النيجر ومالي وبوركينا فاسو... نحو مزيد من الاستقلال الوطني
خلال الأسبوعين الماضيين، شهدت النيجر وبلدان إفريقيا المجاورة المشابهة بنهج التحرّر من الهيمنة الاستعمارية الغربية، تطورات جديدة مهمة، لا يمكن فهمها سوى بأنها تجلّيات إضافية لتراجع النفوذ الغربي و"طرد" المزيد من أذرعه الأخطبوطية في القارة السمراء، مقابل تزايد الاستقلال الوطني والتعاون الإقليمي البيني، والدولي مع روسيا والصين.
تمت مؤخراً سلسلة خطوات يمكن ملاحظة ترابطها: إعلان بوركينا فاسو ومالي والنيجر تطلّعهم لتشكيل اتحادٍ كونفدرالي ومشروع اتحاد اقتصادي ونقدي، ولحاق النيجر وبوركينا فاسو بمالي في الانسحاب من قوة "مجموعة الخمس" واصفين ذلك بأنها "عملية لضمان استقلالنا وكرامتنا"، بعد فشل المجموعة بمكافحة الإرهاب بسبب التلاعب الغربي، ثم سارعت سفيرة واشنطن لتقديم أوراق اعتمادها الرسمية لدى النيجر مما يعكس خوف بلادها من نفوذها المتراجع لصالح مزيد من الاستقلال الوطني لهذا البلد وتعاونه مع روسيا والصين، وكان لافتاً مؤخراً الصفعة الجديدة التي تلقاها الاتحاد الأوروبي من النيجر بإلغاء اتفاق 2012 العسكري معه، والتي جاءت بالتزامن مع استقبال وزير دفاع النيجر لنائب وزير الدفاع الروسي.
بدايةً من المفيد التذكير بظروف انقلاب النيجر (26 يوليو/تموز من العام الجاري 2023)، وهي الدولة القارية (غير الساحلية) في غرب أفريقيا وفي منطقة الساحل. حيث قامت مجموعة من ضباط الجيش بالإطاحة بالرئيس بازوم الموالي لفرنسا والغرب. وبطبيعة الحال ردّت الحكومات الفرنسية والبريطانية والأمريكية بالوقوف إلى جانب الرئيس المخلوع والدعوة إلى إعادته إلى منصبه وصولاً بالتهديد بالتدخل العسكري وتأليب المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا الساحلية (إيكواس) على النيجر (حيث تمثل المستعمرات الفرنسية والبريطانية والبرتغالية السابقة في غرب إفريقيا)، في حين وقفت مالي بوركينا فاسو ثم غينيا والجزائر إلى الجانب العسكريين قادة الانقلاب. وكان الانقلاب متزامناً تقريباً مع القمة الروسية الإفريقية، حيث تم تسليط الضوء على التقارب السياسي بين روسيا والعديد من الدول الإفريقية، ودار الحديث عن النضال ضد الإمبريالية والاستعمار الغربي، وبرز الرجل العسكري في بوركينا فاسو، إبراهيم تراوري.
بعد الاتحاد الأوروبي هل يأتي دور أمريكا؟
كانت الولايات المتحدة وفرنسا نشرتا بالفعل جنوداً في النيجر، ما يزيد قليلاً عن 1000 جندي من كل دولة. ومع الخطوة الجديدة من قادة النيجر الجدد بإنهاء الاتفاقية العسكرية الأمنية مع الاتحاد الأوروبي، وإذا كانت النيجر تريد استكمال استقلالٍ حقيقي بالفعل، فلن يتم ذلك باستمرار وجود أو نفوذ عسكري أمريكي في البلاد، أو حتى في الجوار.
وكانت المهمة العسكرية الأمنية الأوروبية تحت مسمى EUCAP قد بدأت في منطقة ساحل النيجر في عام 2012 بذريعة "مساعدة قوات الأمن في محاربة المسلحين الإرهابيين والتهديدات الأخرى"، إضافة إلى رعاية منظمات غير حكومية في البلاد. أما الشراكة العسكرية المعروفة باسم EUMPM فبدأت في شباط "بناء على طلب السلطات النيجرية" (النظام السابق) وفقًا لموقع مجلس الاتحاد الأوروبي. وتم نشر حوالي 120 أوروبيًا بشكل دائم هناك، وتم تكليفهم بمهمة تدريب قوات الأمن النيجيرية في مناطق مختلفة. لكن وزارة خارجية النيجر، أعلنت في 4 ديسمبر/كانون الأول الجاري في بيان "انسحاب دولة النيجر من الاتفاق المبرم بين جمهورية النيجر والاتحاد الأوروبي بشأن مهمة بعثة الاتحاد الأوروبي للسياسة المشتركة للأمن والدفاع في النيجر التابعة للاتحاد الأوروبي". كما أعلنت "سحب دولة النيجر موافقتها على نشر مهمة شراكة عسكرية للاتحاد الأوروبي" في النيجر.
