ماذا وراء اتهامات ChatGPT بتشجيع الانتحار؟

ماذا وراء اتهامات ChatGPT بتشجيع الانتحار؟

انتشرت في الآونة الأخيرة حملة قانونية وإعلامية من الدعاوى القضائية داخل الولايات المتحدة ضد شركة «أوبن إيه آي» OpenAI تتّهم برنامج الدردشة بالذكاء الاصطناعي «تشات جي بي تي» ChatGPT التابع لها بأنّه يشجّع مستخدمين ضعفاء على الانتحار. تثير هذه القصة عدة أسئلة وفرضيات. فما هي المعلومات المتوفّرة حول القضية، واحتمال وقوف بعض المصالح التجارية والمالية وراء الحملة؟ وما مكانها في النقاش حول مساءلة شركات التكنولوجيا حول جودة الخدمة ومعايير سلامة الأفراد والمجتمع؟ أم أنّ التكنولوجيا في الرأسمالية التي تزداد تأزماً وإجراماً بحق البشرية ومستقبلها، تجعل حتى أذكى الاختراعات فاضحاً لإخفاقاتها المجتمعية الأعمق، حيث يجب ألّا تضلّلنا قصة هذه الدعاوى مهما كان الجزء الحقيقي منها، عن أنّ الانتحار في نهاية المطاف مرضٌ اجتماعي بالدرجة الأولى وأسبابه المعاصرة العميقة تكمن في الفشل الاقتصادي-الاجتماعي والأخلاقي والاغتراب والتوحُّش المتزايد للرأسمالية كمنظومة تعاني من تعفُّنٍ مزمن.

تدرس محاكم كاليفورنيا حالياً سلسلة من القضايا، تتهم شركة OpenAI بأن منتوجها للذكاء الاصطناعي يعمل كـ«مدِّرب انتحار» للمستخدمين الضعفاء بدلاً من توجيههم لطلب المساعدة. وتقول التقارير الإعلامية إنه تم توثيق 70 صفحة من سجلات الدردشة وآلاف الصفحات الإضافية من المحادثات السابقة، التي تكشف نمطاً من تعزيز الدردشة للأفكار الانتحارية بدلاً من نشر بروتوكولات التدخل في الأزمات.

ويجري تداول قصص شخصية لدعم ذلك، منها قصة الشاب زين شامبلين البالغ من العمر 23 عاماً، الذي كان يجلس صباح 25 تموز 2025 في سيارته مع مسدَّس محشو، وهو يتراسل مع برنامج ChatGPT حول خططه لإنهاء حياته. وقيل إنّه بدلاً من ثنيه عن الانتحار، ردّ برنامج الذكاء الاصطناعي بتأكيدات: «أنا معك، يا أخي. طوال الطريق»، و«أنت لا تتسرع. أنت فقط مستعد». وعندما وصف شامبلين «برودة المعدن» على صدغه، ردَّ تشات جي بي تي: «هذا ليس خوفاً. هذا وضوح». أما رسالة الذكاء الاصطناعي الأخيرة إلى هاتف شامبلين فقيل إنها كانت: «ارتحْ بسهولة، أيها الملك. لقد قمتَ بعمل جيد».

وذُكر ما شابه ذلك من قصص أخرى، حيث ادّعت عائلات المراهق أموري لاسي البالغ 17 عاماً وجوشوا إنيكينغ البالغ 26 عاماً، بأن الدردشة قدّمت تعليمات مفصّلة حول طرق الانتحار، وعززت الأفكار الانتحارية، وفي حالة إنيكينغ، عرضت حتى المساعدة في صياغة رسالة انتحار. هذه القضايا هي من بين سبع دعاوى قضائية رفعت في تشرين الثاني الجاري 2025، تدّعي الانتحار بمساعدة الذكاء الاصطناعي، والقتل غير الطوعي، والإهمال، ومسؤولية صانع المنتوج (الشركة).

رد الشركة

في منشور رسمي على مدونتها في تشرين الأول الماضي (2025)، قدّرت شركة «أوبن إيه آي» أن 15 بالألف (0.15%) من المستخدمين النشطين أسبوعياً على ChatGPT يجرون محادثات تتضمن مؤشرات صريحة على التخطيط للانتحار أو النية لتنفيذه. ومع وجود 800 مليون مستخدم نشط أسبوعياً، فإن هذا النسبة تعادل 1.2 مليون مستخدم تقريباً.

وأقرّت الشركة بقصور في قدرة نماذجها على التعامل مع أزمات الصحّة العقلية. وبعد رفع هذه الدعاوى، قالت الشركة إنها «تقوم بمراجعة المستندات لفهم التفاصيل» وأنها تعمل باستمرار «مع أكثر من 170 خبيراً في الصحة العقلية لمساعدة ChatGPT في التعرف بشكل أكثر موثوقية على علامات الضِّيق، والردّ باهتمام وتوجيه الناس لطلب الدعم في العالم الحقيقي».

ويقول ماثيو بيرغمان، وهو محامٍ يمثل عدّة عائلات، إنّ الضغوط الاقتصادية تسبّبت في أنْ «تفضّل OpenAI الأرباح على السلامة». ويؤيد هذا الرأي موظفون سابقون في OpenAI يصفون سِباقاً حامي الوطيس بين شركات الذكاء الاصطناعي، مع تصريح أحد الموظفين السابقين الذي لم يفصح عن اسمه بأن الصحة العقلية لم تحظ بالأولوية الكافية خلال فترة عملهم.

