مظاهر الضعف والتراجع الأمريكي عالمياً المفاوضات مع إيران نموذجاً
تتنافس اليوم في ظل التحولات الجيوسياسية الحالية ثلاثة محاور عالمياً على من يكون الأبرز في إظهار التقهقر الأمريكي. ورغم قوة الملفين الأوكراني والصيني، يبرز الملف الإيراني كونه الأهم، وذلك لارتباطه بتحديات مباشرة للنفوذ الأمريكي وتاريخ طويل من المواجهات غير المحسومة.
حيث تتصرف طهران بطريقة توحي أن لديها قناعة عميقة أنهم سيخضعون الجانب الأمريكي في المفاوضات الجارية حالياً وخاصة فيما يتعلق برفع العقوبات، فمن تصريحات المرشد بأن المفاوضات قد تصل وقد لا تصل إلى نتيجة وأن طهران ليست متفائلة ولا متشائمة، يتكون لدى المراقب انطباع بأن المفاوضات ستكون أطول مما هو متوقع، حيث ومع تغير التوازنات الإقليمية اليوم، يبدو أنه أصبح لدى طهران قناعة بأنهم سيخضعون واشنطن لشروطهم، في مفاوضات لا هي مباشرة ولا هي غير مباشرة (في إشارة إلى أن الأمريكان ليسوا طرفاً موثوقاً في المفاوضات).
أحرزت الجولة الثانية من المفاوضات الإيرانية-الأمريكية حول الملف النووي في روما (19 نيسان 2025) تقدماً وصفه الجانبان بأنه «جيد جداً«، مع توافق على الانتقال إلى مرحلة التفاوض الفني لصياغة تفاصيل اتفاق «دائم وملزم«. وشملت النقاط الرئيسية:
- ضمان خلو إيران من الأسلحة النووية مقابل رفع العقوبات الدولية عنها.
- الحفاظ على حق إيران في تطوير الطاقة النووية للأغراض السلمية.
- بدء مفاوضات فنية بين الخبراء يوم الأربعاء 23 نيسان في عُمان، تليها جولة ثالثة رفيعة المستوى يوم السبت 26 نيسان.
وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية إسماعيل بقائي: «عقدنا اليوم محادثات غير مباشرة بناءة مع أمريكا، أدارها وزير الخارجية العماني في أجواء إيجابية«.
وكان وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي والموفد الأمريكي للشرق الأوسط ستيف ويتكوف باشرا المحادثات بشأن ملف إيران النووي الذي يثير التوتر بين طهران وبلدان غربية في سلطنة عمان يوم 12 نيسان.
وتجلت أهم نقاط الخلاف في تخصيب اليورانيوم؛ إذ أصرت إيران على أن حقها في التخصيب «غير قابل للتفاوض«، بينما طالب الجانب الأمريكي بالعودة إلى سقف 3.67% (المتفق عليه في 2015) بدلاً من النسبة الحالية التي تصل إلى 60%. كما رفضت إيران أي اتفاق يشبه «النموذج الليبي« الذي يقضي بتفكيك البرنامج النووي بالكامل، وهو ما تدعمه «إسرائيل«. وطالبت إيران بضمانات بعدم انسحاب واشنطن من أي اتفاق جديد، كما حدث مع اتفاق 2015.
وقد لعبت عُمان دور الوسيط الرئيسي، حيث نقل وزير خارجيتها الرسائل بين الوفدين في غرف منفصلة.
فيما زار وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان طهران، في خطوة نادرة لتحسين العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
المخاوف الغربية من النتائج تجلت في تحذير «إسرائيل« من أنها لن تسمح لإيران بامتلاك سلاح نووي، إذ لوحت باحتمال هجوم عسكري إذا فشلت المفاوضات. فيما أكد مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل غروسي، أن إيران «ليست بعيدة عن امتلاك قنبلة نووية«، ودعا إلى تسريع المفاوضات.
