هل ستُقطع شعرة معاوية مع الولايات المتحدة؟
ابتداء باللقاء الذي جمع ترامب مع الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع (في أيار 2025 في العاصمة السعودية الرياض، وبتسهيل من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان)، وكلام ترامب في حينه (والذي ما يزال كلاماً) أنه سيرفع العقوبات عن سورية و«سيعطيها فرصة»، والإعلام العالمي والإقليمي والمحلي، يحاول تقديم صورة مفادها أن سورية باتت تحت الجناح الأمريكي، وأنها انتقلت انتقالاً تاريخياً مكتملاً لتكون محمية أمريكية في قلب الشرق الأوسط.
بين التنويعات والتفاصيل الداخلة في هذه الصورة، القول بأن النفوذ في سورية قد بات محصوراً بكل من الولايات المتحدة و«إسرائيل» وتركيا، مع دور سعودي ضمن الحدود الاقتصادية فقط؛ بكلام آخر، يقال إن سورية قد باتت جزءاً من المحور الغربي ضمن الصراع الدولي الجاري، وأن أي تأثير للصين أو روسيا أو حتى إيران، قد تبخر بشكل كامل أو شبه كامل من الوضع السوري.
ضمن الصورة نفسها، جرى ويجري حديث كثيف عن اتفاق سيوقع قريباً بين السلطات في دمشق وبين «إسرائيل» وبرعاية أمريكية. وتارة يقال اتفاق أمني، وأخرى اتفاق تطبيع، وثالثة اتفاق سلام كامل، وأما التفاصيل والتسريبات والإشاعات فلا تكاد تنتهي، وتتدرج من انسحاب كامل من الأراضي السورية المحتلة، ووصولاً إلى عدم الانسحاب من أي شبر، بل ومحاولة تثبيت الأمر الواقع الجديد بشكل رسمي.
قبل سفر الشرع إلى نيويورك في الشهر التاسع لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، انتشرت مقالات وشائعات أن التوقيع سيجري في نيويورك، بل وأن لقاء سيجمع الشرع مع نتنياهو، ولم يجر شيء من ذلك. وقبل زيارته الأخيرة لواشنطن، جرى الترويج أن هنالك اتفاقاً رعته أمريكا على تقاسم النفوذ في سورية بين «إسرائيل» وتركيا، وبموجبه سيوقع الشرع في واشنطن، وسيبدأ رفع العقوبات بعد ذلك... ولم يحدث شيء، بل أثبتت الوقائع أن الاتجاه الفعلي معاكس لهذه الشائعات (التي نشطت وسائل إعلامية وإعلاميون قريبون من الإمارات خاصة، إضافة لوسائل إعلام «إسرائيلية» في نشرها).
بين الأمور ذات الدلالات السياسية الواضحة، أن زيارة الشرع إلى واشنطن، قد تم استباقها بمذكرة توقيف أصدرتها النيابة العامة في إسطنبول بحق نتنياهو ومعه 36 مسؤولاً «إسرائيلياً» آخر، بوصفهم مجرمي حرب ومتهمين بالإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين، الأمر الذي يمكن أن يعتبر رسالة سياسية لمختلف الأطراف، أن تركيا غير موافقة على تطبيع بين سورية و«إسرائيل»، وأنها لن تيسر حصوله...
الإشارة الثانية التي ظهرت مؤخراً، بعد عودة الشرع من واشنطن، هو ما نقلته قناة كان «الإسرائيلية» عن مسؤولين «إسرائيليين» من أن «المفاوضات بين سوريا وإسرائيل وصلت إلى طريق مسدود»، و«لن يكون هناك توقيع على أي اتفاق في أي وقت قريب».
ما هو جوهر المسألة؟
أياً تكون الأوهام التي تملأ رؤوس بعض الناس في السلطة أو خارجها، فإن للولايات المتحدة الأمريكية هدفين لا ثالث لهما في سورية:
الأول، هو دفعها نحو مزيد من التفجير الداخلي والانقسام والاقتتال والفوضى وصولاً إلى تقسيمها إن أمكن (وسنفرد فقرة تالية لتفسير الغاية من ذلك).
الثاني، هو دفع سورية نحو تنازل تاريخي عن حقوقها في العلاقة مع الكيان «الإسرائيلي»، بما يؤمن «إسرائيل» ليس تجاه سورية فحسب، بل وبما يمهد سياسياً لمحاولة تطويق القضية الفلسطينية بشكل نهائي.
والهدفان ليسا متناقضين بطبيعة الحال، بل متكاملان ويخدم أحدهما الآخر؛ فكلما كانت سورية في حالة فوضى وضعف وانقسام، كلما كانت احتمالات تقديم التنازلات للصهيوني أعلى. ومن جهة ثانية، فإن أي سلطة سورية، أياً تكن تلك السلطة، تقترف كبيرة التنازل للصهيوني، فإنها ستضع نفسها في مواجهة الشعب السوري، وعلى الأقل في مواجهة فئات عريضة جداً منه، بما يصب في تعزيز الانقسام الداخلي وتعزيز الفوضى.
