سلة الغذاء السورية بين إهمال الحكومة وتقلبات المناخ إصابة أكثر من 190 ألف هكتار من حقول القمح بالصدأ الفطري
يعد القمح من الزراعات الإستراتيجية الهامة في سورية، وركيزة أساسية في البنية الهيكلية للاقتصاد الوطني، والدعامة الكبرى في حفظ الأمن الغذائي والسلة المعيشية اليومية للمواطن السوري، وهو المورد الأهم في الحياة المعيشية للمواطنين في جميع المناطق الشرقية والوسطى والشمالية والجنوبية. هذا الكنز تحول فجأة إلى مأساة حقيقية للكثير من المزارعين، وتحولت فرحتهم ومسراتهم إلى حسرات وهم يراقبون محاصيلهم من الذهب الأصفر يتحول لونها إلى البرتقالي أو الأبيض نتيجة مرض الصدأ الذي أخذ يجتاح حقول القمح دون رحمة ودون رادع.
كانت المؤسسة العامة لتسويق وتخزين الحبوب قد تسلمت في محصول عام 2009 من القمح نحو 2.7 مليون طن، بزيادة حوالي 3 أضعاف عن محصول عام 2008، الذي تراجع فيه إنتاج سورية من القمح بسبب السياسات والممارسات الحكومية غير الداعمة للفلاحين، إلى حد اضطرارها إلى استيراد هذه المادة الإستراتيجية لأول مرة منذ 15 عاماً، بعد تفريطها بالمخزون الاستراتيجي، وعدم الاكتراث بأهم مقومات الأمن الغذائي، حيث يعد القمح ليس محصولاً استراتيجياً فقط، بل ومصدراً للقطع الأجنبي وداعماً للاقتصاد الوطني، وقد حققت سورية الاكتفاء الذاتي مع مخزون هام منذ ثمانينيات القرن الماضي، وأصبحت من الدول المصدرة منذ عام 1994، وتشتهر سورية بإنتاج الأقماح القاسية ذات الجودة العالية.
أضرار في الرقة بدايةً
يتعرض هذا المحصول الاستراتيجي الهام في هذا الموسم إلى خطر كبير، متمثلاً بمرض الصدأ الذي يؤثر كثيراً بكمية الإنتاج ونوعية المنتوج، وقد أكدت مصادر في وزارة الزراعة إصابة 75 ألف هكتار من حقول القمح في الرقة وحدها بهذا المرض، وأكدت تجربة حقلٍٍ اختباري للقمح الطري في مركز البحوث العلمية الزراعية بالرقة، أن هناك تفاوتاً في الإصابة عند مختلف الأصناف:
فقد كانت الإصابة في صنف سلالة بحوث 8 قد وصلت إلى 53%، بينما وصلت الإصابة في صنف شام 10 إلى 70%، وكانت الإصابة الأخطر في سلالات بحوث 4و6و8، ودوما 2 ودوما 4 ودوما 42828 وجولان 2 وأكساد 981، حيث وصلت الإصابة إلى 76%، بينما نادراً ما يلاحظ وجود الصدأ على الأقماح القاسية.
محافظة الحسكة الأكثر تضرراً
يقول الفلاحون إن عدداً كبيراً من حقول القمح في محافظة الحسكة قد أصيب هذا العام بمرض الصدأ حيث يتحول النبات من اللون الأخضر الزاهي إلى اللون الأصفر البرتقالي، والذين يدخلون هذه الحقول تصطبغ ثيابهم وأحذيتهم بهذا اللون، كما أصيبت مساحات من الحقول المزروعة بالشعير بمرض يشبه الفطور، وقد بلغت المساحة المصابة بمرض الصدأ في المحافظة حوالي 89 ألف هكتار، بعد أن استبشر الفلاحون خيراً هذا الموسم بالأمطار الجيدة التي عمت المحافظة، وكان الفلاحون ينتظرون بفارغ الصبر نضج المحاصيل علهم يعوِّضون الخسارات التي أصابتهم في المواسم الماضية، ولكنهم فوجئوا بتلك الأمراض تصيب حقولهم وتهدد محاصيلهم، فبادروا لإبلاغ الجهات المعنية بالمشكلة، ولاسيما مديرية الزراعة والإصلاح الزراعي بالحسكة، ولكن حتى الآن لم يروا حلولاً ولا معالجات على أرض الواقع للحد من هذه المأساة، الأمر الذي أدخل الفلاحين في دوامة القلق، خاصة وأن المساحات المصابة آخذة بالازدياد يوماً بعد آخر، وبحسب التقارير فإن منطقة رأس العين هي الأكثر تضرراً.
