عقيدة اليابان العسكرية… صور من ماضٍ أسود
تتجه الأنظار مؤخراً إلى اليابان، التي أظهرت سعياً متزايداً نحو كسر القيود التي فُرضت على الإمبراطورية اليابانية بعد الحرب العالمية الثانية، والذي وصل في شهر كانون الأول الماضي حدَّ إعلان طوكيو عن تغييرات خطيرة في عقيدتها العسكرية، من شأنها أن تتحوّل إلى مصدر قلق حقيقي، فما هي الدوافع اليابانية لخطوات من هذا النوع؟ والأهم، ما هي عواقب مساعٍ كهذه؟!
أعلنت الحكومة اليابانية في 16 كانون الأول الماضي عن تغيير عقيدتها العسكرية، ما يسمح لها بإعادة بناء قدراتها العسكرية بما يخالف القيود التي فرضت عليها بسبب ماضيها الاستعماري ومسؤوليتها الكبرى في مآسي الحرب العالمية الثانية التي راح ضحيتها أكثر من 50 مليون إنسان. التغييرات التي جرى إعلانها تتحدث عن ضرورة استعداد اليابان للتعامل مع مخاطر أساسية ثلاثة، وهي الصين وكوريا الشمالية وروسيا.
العقيدة الجديدة
التزمت اليابان بالمادة 9 من الدستور والتي حددت الطبيعة السلمية للدولة واشترطت عدم بناء جيش لأغراض هجومية وهو ما انعكس على بنية الجيش وتسليحه الذي اقتصر على التسليح الدفاعي وصواريخ الدفاع الجوي والبحري قصيرة المدى. التغييرات الجديدة في العقيدة العسكرية باتت تسمح بتنفيذ «هجوم مضاد» في حالات خاصة، لكن الأكثر خطورة أنّ تنفيذ هذا النوع من الهجمات يفرض تغييرات نوعية وأساسية في طبيعة الأسلحة وبنية الجيش. ما يعني أنّ اليابان تطمح إلى بناء قوة عسكرية كبرى خلال آجال زمنية محدَّدة. ويمكن لبعض الأرقام توضيح حجم هذا التحول، فالحكومة اليابانية كانت تنفق 1% من ناتجها الإجمالي على تسليح جيشها الدفاعي، أمّا إعلان اليوم فيقول بأنهم عازمون على زيادة هذا الإنفاق إلى 2% ما يعني أنّ ميزانية الدفاع اليابانية يمكن أنْ تصل إلى حدود 100 مليار دولار وهو رقم قريب من الميزانية الروسية المقدّرة بـ 116 مليار دولار وأكثر من ميزانية جارتها كوريا الجنوبية التي تخصّص 42 مليار دولار .
دوافع خفية وتاريخ أسود
رحّبت واشنطن بهذا التوجُّه وستجري مشاورات معمَّقة حول هذه المسألة الموضوعة على جدول أعمال زيارة رئيس وزراء اليابان إلى واشنطن المقرَّرة في 16 من شهر كانون الثاني الجاري، ولكن هذه التوجهات المعلَنة تثير مخاوف جدّية في عدد من الدول وتحديداً بالنسبة لروسيا والصين والكوريَّتيَن، وذلك لأنّ تاريخ اليابان الاستعماري لا يزال يرخي بظلاله على هذه الدول جميعها والتي عانت من فظائع الجيش الإمبراطوري التي يذكرها التاريخ حتى يومنا هذا. فاليابان اعتدت على أراضي الإمبراطورية الروسية في 1904 ثم مجدداً في 1918 واحتلّت الشرق السوفييتي الأقصى لتبدأ عدواناً جديداً في 1938 ثم احتلّت في العام التالي أجزاء من جمهورية منغوليا الشعبية، وغيرها الكثير من الأعمال العدائية وفي كل الاتجاهات، ما جعل اليابان مصدر تهديد رئيسي في المنطقة لعقود طويلة.
الواقع الذي فرض على اليابان بعد الحرب العالمية الثانية وتحديداً مع هيمنة واشنطن على الجزيرة، وتحويلها إلى قاعدة عسكرية لجيوشها، كان يشكّل عامل ضغط دائم على قوى سياسية قومية، والتي كانت دائماً تطمح للحصول على مستوى أعلى من الاستقلالية، ولا يخفى على أحد أن بعض هذه القوى لم تقبل حتى اليوم خسارة هذه المساحات الشاسعة من المستعمرات في الحرب العالمية الثانية وتطمح لإعادة شيء من وزن الإمبراطورية المفقود، والمقلق أنّ في واشنطن من يرى في نزعة كهذه فرصةً تستحقّ الاستثمار أملاً في خلق بؤرة توتر جدّية متاخمة للحدود الروسية والصينية، بغض النظر عن حجم التهديد الذي يمكن أن ينتج عن بؤرة كهذه. من جهة أخرى يشكّل إعلان اليابان عزمَها إعادةَ بناء جيش هجومي كبير مصدرَ خطر على اليابان نفسها، فدول الجوار ستجد نفسَها مضطرةً عاجلاً أم آجلاً لوقف مساعٍ كهذه، ما يعني إدخالَ اليابان في نزاعات مع قوى عظمى أثبتَ الواقعُ أنها تتعاطى بأعلى درجات الجدّية مع تهديداتٍ من هذا المستوى.