم، ثم البدء بمرحلة جديدة من التذكر، فلاش باك مفترض عن حالة عشناها ذات يوم مضى.

ثلاثي الانتظار

كما كل سكان العالم الثالث الذي عاش برعاية الدولة، وعلى هدهدة حضنها، عاش السوريون على بونات الحكومة، في أول الشهر وحين يدور الرقم على صفحة الدفتر يذهبون إلى المؤسسات، يصطفون كتلاميذ درس الفتوة، يمدون أكياس (الجنفيص)، وأوعية الزيت (حينها كانت الحكومة توزع زيت القلي)، ثم يعودون فرحين بما أوتوا من رزق وفير.

كان ثلاثي الانتظار (السكر، الرز، الزيت) كل ما يمكن أن يحلم به أي مواطن. كان للانتظار متعة نيل المراد، نادراً ما كانت تتأخر الإمدادات الحكومية، كان تصالحاً دون شك، حتى بدأ العد العكسي لمسلسل سحب الثدي من فم الرضيع.

الزيت كان أول مادة سحبت من دفتر البونات، ثم بدأ الرز يأخذ شكلين: الإيطالي تارة، والمصري تارة أخرى، وانقسمت أذواقنا نصفين (مصري وإيطالي)، ثم بونات كل ثلاثة أشهر، وارتفع السعر المدعوم أكثر من مرة.. هكذا صار الزيت خارج الدعم. 

الزيت البديل

ظل المازوت والخبز المادتين الأكثر حذراً في التعامل معهما من كل الحكومات المتعاقبة، المادتين الأكثر التصاقاً بأفواه الجماهير، لم يتجرأ أحد على اتخاذ إجراء يخرجهما من دائرة الدعم، الخبز لتاريخه لم يزل صامداً رغم النذر الخطيرة..

المادة الثانية المقدسة عصفت بها رياح الفريق الاقتصادي الذي رفع شعار رفع الدعم عن الأساسيات التي تثقل كاهل الخزينة السورية، وبالتالي القدرة على إعادة توزيع الدعم على بقية القطاعات، والإبقاء كما التوجه الحالي على دعم مجزوء للدعم، رويداً لإخراجه منه.

إذن حل زيت بزيت، المازوت بدل الزيت المقلي، وسيكون لدى المواطن السوري دفتر جديد، مرقم ويتسع لألف لتر لكل عائلة، حل محله رغم كل المراوغات، والتأجيل، والإشاعات، والحديث عن بدائل، ونوايا حسنة، مرة نقدية، ومرة حسب عدد أفراد العائلة، ومنعاً للتهريب في أقصى الحجج.

 أزمات مفتعلة

«أزمة مفتعلة...» هكذا صرح بعض المسؤولين الحكوميين، تراصف السوريون في عز البرد طوابير أمام محطات الوقود، بكل ما فيهم من فقر، كالونات بكل المقاييس، الركض وراء أصحاب الصهاريج، تعليمات من محروقات بعدم ملء أكثر من 150 لتراً لكل شخص، ثم تسليم مهمة وضع دور للمواطنين لقيادات المناطق، ثم حلحلة الأزمة وإغلاق مئات المحطات المخالفة، المحطات التي استغلت المواطن إذلالاً وسرقة، الإذلال حين وقف على أبوابها مستجدياً في مساءات كثيرة باردة (خمسة) لترات، وسرقة عندما لعب أكثرهم بالمقاييس، عدلوا عداداتهم، وبعضهم باعه مازوتاً مخلوطاً بالماء.

جاء الدفء لينقذ المواطن من تحكم المستفيدين، لكن الأزمة لم تنته كما قالت التصريحات، ما زال سائقو السرافيس والنقل العام، يدورون من محطة لأخرى ليتسنى لهم العمل في اليوم التالي، بعضهم تحدث عن ساعات طويلة من الانتظار والعودة بخفي حنين.

أزمات منعكسة

الأزمة المفتعلة، ولدت أزمات، منها الاقتصادي وآخر اجتماعي، كلها وقعت على رأس الأعزل من كل دعم.