المنطقة الوسطى ليست أحسن حالاً
اجتاح مرض الصدأ أكثر من 3200 هكتار من محصول القمح في منطقتي بيوض الشرقية وصوران في محافظة حماة، ما يهدد بشكل خطير إنتاج المحافظة من القمح وتدني سويته، ولم يكن قمح منطقة الغاب أحسن حالاً من منطقتي بيوض وصوران، فقد وصلت نسبة الإصابات في منطقة الغاب بين 10 ـ 50%/، وتختلف من حقل إلى آخر، فيما تؤكد مصادر زراعية في الغاب أن الأمراض العفنية تصيب الأوراق والساق، وقد تنتقل إلى السنابل وهنا تمكن الخطورة البالغة، وتجدر الإشارة إلى أن المساحات التي طالها هذا المرض غير ثابتة حتى الآن، وأن قسماً كبيراً من وسط الغاب وشماله قد طاله المرض، وإذا استمر الوضع على هذه الوتيرة فقد يؤثر هذا بشكل خطير على حجم الحبوب وتطورها، واللافت في الأمر أن المساحات المصابة منها ما هو مروي ومنها البعلي، وهذا ما يدحض بعض التبريرات التي يسوقها المعنيون بأن الرطوبة هي سبب التعفن الفطري أو الصدأ.
محصول هام وواقع خطير
للوقوف على تفاصيل الموضوع عن كثب، والبحث عن حلول إسعافية مستدامة، أجرينا عدداً من اللقاءات مع المعنيين من فلاحين ومسؤولين، وقد أجمعوا على خطورة الموقف، ما يتطلب التحرك العاجل والجاد لوضع الحلول المستقبلية:
رئيس دائرة وقاية المزروعات المهندس فهر المشرف أوضح أن المساحة الإجمالية المصابة وصلت إلى أكثر من 190 ألف هكتار، وللملاحظة فإن هذا الرقم قبل كتابة الموضوع بساعات ولا ندري بعده الرقم الحقيقي، متركزة في المناطق الغربية من محافظة الرقة ومناطق أخرى متفرقة، منوهاً أن الإصابات طالت بشكل أوسع أصناف الأقماح الطرية، وبالأخص (شام 8) الذي أبدى حساسية أكثر للمرض، فيما كانت الأصناف القاسية مقاومة أكثر، وقد تم تشكيل لجان في المصالح الزراعية ودائرة الوقاية والبحوث العلمية، جالت على مناطق الحقول المصابة بهدف دراسة الوضع على أرض الواقع، وتم توجيه المزارعين بتنظيم السقاية والتخفيف من استخدام السماد وخصوصاً الآزوتي، وعدم استخدام المبيدات الكيماوية لعدم جدواها.
وأضاف المشرف أن الأصداء هي أمراض فطرية خطيرة تصيب محاصيل نجيلية مختلفة مثل القمح والشعير، والأصداء على القمح ثلاثة أنواع تختلف حسب الفطر المسبب وموقع وشكل الإصابة، والظروف المناخية لكل منها، وقد توجد إصابة مختلطة بأكثر من نوع معاً ومنها:
ـ صدأ الأوراق: ويظهر على الأوراق فقط، وهو الأكثر شيوعاً في جميع المناطق التي يزرع فيها القمح، وتؤدي العدوى منه إلى انخفاض المحصول بنسبة تصل إلى أكثر من 20% بسبب موت الأوراق وانكماش الحبوب وينتشر عبر الهواء الحامل للأبواغ، وتتطلب عملية الإنبات إلى رطوبة جوية عالية، المثلى 100%، ودرجة الحرارة المثلى للإنبات تتراوح بين 15° ـ 25°.
- الصدأ الأصفر: وهو بثرات مبعثرة غير متلاصقة وذات شكل شبه دائري ينتشر على الأجزاء الخضرية من النبات عدا الساق، وهو الأكثر خطورة في منطقتنا ويؤدي إلى انخفاض مهم في الغلة.
- صدأ الساق: ينتشر على كل الأجزاء الخضرية من النبات ويحدث ضرراً لا يقل عن غيره في كمية الإنتاج.