في تفسير الفوضى
قلنا إن الهدف الأمريكي الأول في سورية هو تكريس الفوضى والاقتتال، وأما السبب فيمكن فهمه عبر فهم الصراع الدولي الأوسع، بين الولايات المتحدة الأمريكية ومعسكرها الغربي الذي يعاني تراجعاً متسارعاً على مختلف الصعد الاقتصادية والمالية والعسكرية والتقنية وحتى الفكرية، وبين القوى الصاعدة في بريكس وشنغهاي وعلى رأسها الصين وروسيا.
الوسيلة الأساسية لدى الأمريكي في هذا الصراع هي محاولة منع أو إبطاء صعود القوى الصاعدة، ومنطقتنا، المسماة منطقة الشرق الأوسط، هي نقطة ارتكاز أساسية في مشاريع الحزام والطريق والمشروع الأوراسي، وإشعالها بالفوضى والاقتتال، يعني إشعال نقطة محورية أساسية في هذين المشروعين، ويعني إشغالاً كبيراً لكل من روسيا والصين، على أمل إيصال الفوضى عبر الشرق الأوسط وعبر وسط آسيا إلى قلب الصين وروسيا... والفوضى هنا لا تستثني حتى الحلفاء التاريخيين للولايات المتحدة، وعلى رأسهم تركيا والسعودية ومصر، وهي الدول التي بدأت منذ سنوات بعمليات انزياح تاريخي في تموضعها الدولي، بالضبط لأنها ترى نفسها مستهدفة بشكل مباشر.
وعليه، فإن الأوهام القائلة بأن أمريكا تريد استقراراً في سورية هي أوهام قاتلة بالضرورة... لمن يتعاطاها!
قطعت شعرة معاوية؟
ما يتضح من الأخبار والمحادثات المختلفة، هو أن الطريق مغلق فعلاً تجاه تحقيق الهدف الأمريكي/«الإسرائيلي» الثاني في سورية، أي دفعها لتنازل تاريخي رسمي لـ«إسرائيل»... لماذا وما الذي يمكن توقعه؟
أما لماذا، فلأن الجغرافية السياسية لسورية تملك عطالة تاريخية هائلة لا يمكن لأي سلطة من السلطات أن تحركها كيف شاءت؛ التموضع التاريخي لسورية ابتداء من جغرافيتها وسكانها، هو تموضع معاد للاستعمار بالضرورة، لأن أي انبطاح للاستعمار يعني فناءها هي نفسها كوحدة جغرافية سياسية.
وأما ما الذي يمكن توقعه، فهو أن الولايات المتحدة، ستزيد من ضغوطها لتحقيق الهدف الأول، أي التفجير الداخلي، لأهمية هذا الهدف بذاته بالنسبة لها، ولأنه الطريق إن نجح نحو الهدف الثاني...
ما الذي يمكننا عمله؟
أولاً وقبل كل شيء، علينا فهم الوقائع كما هي، وفهم مصالح الدول ليس انطلاقاً مما تصرح به أو تقوله في الغرف المغلقة للدبلوماسيين، بل انطلاقاً من فهم حقيقي لمصالحها العميقة ضمن الصراع الدولي الأكبر، وخاصة فهم مصالحها الجيوسياسية المرتبطة بالاقتصاد وتطوراته؛ فهم كهذا من شأنه أن يقطع الطريق على الأوهام، وأن يرفع مستوى تعاملنا مع الخارج، فلا يتم التلاعب بنا ولا يتم إيقاعنا بـ«أفخاخ» متنوعة، كفخ السويداء مثلاً، ولكن ليس فقط فخ السويداء، بل وأيضاً فخ الكهرباء والاتصالات ورفع الدعم والعلاقات مع البنك والصندوق الدوليين وغيرها الكثير...
وثانياً، فإنه ينبغي موازنة العلاقات الخارجية لسورية بشكل جاد وحقيقي، وليس ضمن حدود دبلوماسية شكلية، فإذا كان من الممكن إرضاء الناس مؤقتاً بصورة إعلامية هنا وأخرى هناك، فإن الدول لا يمكن «الضحك عليها» بإطلاق تعهدات ووعود ثم التراجع عنها.
وثالثاً، وهو الأهم، العمل لتوحيد الشعب السوري لغلق الثغرات الداخلية... وتوحيد الشعب السوري يبدأ بتطبيق فعلي لجوهر القرار 2254 عبر جسم حكم انتقالي، وعبر مؤتمر وطني عام صاحب صلاحيات كاملة، يقرر من خلاله السوريون مصيرهم بأنفسهم...
سعد صائب