الاقتصادي: بكل بساطة كل الإشاعات وعدم القرار، استفاد منها فقط ضعاف النفوس، الذين يعتاشون على اقتصاد الأزمات، اقتصاد الإشاعات، زادت كل أسعار المواد الغذائية والألبسة والخضراوات، والكل على لسانه: إذا زاد سعر المازوت زادت أسعار كل المواد، لقد احترق السوق، دون سبب مقنع، الناس مدهوشون من التخلي وعدم المبالاة التي أبدتها الحكومة تجاه أزماتهم، رغم تصريحاتها عن التدخل في حال وقوع الأزمات.

في الجانب الآخر  -الاجتماعي - وقع الناس ضحية الأسعار التي ترتفع كل يوم، الطوابير الطويلة لمنتظري كالون المازوت تتدافع، السوق السوداء اشتعلت فيما بينهم، أزمة ثقة بين المستهلك والبائع.. الأدهى استغلال الحاجة بوسائل جديدة للغش.

قسمة غير عادلة

كيف قرر من قرر، الكمية، ألف لتر لكل عائلة سورية، سواء من زوج وزوجة أو من عشرة أشخاص؟؟ هل أخذ من قرر، الوضع البيئي للسكان، هل يمكن أن تكون حصة ابن دمشق كحصة ابن جبل الشيخ؟

أصحاب سيارات النقل العام الذين لن يشملهم الدعم، وسيشترون بالسعر غير المدعوم كيف ستحدد تعرفة الركوب معهم؟

المواطن الذي سيزداد سعر النقل عليه، الخضراوات، المواد الغذائية، كل السلع التي سيشتريها، كيف سيتدبر حاجياته في ظل الجنون الذي ينتاب السوق، والأجور الضئيلة التي يتقاضاها؟

أسئلة لا يعرف أحد أن يجيب عليها، الخطوة كانت تحتاج إلى خطوات أخرى، زيادة مجزية كما قال رئيس الحكومة، منع الاحتكار فعلاً لا قولاً، الزج بالغشاشين، المحتكرين، المتلاعبين بالأسعار في السجون، لا فرض غرامات قادرين على دفعها ببساطة؟

العظة من السابقين

 ترى ما هي الآلية التي سوف تتبعها الدولة في تنظيم توزيع القسائم وتحويلها إلى سائل يحترق ويدفئ؟ 

ما الآلية في تنظيم الطوابير التي سوف يدفعها البرد للتزود بالوقود، خصوصاً أن سعر المدعوم الجديد سيزداد بعد دعمه، من 7 ليرات إلى 9 ليرات، والمدعومون أصحاب الدخل المحدود سيحاولون بعصر الروح أن يؤمنوا ثمن دفعة منه؟

في التجارب السابقة مع المدعوم كالسكر والرز، كانت النتائج سلبية بالتعاقب الزمني غير المديد، كذلك استغلال الأزمات من الكثير من المتضررين، الذين صفوا حساباتهم مع متضررين مثلهم.

سائق التاكسي المتضرر من زيادة البنزين صار يرفع إكراميته من 5 ليرات إلى 20 ليرة، أو يجيب (لا يوجد فراطة) أو (العداد عاطل).

هل سيذهب المواطن إلى المحطة ويضع قسيمته في الدور الذي يمكن أن يصل إليه في الصيف؟

أم أن المواطن سيسلم مصيره إلى أصحاب الصهاريج وموزعي المازوت ليضيفوا رقماً جديداً يدفعه فوق الدعم؟

 سكر أبيض وكبريت

ما يجري في مجمع قطنا الاستهلاكي عظة للمرحلة القادمة، من أول الشهر الحالي يتبع المسؤولون في المجمع سياسة جديدة لبيع ما كسد من بضائعهم، وهذا يجري في أماكن عدة.

 إذا أردت أن تحصل على سكر أبيض ناصع يجب أن تشتري معه دون أن تناقش 3 دزينات من الكبريت أو أقلام الرصاص ماركة النسر، وبسعر 50 ليرة.

تقول مواطنة: سعر علبة أقلام الرصاص 13,5 ليرة، و3 علب سعرها 40,50 ولكن المحاسبة تأخذ 50 ليرة، وعندما تطالبها بالبقية لا ترد.

