بين اليأس والجموح: السياسة كاختبار للزّمن لا للّحظة
حسان ثابت حسان ثابت

بين اليأس والجموح: السياسة كاختبار للزّمن لا للّحظة

ما نعيشه اليوم في سورية قاسٍ، ثقيل، ومؤلم إلى حدّ يختبر قدرة البشر على الاحتمال. لكن هذا الواقع، مهما بلغ من القسوة، ليس خارج الزمن، ولا معلقاً فوق قوانينه. التاريخ لا يتوقف عند لحظة، ولا يمنح أي مرحلة صفة الأبدية، إلا إذا سلّمنا نحن بذلك. من هنا، فإن رفض اليأس ليس موقفاً رومانسياً ولا إنكاراً للواقع، بل خياراً عقلانياً – معرفياً، يقوم على فهم عميق لطبيعة التاريخ وحركة المجتمعات.

الدفاع عن القيم، في السياسة كما في الفكر، لا يُقاس بنتائجه الآنية، بل بتراكم أثره عبر الزمن. اللحظة الراهنة عابرة بطبيعتها، أما ما يُزرع فيها من أفكار ومواقف، فهو ما سيبقى حاضراً في ذاكرة التاريخ، إما بوصفه فعل شجاعةً وإقداماً، أو بوصفه استسلاماً.
اليأس، في جوهره، ليس توصيفاً موضوعياً للواقع، بل استسلاماً له. هو افتراض مضمر بأن اللحظة الراهنة قدر نهائي، وأن ما نعيشه اليوم هو سقف التاريخ وحدوده القصوى. غير أن التاريخ، إن كان يقدم درساً واحداً متكرراً، فهو أنه لا يعترف بالانسداد الدائم. كل لحظة، مهما بدت خانقة ومغلقة، هي مؤقتة بالضرورة، ما لم نُحوّلها نحن بإرادتنا إلى نهاية.
السؤال الحقيقي الذي ينبغي طرحه ليس: هل الواقع مظلم؟ فهذا أمر بات بديهياً. بل السؤال هو: هل توجد قوى سياسية أو فكرية قادرة على فهم هذا الواقع، والسعي إلى تغييره، والعمل على توفير أدوات التغيير، وتمتلك الشجاعة والإرادة لتحمّل كلفته؟ هنا فقط، يصبح النقاش ذا جدوى.


التجربة التاريخية زاخرة بالأمثلة التي تؤكد هذه الحقيقة:


