المنطقة الصفراء الاختبار الأصعب لوقف إطلاق النار
بدأت أزمة أنفاق رفح في قطاع غزَّة مع دخول وقف إطلاق النار حيِّز التنفيذ في تشرين الأوَّل الفائت، حيث عَلِقَ ما يُقدَّر بـ 200 مدنيٍّ فلسطينيٍّ في منطقةٍ بحي الجنينة شرق رفح، التي تسيطر عليها قوَّات الاحتلال، في الوقت الذي تسعى فيه المقاومة إلى نقلهم إلى الجانب الفلسطينيِّ من الخطِّ الأصفر ضمن ترتيبات وقف إطلاق النار المرحليِّ، تصرُّ «إسرائيل» على أنَّهم مقاتلون في المقاومة، وهو ما فجَّر انقسامًا حادًّا داخل الإدارة حول كيفيَّة حلِّ هذه الأزمة.
وبذلك تحوَّل الخطُّ الأصفر من ترسيمٍ حدوديٍّ مؤقَّتٍ، إلى واقعٍ ميدانيٍّ وسياسيٍّ بعد إعلان وقف إطلاق النار في غزة، إذ يمتدُّ على طول القطاع، وتتموضع قوَّات الاحتلال شرقه للتضييق على سكَّان القطاع وتقليص المساحات الصالحة للسكن، التي تقدَّر بـ 9% من إجمالي مساحة القطاع. لكن عند النظر إلى دوره في السياق التفاوضيِّ الأوسع، فإنَّ قضيَّة المدنيِّين العالقين فيه ترتبط بتقدُّم عمليَّة وقف إطلاق النار، التي تواجه عقباتٍ جمَّة في الداخل الإسرائيليِّ المنقسم على نفسه بين الإدارتين السياسيَّة والعسكريَّة، وفي الخارج حيث الضغوط الدوليَّة على الكيان لإتمام الاتفاق.
أبعاد المقترح الأمريكيِّ
وفق «يديعوت أحرونوت» عن مصدرٍ في «الكابينت»، إنَّ لقاء نتنياهو وكوشنر هدف للتوصُّل إلى تسويةٍ تقضي بترحيل من تَعُدُّهم «مقاتلي كتائب القسام» إلى دولةٍ ثالثةٍ. فيما نقلت القناة 12 الإسرائيليَّة، أنَّ واشنطن تعرض على «إسرائيل» إتاحة خروج «مقاتلي حماس» من الأنفاق مقابل تسليم أسلحتهم لطرفٍ ثالثٍ (مصر أو تركيا أو قطر) والعفو عنهم بشروطٍ بعد مشاوراتٍ مطوَّلةٍ مع الجانب الأمريكيِّ وقادة الأجهزة الأمنيَّة.
لكنَّ هذه المقترحات واجهت عقبتين رئيسيَّتين، العقبة الأولى عدم توافق أيِّ دولةٍ حتَّى الآن على استقبال المحتجزين، ما يجعل جانبًا رئيسيًّا من الاتفاق عالقًا. العقبة الثانية في صعوبة التواصل معهم، إذ أشارت تقارير إلى أنَّهم «غير مطلعين أو لم يتم التواصل معهم بشأن وقف إطلاق النار»، ممَّا يزيد من صعوبة تنفيذ أيِّ اتفاقٍ.
وفقًا لتقارير إعلاميَّةٍ إسرائيليَّةٍ وعربيَّة، يكمن المأزق في قضيَّة المحتجزين في أنفاق رفح في الموقف الإسرائيليِّ الداخليِّ المنقسم، والضغوط الأمريكيَّة للحفاظ على وقف إطلاق النار، والرفض القاطع من حماس لفكرة الاستسلام مؤكِّدةً في بيانٍ لها أنَّ «إسرائيل تتحمَّل المسؤوليَّة الكاملة عن الالتحام مع مجاهدينا في رفح الذين يدافعون عن أنفسهم داخل منطقةٍ خاضعةٍ لسيطرته»، ما أوجد حالةً من الجمود تحيط بمصير ما يُقدَّر بـ200 مدنيٍّ.
وتكشف هذه الخطوة عن حاجة «إسرائيل» للغطاء الأمريكيِّ في معالجة هذه القضيَّة، لا سيَّما في ظلِّ التحذيرات الأمنيَّة الإسرائيليَّة من أنَّ الضغوط ستنتقل إلى «إسرائيل» بمجرَّد أن تُعِيدَ حماس جميع المختطفين، إذ ستطالبها الولايات المتحدة والوسطاء الآخرون بالانسحاب من الأراضي الفلسطينيَّة والسماح ببدء إعادة إعمار القطاع.
المأزق الصعب
هذا الواقع وضع الإدارة الإسرائيليَّة أمام خيارين سيِّئين، إمَّا خوض مواجهةٍ عسكريَّةٍ محفوفةٍ بالمخاطر مع ما قد تسبِّبه من انهيارٍ لوقف إطلاق النار، أو قبول حلٍّ تفاوضيٍّ يظهر ضعف الحكومة الإسرائيليَّة. ما يبرز فجوة التنسيق الداخليِّ، إذ يتصادم التوجُّه الأمنيُّ المتشدِّد مع السياسيِّ الأكثر مرونةً تحت الضغط الأمريكيِّ.