السؤال الذي يطرحه بعض من شهدوا القصة بتهكم: ترى ما الذي سيبيعونه لنا مع المازوت؟

رد آخر ضاحكاً: حلاوة.

 متشائلون

ليست هناك رؤى حقيقية للمشروع القسائمي لدى الناس، جارتي على الأغلب، لم تفهم شيئاً، أما بعض من استشرناهم فتحدثوا متكهنين، متهكمين.

- مواطن: صرنا حقل تجارب للحكومة، كيف ستضبط الأمر؟

- مواطن: سوف يبيع البعض القسائم كما يبيع قسائم الرز والسكر.

- مواطن: سوف يتحكم بنا صاحب الكازية، كمسؤول المؤسسة سابقاً.

- مواطن: لا أعرف

- مواطن: من دون زيادة أجور لن نستطيع شراء المازوت، نسرق كهرباء و...

- مواطن: حل عني!!

بعض المواطنين شككوا في نجاح التجربة ولديهم أمل في أن تعدل الحكومة عن مشروعها، حتى لو وزعت القسائم.

المتشائمون قالوا: الحكومة بمشروعها تأخذنا نحو الهلاك، سنزداد جوعاً، تشرداً، مدعوم أو غير مدعوم لن نتمكن من شرائه.

- سوف يأتي من يستغلنا، في البلد محترفون باستغلال الأزمات.

صورة وسيناريو

الذي سيحصل يرويه مواطن.. «في شباط القادم سوف تحصل أزمة مازوت، بسبب التهريب أو سواه، ارتفاع السعر العالمي، انخفاض عملة رئيسية..الخ.

سوف نعود طوابير كما كنا، بدل الكالونات سنلوح بالقسائم، بعضنا سيركض وراء قسيمته التي طارت بفعل الريح الشديدة،.. من الخلف يأتي السماسرة ويعرضون على المواطنين البدائل.

هل تبيع القسيمة؟ هل تأخذ بدل 200 لتر (القسيمة الواحدة) 150 لتراً، مفاوضات تبدأ في السر.. ثم تصبح علنية.

صاحب الصهريج المحلي سوف يذهب معك إلى المنزل، ويغش في العداد، يفاوضك بدل أجره 30 لتراً على سبيل المثال.

أما العنيد الذي يثق بالدور والنظام، سيبقى في طابور طويل ملوحاً بقسيمته.

 قبل التوزيع

قبل 12/4/2008 ما زالت الأسعار في صعود مستمر، دون سبب وصل سعر كيلو البندورة إلى 50 ليرة، كيلو الرز إلى 55 ليرة، طن الاسمنت إلى 50 ألف ليرة، الفاصولياء إلى 140 ليرة، اللبن إلى 30 ليرة، الحمص إلى 100 ليرة، الفول إلى 60 ليرة..الخ.

قبل 12/4/2008 ما زال المازوت في حالة فقدان، السيارات العامة تدور دون طائل بحثاً عنه، التموين يتحدث عن إغلاقات للمحطات، الأسباب نقص الكيل في الأغلب، الغش من خلال خلط المازوت بالماء.

قبل 12/4/2008 البنزين من المرجح حسب الجماهير ومصادرها أن يرتفع إلى 1050 ليرة للصفيحة، وسائق العمومي يبتز المواطن للسبب نفسه، وتجار السيارات يتوقعون هبوطاً في أسعار السيارات ذات الاستطاعات الضعيفة.

بعد التوزيع

السيناريو مفتوح على كل الاحتمالات، إذا زادت الدولة الأجور أو طنشت، الأسعار ستزداد، الاحتكار سيجد مخرجاً جديداً وطريقة جديدة للتعامل مع الوضع الجديد، المواطن سيبقى الحلقة الأضعف، القسائم سيكون مصيرها مصير القسائم التي سبقتها إن لم يكن أسوأ.

في المحصلة

فعلها الفريق الاقتصادي، وبقي من المادتين المقدستين (الخبز)، خطوة جديدة باتجاه الفطام غير الشرعي للمواطن، فرصة أكيدة لشرائح ستستفيد من التجربة، فرصة لاصطفاف جديد في طابور سيتهالك من التلويح بقسيمة.

جارتي لم تفهم بعد كيف يصير المازوت على (البون) مثل زيت القلي...