ويمكن ملاحظة مظاهر الضعف والتراجع الأمريكي في الملفات الثلاث حيث:
- في الملف الأوكراني يتجلى تراجع النموذج الأحادي من خلال الجمود الدبلوماسي إذ فشلت الجهود الأمريكية لوقف الحرب الأوكرانية رغم الهدنة المؤقتة التي أعلنها بوتين بمناسبة عيد الفصح، مما يعكس محدودية تأثير الدبلوماسية الأمريكية في مواجهة المناورات الروسية.
- وكذلك في تشتيت الجهود الذي يظهر في تكليف المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، بمتابعة الملف الأوكراني ما يُشير إلى نقص الكوادر المتخصصة، ويعكس إدارة أزمات متعددة بموارد محدودة. والاعتماد على الحلفاء إذ إن الضغوط الأوروبية المتنامية لإنهاء الصراع دون انتصار واضح لأي طرف تُظهر تآكل الاستراتيجية الأمريكية الأحادية التي هيمنت منذ الحرب الباردة.
أما في الملف الصيني فيظهر تحوُّل الموارد وغياب الاستراتيجية الواضحة من خلال:
- إهمال آسيا والمحيط الهادئ؛ حيث إن تحويل الموارد الدبلوماسية والعسكرية نحو أوكرانيا والشرق الأوسط أضعف استراتيجية الاحتواء الصيني، خاصة مع تصاعد النفوذ الصيني في أفريقيا وأمريكا اللاتينية دون مواجهة أمريكية فعالة.
- التراجع الاقتصادي؛ إذ إن سيطرة الصين على سوق المعادن النادرة (وهي مكون أساسي في التكنولوجيا الحديثة) وتعزيز تحالفاتها يُضعف القدرة الأمريكية على فرض عقوبات اقتصادية فعالة.
- النموذج الصيني كبديل؛ حيث إن تصاعد الدعوات العالمية لإصلاح النظام الدولي يعكس تقبُّلاً متزايداً للنموذج الصيني متعدد الأقطاب، مقابل التراجع النسبي للهيمنة الأمريكية.
وفي الملف الإيراني يتجلى من خلال:
- التنازلات المحدودة؛ إذ أشارت تقارير إلى أن الولايات المتحدة قد تخلت عن مطالبها السابقة بتفكيك البرنامج النووي الإيراني بالكامل، وتركز الآن على الحد من التخصيب.
- وكذلك الضغوط «الإسرائيلية« من حيث إصرار «إسرائيل« على تفكيك البرنامج النووي الإيراني وهو ما يعكس محدودية النفوذ الأمريكي في فرض رؤيتها دون دعم حلفاء إقليميين.
ويُعتبر الملف الإيراني هو الأهم لأنه يعكس:
- التاريخ الطويل من المواجهات: منذ أزمة الرهائن (1979) وحتى اغتيال قاسم سليماني (2020)، فشلت واشنطن في كسر إيران رغم العقوبات القصوى، مما يعكس عجزاً استراتيجياً.
- النجاح الإيراني في اختراق التحالفات: تحسين العلاقات مع السعودية (زيارة الأمير خالد بن سلمان لطهران) يُظهر قدرة إيران على إضعاف التحالف الأمريكي-الخليجي.
- التهديد النووي المباشر: تصريحات الوكالة الدولية للطاقة الذرية بأن إيران «ليست بعيدة عن امتلاك قنبلة نووية« تذكر الرأي العام العالمي بفشل السياسات الأمريكية في منع التسلح النووي.
بينما يعكس الملف الأوكراني الجمود الدبلوماسي، والملف الصيني التراجع الاستراتيجي الطويل الأمد، يظل الملف الإيراني الأكثر إيلاماً لواشنطن في منطقة الشرق الأوسط، التي كانت ساحة للنفوذ الأمريكي شبه المطلق. هذا التراجع لا يُعزى فقط إلى ضعف الإدارة الحالية، بل إلى تحوُّلات بنيوية في النظام الدولي، حيث لم تعد الولايات المتحدة القوة الوحيدة القادرة على صياغة القواعد.