إذ كشفت تقارير إخباريَّة إسرائيليَّة عدَّة عمق الخلافات الداخليَّة حول كيفيَّة التعامل مع هذا الملف، وأبرزت الانقسام الحادَّ والضغط السياسيِّ الداخليِّ، لا سيَّما ضغوط الائتلاف الحاكم على الحكومة، فوفق ما أوردت «يديعوت أحرونوت» أوصى رئيس الأركان الجنرال «زامير» برفض أيَّ صفقة تخصُّ المحتجزين، بل هم أمام خيارين «إمَّا أن يُقضى عليهم أو يُستسلمون ويُحالون للتحقيق»، وهدَّد وزير الأمن القومي «بن غفير» بتفكيك الحكومة إذا سمحت باستمرار حكم «حماس»، في حين وصف وزير المالية «سموتريتش» أيَّ موافقةٍ على السماح بخروج المقاتلين بأنَّها «حماقةٌ أمنيَّةٌ وأخلاقيَّةٌ».
على المقلب الآخر قالت المتحدثة باسم رئيس الوزراء «بدروسيان» إنَّ أيَّ قرارٍ بشأن المقاتلين العالقين «سيُتخذ بالتعاون مع إدارة ترامب»، ويرى آخرون أنَّ الحلَّ الأنسب ترحيلهم أو السماح باستسلامهم بشروطٍ محدَّدةٍ، وهو ما يتقاطع مع المقترح الأمريكي، ما يظهر تباينًا فاقعًا بين المؤسَّستين العسكريَّة والسياسيَّة.
المفارقة هنا في ارتباط هذه القضيَّة بملف الرهائن يضيف عاملًا معقِّدًا، إذ يستخدمه الجيش الإسرائيليُّ كذريعةٍ للضغط من أجل تبنِّي خيارٍ عسكريٍّ، وفي الوقت نفسه تمتنع عن اتخاذ أي خطوةٍ اتجاهه لضمان عودة جثَّة الجندي «هدار غولدن»، الذي عُثِرَ على رفاته في نفقٍ برفح من جهةٍ، وضغوط الوسطاء وتحذيرهم لها من انهيار وقف إطلاق النار.
أبعاد المأزق وتداعياته
المأزق الإسرائيلي لا ينبع فقط من التعقيدات الميدانيَّة فحسب، بل من تداخل أبعادٍ استراتيجيَّةٍ داخليَّةٍ وخارجيَّةٍ عدَّةٍ: محاولة الجيش الإسرائيليُّ حلَّ المعضلة الأمنيَّة والسياسيَّة والالتفاف عليهما بتقديم تفسيرٍ مغايرٍ لبنود وقف إطلاق النار، يمنحه حريَّة التصرُّف العسكريِّ داخل «المنطقة الصفراء» بذريعة ملاحقة ما يسمَّى «جيوب حماس». ويرى محلِّلون أنَّ هذا يسعى لخلق «مرحلةٍ رماديَّةٍ» ليست حربًا كاملةً ولا سلامًا، ما يمكِّن «إسرائيل» من مواصلة عمليَّاتها اليوميَّة المحدودة مع تجنُّب الانسحاب الكامل.
من ناحيةٍ، تواجه «إسرائيل» إدانةً ودعواتٍ دوليَّةً واضحةً، لخططها بالتوسُّع العسكريِّ وعدِّها انتهاكًا للقانون الدوليِّ. ومن ناحيةٍ أخرى فإنَّ تعثُّر المرحلة الثانية من خطَّة ترامب، التي تنصُّ على انسحابٍ إسرائيليٍّ تدريجيٍّ، ونشر قوَّةٍ أمنيَّةٍ دوليَّةٍ قد يمنح الحكومة الإسرائيليَّة ذريعةً للبقاء والالتفاف على الالتزامات. ما يسوِّغ المخاوف من تداعيات الترسيم، وفق ما أوردت صحيفة هآرتس عن خشيةٍ في داخل «إسرائيل» تحوُّل «الخطُّ الأصفر» إلى نسخةٍ من الخط الأخضر» في الضفة الغربيَّة، ما يعني تقسيمًا دائمًا لقطاع غزة، وتقليصًا جذريًّا لمساحته. وهذا يحقِّق أطماع التيَّارات المتطرِّفة في الحكومة الإسرائيليَّة في السيطرة الدائمة على أجزاء واسعةٍ من القطاع.
يخلق هذا الواقع مجموعةً من التداعيات والسيناريوهات المحتملة التي تعمِّق المأزق، وتؤجِّج حالة عدم الاستقرار في القطاع، مع توقُّع توغُّلاتٍ عسكريَّةً إسرائيليَّةً محدودةً وتصعيداتٍ متقطِّعةٍ، تحول دون إعادة الإعمار الحقيقيِّ أو تحقيق الاستقرار، وتقويض أيِّ اتفاقٍ سياسيٍّ مستقبليٍّ، وينسف خطَّة ترامب التي تشترط انسحابًا إسرائيليًّا لبدء إعادة الإعمار ونشر قوَّاتٍ دوليَّةٍ، ما يمهِّد الطريق لاستيطانٍ محتملٍ، وهو ما أشارت له تقارير عدَّة، فالمناطق التي يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي خلف الخط الأصفر، والتي شهدت دمارًا هائلًا، قد تشهد جهودًا استيطانيَّةً في المستقبل، على غرار ما حدث في الضفَّة الغربيَّة.
احتمالات انهيار وقف إطلاق النار
المأزق الإسرائيليُّ هو محصِّلةٌ لرغبة الحكومة في تحقيق مكاسب أمنيَّةٍ وسياسيَّةٍ دائمةٍ على الأرض، مع تجنُّب ثمن هذه الخطوة على الصعيدين العسكريِّ والدوليِّ. والنتيجة هي حالةٌ من الجمود الميدانيِّ والسياسيِّ، تخدم المصالح قصيرة المدى «لإسرائيل» على حساب أيِّ حلٍّ سياسيٍّ دائمٍ.
رهام الساجر