«إنسانية» الأمريكان، والتسوية السورية- التركية!
«تكلفة تحرير الكويت، كانت بفضل التكنولوجيا الحديثة، ضئيلة للغاية»... كذلك تفاخرت وسائل الإعلام الأمريكية مع انتهاء حرب الخليج الثانية عام 1991. المقصود بـ«التكلفة» هنا، عدد القتلى الأمريكيين ضمن الحرب، والذي لم يتجاوز 500 «بفضل التكنولوجيا الحديثة». وكما يبيّن عالم الاجتماع الشهير سيرجي كارا مورزا في مقالة له ترجمتها قاسيون مؤخراً: فالتكلفة من وجهة النظر هذه لا تشمل 300 ألف عراقي القسم الأكبر منهم من المدنيين، تم قتلهم خلال هذه الحرب... التكلفة هي فقط الجنود الأمريكان القتلى، حتى وإنْ كانت ذريعة الحرب «حماية المدنيين في الكويت والعراق».
الأمر الراهن الذي يستحضر المثال السابق وغيره الكثير إلى الأذهان، هو الموقف الرسمي الأمريكي من التسوية السورية التركية التي قطعت خطوات مهمة ولكن ما يزال أمامها طريق غير هيّن لتسيره. موقف واشنطن عبّر عنه عدد من مسؤوليها بينهم الناطق باسم الخارجية الأمريكية نيد برايس، والذي قال: «نحن لا نؤيد ترقية الدول لعلاقاتها أو التعبير عن دعمها لإعادة تأهيل الدكتاتور المتوحش بشار الأسد. نحث الدول على النظر بعناية في سجل حقوق الإنسان الفظيع لنظام الأسد على مدى السنوات الـ 12 الماضية، حيث يواصل ارتكاب الفظائع ضد الشعب السوري ومنع وصول المساعدات الإنسانية المنقذة للحياة»...إلخ.
الأمريكان أنفسهم، لم يمنعهم «النظر بعناية في سجل حقوق الإنسان الفظيع...» من أن يعلن ترامب عن إرساله رسالة رسمية إلى الحكومة السورية (هكذا سماها علناً، أي الحكومة السورية، وليس النظام المجرم الوحشي إلخ) يطلب منها التعاون لإعادة أوستن تايس الصحفي الأمريكي المختفي في سورية.
وإذاً، وبالمنطق نفسه الذي يقول إنّ التكلفة في حرب الخليج الثانية كانت «ضئيلة جداً» لأنّ البشر الآخرين ربما ليسوا بشراً أساساً، فإنّ الولايات المتحدة تسمح لنفسها بأنْ تحوّر صياغتها لسياساتها انطلاقاً من أنها تدافع عن أحد مواطنيها (رغم أنّ من السذاجة أن يصدق المرء أنّ الحكومات الغربية تهتم بقليل أو كثير بحياة مواطنيها، إلا ضمن حدود الحفاظ على الهيمنة والنظام العام للنهب الداخلي والخارجي).
الولايات المتحدة لا ترى أنّ هنالك أية تكلفة للعقوبات والحصار اللذين تفرضهما على سورية؛ فالمتضرر من هذه العقوبات هم أبناء «عرقٍ أدنى»، أو ربما ليسوا بشراً حتى؛ ولذلك فإنّ ما يمكن أن تؤدي إليه تسوية سورية تركية من كسر الحصار والعقوبات، وما يمكن أن تفتح الباب باتجاه تحقيقه أي الحل السياسي وفق 2254، ليس ضمن أجندة أعمال واشنطن.
التسوية التي من شأنها أن تنقذ ملايين السوريين عبر تخفيف ظروف مأساتهم على الأقل وصولاً إلى وضع أساس حلها، ليست ضمن الاهتمامات الأمريكية، وهي أمر مكلف بالنسبة لها، لأنّه يهدد مصالحها، أما موت وعذابات ملايين السوريين فهذا خارج قوس وليس ضمن حسابات «التكلفة»...