-لو أن غاليليو انطلق من لحظة محاكمته، ومن تحالف الكنيسة مع السلطة السياسية ضده، لما تجرأ على الدفاع عن فكرة دوران الأرض. في زمنه، كان العالم كله تقريباً يقف في الضفة الأخرى، وكان التراجع عن الحقيقة شرطاً للنجاة. لكنه اختار الحقيقة على السلامة، فانهزم في اللحظة، وانتصر في التاريخ.
-لو أن باروخ سبينوزا توقّف عند لحظة نبذه وطرده من
جماعته، والتحريض عليه اجتماعياً وأخلاقياً، لما أصبح أحد الآباء المؤسسين للفلسفة الحديثة. الإقصاء لم يُلغِ الفكرة، بل منحها عمقاً وجذرية، وحوّلها إلى ركيزة من ركائز العقل النقدي.
-كارل ماركس عاش مطارداً ومنفياً، في فقر مدقع، وفقد أبناءه واحداً تلو الآخر. لو قاس العالم بميزان لحظته الشخصية والسياسية، لما أصبح أحد أكثر المفكرين تأثيراً في الألفية الماضية. لكن ما بدا هزيمة شخصية، تحوّل لاحقاً إلى منعطف فكري عالمي.
-خلال الحقبة المكارثية في الولايات المتحدة، بدا وكأن الفكر الحر هُزم نهائياً... مفكرون وفنانون طُردوا من أعمالهم، سُجنوا، نُفوا معنوياً، وأُعدم روزنبرغ بتهمة الشيوعية. في تلك اللحظة، انتصرت السلطة. لكن بعد سنوات قليلة، تحولت المكارثية نفسها إلى وصمة عار، وتبرأ منها حتى من صنعها، وأصبح ضحاياها رموزاً للحرية.
-في العراق، أُعدم فهد (يوسف سلمان يوسف) عام 1949 بعد تعذيب قاسٍ. اعتقدت السلطة أنها أنهت الخطر إلى الأبد، لكنها في الواقع صنعت رمزاً. الفكرة التي أُريد لها أن تُدفن، تحولت إلى جزء من الوعي الشعبي لعقود.
-نيلسون مانديلا قضى 27 عاماً في السجن، وكان يُقدَّم للعالم بوصفه «إرهابياً». لو استسلم لمنطق اللحظة، لما خرج ليقود واحدة من أهم عمليات الانتقال السياسي في القرن العشرين، وينهي نظام الفصل العنصري.
لا يختلف السياق السوري عن هذا المسار التاريخي العام.
-لو أن يوسف العظمة انطلق من إذعان الملك فيصل لإنذار غورو، لما أصبح أيقونة في التاريخ السوري.
- لو أن سلطان باشا الأطرش استسلم للحصار والمجازر، لما تحوّل إلى أحد أبرز رموز سورية الحديثة.
- فرج الله الحلو تحدّى ديكتاتورية الوحدة، وذوِّب جسده بالأسيد، لكن الوحدة نفسها انهارت بعد عامين، وبقي موقفه شاهداً على العلاقة العميقة بين الديمقراطية والوطنية.
- عبد العزيز الخير، الملاحق والمعتقل والمختطف منذ عام 2012، ورجاء الناصر، تم تغيبهما حتى الآن، بينما انتهت السلطة وتلك المعارضة التي خوّنتهما إلى مزبلة التاريخ، وفشلوا جميعاً في محو المعنى.
الدرس واضح... قد تنتصر السلطات والظُلّام في اللحظة، لكن الأفكار تنتصر في التاريخ، الموقف السياسي الصحيح لا يسير في خط مستقيم، لكنه في محصلته مسار ارتقائي، ثابت طويل النفس.


الجموح... الوجه الآخر


غير أن اليأس ليس الخطر الوحيد في مسار تاريخ الشعوب والحركات والافراد، فكما الإحباط حالة نفسية تخالف الحركة الدائمة في التاريخ، يأتي الجموح والاندفاع الأعمى والسعي إلى القفز حول حقائق الواقع الموضوعي وتناقضاته وتوازناته. الجموح هنا ليس نقيض اليأس، بل وجهه الآخر... اندفاع قائم على أوهام، بناء على وعود من هذه الدولة او تلك، أو على تغيّر طفيف يظنه المتوهم نصراً كاسحاً ونهائياً.
الخطاب القومي الذي كان الملايين يصفقون لمقولاته، انتهى في مصر إلى دولة مكبلة بألف قيد وقيد، وهو الذي كان من المفروض أن يوحد العرب من المحيط إلى الخليج لم يستطع الحفاظ حتى على وحدة سورية والعراق.
الشعبوية ومشكلات نموذج (الدولة الوطنية) حولت تلك الحركة المليونية الى تشرذم وانقسام. في الحالة السورية الراهنة، يُترجم هذا الجموح لدى سلطات الأمر الواقع إلى شروط مسبقة، وموقف قطعي، وذرائعية، وخطاب استعلائي، والارتهان بالضرورة لداعم دولي أو إقليمي.
أسوأ نماذج هذا الجموح أن يتخذ بعداً قوميًّا أو طائفيًّا، فيتحول من رد فعل إلى مشروع انقسام مجتمعي.
الجموح ظاهرة شعبوية يشترك فيها ملايين الناس البسطاء، خلف شعارات تحاكي هواجسهم دون أن توجد الأساس المادي لحلها.
الإحباط والجموح، رغم تناقضهما الظاهري، يشتركان في الجوهر نفسه... العجز عن بناء سياسة عقلانية طويلة النفس، قادرة على الصمود أمام قسوة اللحظة دون الارتهان لها.
بين اليأس والجموح، لا خلاص إلا بالسياسة بوصفها عملاً تاريخياً، وباعتبارها علماً له قوانينه لا انفعالاً آنياً، بالتوازي مع منظومة قيمية تجمع بين الصدق مع الناس والاستعداد للتضحية ونكران الذات.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1258