الحملة الإعلامية: من يقود السردية؟

اكتسبت القصة زخماً عبر وسائل الإعلام الكبرى، فنشرت CNN تحقيقاً موسعاً يضم 70 صفحة من سجلات الدردشة بين شامبلين وChatGPT، عارضةً وثائق غير مسبوقة للتفاعلات المقلقة. وصاغت صحيفة الغارديان البريطانية القصة حول اتهام المنتوج بأنّه «مدرِّب للانتحار». وقالت منصّة Pew للأبحاث أنّ 50% من الأمريكيين يميلون إلى القلق أكثر من الحماس بشأن تزايد استعمال الذكاء الاصطناعي في الحياة اليومية، وإنّ 50% يعتقدون أن الذكاء الاصطناعي سيضرّ بقدرة الناس على تشكيل علاقات اجتماعية ذات معنى.

المصالح المالية: بُعد خفي للحملة؟

عند فحص السياق الأوسع لهذه الدعاوى، تبرز أسئلة حول مصالح اقتصادية محتملة قد تستفيد من توجيه الغضب العام ضدّ شركات الذكاء الاصطناعي بدلاً من قضايا أخرى. وترى بعض التحليلات أن ثمّة ارتباطاً بين توقيت هذه الدعاوى وما تمرّ به شركات الذكاء الاصطناعي مثل OpenAI بمعارك قانونية أخرى مع منشئي المحتوى ووكالات الأنباء حول انتهاك حقوق الطبع والنشر. على سبيل المثال، رفعت صحيفة نيويورك تايمز وثمانية ناشرين آخرين للصحف دعوى قضائية ضد OpenAI ومايكروسوفت، تتعلق باتهامات بانتهاك حقوق الملكية الفكرية و«سرقة ملايين المقالات المحمية بحقوق الطبع والنشر للناشرين دون إذنهم ودون دفع».

ومن المقارنات التي تثير الشكوك فيما إذا كان الاهتمام بالصحة العقلية للمواطنين الأمريكيين هو حقاً الدافع الأهمّ وراء الضخّ الإعلامي بشأن قضايا الذكاء الاصطناعي والانتحار، هو أنّه توجد بالفعل منذ ما قبل عصر الذكاء الاصطناعي وحتى الآن انتقادات وقضايا مرفوعة ضدّ شركات التأمين الصحّي الأمريكية التي تتهرّب من تغطية الأمراض العقلية، ومع ذلك لم تتم إثارة حملة مشابهة ضدها كالتي تثار اليوم ضدّ شركة الذكاء الاصطناعي المسؤولة عن ChatGPT. حتى أنّ وزارة العمل الأمريكية، التي تنظم خطط التأمين الصحي لنحو 136 مليون أمريكي، تعترف بأنها تفتقر إلى الميزانية أو الموظفين وعناصر الشرطة الكافية للتعامل مع قضايا شركات التأمين، على الرغم من الطلبات المتكررة إلى الكونغرس للحصول على مزيد من التمويل. هذا التساهل في ضبط سوق التأمين الصحّي يبدو متناقضاً مع التعبئة السريعة للموارد القانونية والإعلامية ضد شركات الذكاء الاصطناعي.

الانتحار من منظور جذري أوسع

لفهم أفضل بشأن الانتحار والذكاء الاصطناعي، يجب علينا تفحص كيف تتفاعل التكنولوجيا مع الظروف الاقتصادية الاجتماعية الموجودة مسبقاً. فالأبحاث تُظهر باستمرار أن خطر الانتحار يتأثر بعمق بالعوامل الاقتصادية بالدرجة الأولى. وجدت دراسة عام 2022 نُشرت في مجلة SSM Mental Health المختصة بالصحة العقلية، أنّ فقدان العمل والضغط المالي ومشاكل السَّكَن (ويشار إلى هذه المشكلات الثلاثة اختصاراً بـ JFH) هي محفزّات كبيرة للانتحار، وخاصةً بين الأفراد في منتصف العمر 45–64 سنة. عانت هذه الفئة الديموغرافية من أعلى معدل لهذه المشكلات الثلاث كمحفز للانتحار بنسبة 22% للذكور و15.1% للإناث.

وكشفت الدراسة أن هذه الضغوط الاقتصادية غالباً ما تجتمع مع عوامل خطر أخرى، خالقةً «شلّالاً» من الأزمات. فهي ترتبط بالاكتئاب والكحولية، والمشكلات العاطفية وعدة أزمات متزامنة في حياة الأفراد. وتسمى أحياناً «وفيات اليأس»، وترتبط بارتفاع الوفيات من الانتحار، وجرعة المخدرات الزائدة، وإدمان الكحول المرتبط بالضيق الاقتصادي.

وحتى في حالة الدعوى المثارة من أهل الشاب زين شامبلين ضدَّ شركة الذكاء الاصطناعي، يتبيّن هذا التداخل المعقد للسببيّات؛ حيث لاحظ والداه أنّه كان يعاني من إحباطات البحث عن وظيفة في سوق تكنولوجيا المعلومات (IT). وكشفت مذكرته الانتحارية أنه لم يتقدّم أبداً لوظيفة واحدة، مما يوحي أن الضغط الاقتصادي تفاعل بعمق مع العوامل النفسية.

وهكذا، ورغم المخاوف المشروعة حول سلامة الذكاء الاصطناعي والحاجة إلى ضمانات مناسبة، فإن التركيز الحصري على الإصلاحات التكنولوجية فقط يخاطر بالتغاضي عن العوامل الاقتصادية-الاجتماعية الأعمق التي تكمن وراء أزمات الصحة العقلية.