الرطوبة سببه والمكافحة غير مضمونة النتائج
يتطلب تطور الإصابة عموماً وجود مسبب المرض وتوفر الرطوبة العالية التي تؤمن طبقة خفيفة من الماء الحر على سطح النبات (لإنبات ودخول أنبوب العدوى إلى النسيج النباتي) ويساعد ذلك حسب تقرير من الجهات المعنية وجود الندى أثناء الليل وفي الصباح الباكر، كما أن لدرجة الحرارة دوراً مهماً في حدوث الإصابة ولكل نوع من أنواع الصدأ درجة حرارة مفضلة: صدأ الأوراق 18° ـ 22°، صدأ الساق 25° ـ 35°، الصدأ الأصفر الذي أصاب حقول الشعير 10° ـ 15°، وهنا يلعب الفرق الواسع بين درجات الحرارة في الليل والنهار دوراً كبيراً في حدوث الإصابة، وبذلك فإن الإصابة تحدث تبعاً للظروف المناخية وتتغير نتيجة لذلك مواعيد ومناطق حدوثها والنوع السائد من الأصداء، ويساعد على الانتشار الإسراف في التسميد الآزوتي من قبل الفلاح وأيضاً الزراعة المبكرة، فالقمح أكبر من عمره الافتراضي بـ40 يوماً، ما يجعل المحصول في خطر في حال تعرضه للصقيع في مرحلة الإزهار، ومن الوارد حدوث بعض موجات صقيع .
يضيف مصدر مطلع: إن الوزارة متابعة للموضوع على كل المستويات وهناك زيارات للحقول المصابة، لكن لا نتائج مضمونة في حال المكافحة بالمبيدات التي ستكون خسارة إضافية للفلاح، مادامت الظروف ملائمة للفطريات، أما في حال ارتفعت الحرارة مع بقاء السنبلة سليمة وعدم إصابة الورقة العَلَمية حولها بالصدأ فستكون الخسائر وسطية.
- خضر المحيسن رئيس اتحاد الفلاحين في الحسكة، قال إن الإصابة موجودة وإن الجهود المبذولة في حل المشكلة مازالت دون المستوى المطلوب، وحول السؤال عمَّا يقال إن الأمطار والرطوبة الزائدة هي سبب هذا المرض، قال: إن موسم عام 1988 كان مشابهاً لهذا العام من حيث غزارة المطر، إلا أنه لم يصب القمح بأي مرض، فنحن نرى هذا المرض لأول مرة في حقولنا، وإننا ننتظر من مصلحة الزراعة والوحدات الإرشادية توجيهات وإرشادات لمكافحة المرض قبل أن يستفحل. وفي حال أصبحت الخسائر قاتلة ومهلكة للمحصول، نطالب بإعفاء الديون المترتبة على هذا المحصول وتعويض الفلاحين، بالإضافة لتأمين وسائل المكافحة للمستقبل في حال تعرضت المحاصيل لمثل هذه الأمراض، وإلا فمن أين سيسدد الفلاحون ديونهم؟ وكيف سيأكلون ويصرفون على زراعة المحصول الصيفي، إن صدقت مخاوفهم وأفنى مرض الأصداء محصولهم؟!
ماذا بعد؟!
بلغت المساحات المصابة بهذا المرض في المناطق الشمالية والوسطى والشرقية حوالي 190 ألف هكتار من القمح المروي و40 ألف هكتار من القمح البعلي، وتشكل بمجموعها أكثر من 12% من إجمالي المساحات المزروعة بالقمح والبالغة 1.6 مليون هكتار، وتتوقع التقارير المختصة أن يتوقف نشاط المرض عند ارتفاع درجات الحرارة ليلاً عن 15° م ونهاراً عن 25° م، فهل يكفي أن تعتمد الحكومة على تحسن حالة المناخ لمكافحة هذا المرض؟!
يجب العمل على اتخاذ إجراءات عملية عاجلة لمعالجة الحقول المصابة وإنقاذ المحصول، واتخاذ جميع التدابير اللازمة لعدم تعرض هذا المحصول الهام لمثل هكذا جوائح في المستقبل، يجب إجراء الدراسات والبحوث على أنواع البذار وتقييم الأصناف الطرية والقاسية من حيث الحساسية لمرض الصدأ، وتنويع الأصناف المزروعة في المنطقة الواحدة وتوعية الفلاحين عن طريق الإرشاد الزراعي بضرورة إتباع الأساليب الزراعية المناسبة، وخاصة معدلات البذار والري والتسميد.
هل ستبقى العوامل الجوية والظروف المناخية حجة لكل مشاكلنا الزراعية؟! لابد من المتابعة الجادة وتقييم الوضع بكل تفاصيله وبكل موضوعية وواقعية، والعمل على اتخاذ الإجراءات لإنهاء هذه المعضلة، لما لها من أثر سيء على الفلاح والوطن معاً!!