وفي وقت سابق، كان المجلس العسكري الحاكم في النيجر قد ألغى قانون "تجريم تهريب المهاجرين" الساري المفعول في البلاد منذ عام 2015، وسرعان ما أعرب الاتحاد الأوروبي عن "أسفه" لهذا القرار الذي من شأنه أن "يزيد من تدفق أعداد المهاجرين إلى أوروبا"، لكن بالمقابل، من شأن ذلك أن يؤثر إيجاباً على الاقتصاد في مدينة أغاديز شمال النيجر.
وتعد هذه الخطوة استكمالاً لمسار في تعزيز السيادة الوطنية للنيجر بعد الضغط على فرنسا حتى تسحب قواتها البالغ قوامها 1500 جندي من النيجر بناء على مطالب القادة العسكريين بعد الإطاحة ببازوم، الحليف الرئيسي لباريس.
تعزيز التعاون العسكري مع موسكو
في هذه الأثناء، التقى وفد روسي برئاسة نائب وزير الدفاع مع سلطات النيجر في نيامي يوم الإثنين 4 ديسمبر/كانون الأول الجاري، حيث اتفق البلدان على تعزيز التعاون العسكري. وهذه الزيارة هي أوّل زيارة رسمية يقوم بها عضو في الحكومة الروسية منذ الانقلاب في النيجر في 26 يوليو/تموز. حيث استضاف رئيس الحكومة العسكرية في النيجر الجنرال عبد الرحمن تياني الوفد الذي يرأسه الجنرال يونس بيك يفكوروف لإجراء محادثات.
ووقّع الطرفان “وثائق لتعزيز التعاون العسكري بين جمهورية النيجر والاتحاد الروسي”، بحسب السلطات النيجرية.
فالأنظمة العسكرية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو تقاتل جميعها حركات تمرد "جهادية" طويلة الأمد وقد اجتمعت لدعم إنشاء تحالف دول الساحل، وإقامة علاقات اقتصادية أوثق والمساعدة الدفاعية المتبادلة. وانضمت بوركينا فاسو والنيجر يوم السبت إلى مالي في الانسحاب من قوة مجموعة الخمس "المناهضة للجهاديين" في منطقة الساحل الإفريقي. وقال البلدان في بيان إن بوركينا فاسو والنيجر "قررتا، بسيادتهما الكاملة، الانسحاب من جميع أشكال مجموعة الساحل الخمس، بما في ذلك القوة المشتركة" اعتبارا من 29 تشرين الثاني/نوفمبر. ولم يبق الآن سوى تشاد وموريتانيا في مجموعة الخمس هذه، التي يموّل الاتحاد الأوروبي انتشارها العسكري إلى حد كبير، ونظراً لهذا التمويل ليس من الصعب معرفة دورها السلبي في المنطقة والذي لن يكون بالطبع لصالح شعوبها والاستقرار فيها بل لخدمة المصالح الإمبريالية والاستعمارية الغربية، ولذلك يمثّل انسحاب الدول المذكورة منها خطوة باتجاه مزيد من الاستقلال الوطني.
مزيد من التعاون الاقتصادي مع الصين
من الخطوات الحديثة في تطور العلاقات الاقتصادية بين بلدان المنطقة والصين، وقّعت يوم السبت الماضي (9 ديسمبر/كانون الأول) ست دول إفريقية اتفاقية إعفاء جمركي مع الصين، بحيث لن يتم فرض رسوم جمركية على معظم البضائع القادمة من أنغولا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وغامبيا ومالي ومدغشقر وموريتانيا عند دخولها السوق الصينية.
وتأتي سياسة الصين الجديدة، التي تدخل حيز التنفيذ في يوم عيد الميلاد بداية العام المقبل 2024، في أعقاب انتقادات بأنها "تركز بشكل رئيسي على شراء المواد الخام من القارة". وقد تم الترويج للاتفاقية من قبل لجنة التعريفات الجمركية الصينية التابعة لمجلس الدولة الصيني كدليل على "روح الصداقة والتعاون بين الصين وأفريقيا" التي تؤدي إلى "مجتمع صيني أفريقي عالي الجودة وذو مستقبل مشترك". وحتى الآن أبرمت أكثر من 20 دولة أفريقية أخرى بالفعل اتفاقيات معفاة من الرسوم الجمركية مع الصين.
بدوره التقى وزير الخارجية الصيني وانغ يي يوم الجمعة الماضي مع وزير خارجية مالي عبد الله ديوب في بكين، حيث اتفق الجانبان على الحفاظ على الدعم المتبادل وتعزيز التعاون في مختلف المجالات. وأشار وانغ إلى أن الصين تتفهم وتحترم تماماً الخيار المستقل للشعب المالي. وأضاف أن "الصين لم تتدخل قط في الشؤون الداخلية للدول الأخرى"، وأنها ترغب في تعميق التعاون مع مالي في مجالات التعليم والتدريب والرعاية الطبية والزراعة.
ووصف ديوب الصين بأنها صديق وشريك موثوق به، وقال لوانغ إن مالي تلتزم بالاستقلال والحكم الذاتي وتلتزم بمبدأ صين واحدة. وأضاف ديوب أن "الجانب المالي يتطلع إلى التعلم من تجربة التنمية الصينية الناجحة، ومواصلة تلقي الدعم والمساعدة من الجانب الصيني، وتعميق التعاون العملي الشامل".