في الشمال الشرقي السوري: هل بات التعليم «جريمة» يعاقب عليها القانون؟!
في خطوة غير مسؤولة جديدة، أصدرت الإدارة الذاتية لشمال شرقي سورية، قراراً يقضي بإغلاق كافة المعاهد والمدارس التي تدرّس مناهج الدولة السورية، وأبعد من ذلك، فقد داهمت القوى الأمنية التابعة للإدارة بعض البيوت التي يتم فيها تدريس المنهاج الرسمي السوري على شكل دورات خاصّة، وقد قامت باعتقال العديد من المدرّسين اللذين أصرّوا على تدريس المناهج الرسمية، حفاظاً على مستقبل الطلاب، ولا سيّما طلاب الشهادتَين.
بدايةً، وقبل الدخول في صلب الموضوع، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ النظام التعليمي في سورية، وضمناً المنهاج الرسمي المعتمد من قبل وزارة التربية، يعاني من تراجع وترهّل. وهو بحاجة، كما باقي جوانب الحياة، إلى إعادة صياغة وإعادة تأهيل، ليكون متوائماً مع التطورات الجارية على مختلف المستويات.
كما أنّ القرارات التي أُصدرت في الآونة الأخيرة، والتي طغى عليها التمييز الطبقي البحت هي الأخرى بحاجة إلى مراجعة بعضها وإلغاء الكثير منها. فالقرارات الأخيرة التي صدرت، والتي تتعلق بالتعليم بمختلف مراحله، تقضم حقَّ الطبقة الفقيرة في التعليم، من خلال توجيه الطلبة إلى أنظمة التعليم الموازي والمفتوح، حيث دفعُ الرسوم والإقصاءات، أو من خلال تقديم المزيد من الامتيازات للجامعات والمدارس الخاصة على حساب الجامعات والمدارس الحكومية العامة، ومن المعروف بأن السلك التعليمي الخاص من جامعات ومعاهد ومدارس، قد افتُتح أصلاً خدمةً لأبناء الطبقة الغنية، اللذين باستطاعتهم دفع رسومها التي تتجاوز الملايين في العام الدراسي الواحد، ضاربةً عرض الحائط حقّ الفقراء وأبنائهم في التعليم، قاذفةً بهم إلى براثن الجهل وأسواق العمل المبكر.
وكذلك، خدمةً لأصحاب تلك المنشأة التعليمية الخاصة، والذين ينتمون إلى طبقة الأثرياء، الذين لم يتركوا شيئاً إلا وتاجروا به، ليأتوا بعد ذلك فيتاجروا بالتعليم، متأكدين بأنّ سياسات الخصخصة المتوحّشة ستكون في استقبالهم، فارشةً لهم السجاد الأحمر.
تعلُّم اللغة الأمّ حقّ وواجب
إحدى أهم السلبيات التي يعاني منها السلك التعليمي في سورية، والذي خلق ردود فعل عنيفة، تكاد تودي بمستقبل العديد من الأجيال القادمة، هي استبعاد وإقصاء العديد من اللغات الموجودة في سورية، لصالح لغة معينة وحيدة، وهو ما أدّى إلى نشوب نوعٍ من التعصّب تجاه اللغات الأم غير المعتمدة رسمياً، الأمر الذي حاول المستغلّون الاستفادة منه، كي يعكسوا هذا التعصب، على مكوّنات الشعب السوري، وليس على اللغات فحسب.
من هذا المنطلَق، فإنّ إحدى أهمّ الخطوات التي يجب أن تتخذ في سبيل صيانة السلك التعليمي في سورية، وإعادة تأهيله، هي تخصيص ساعات تدريسية للّغات التي جرى تهميشها خلال عقود طوال.
ما هكذا تورد الأبل
عود على بدء، فإنّ التعلّم باللغة الأم لأيّ شعبٍ كان، بما فيه الشعب الكردي، هو حقّ يجب أن يؤمَّن له، ولكنّ الحصول على هذا الحق لا يبرِّرُ لأيٍّ كان شلَّ العملية التعليمية في جغرافية واسعة من البلاد تشمل ثلاث محافظات (الرقة – الحسكة – وجزء من دير الزور)، خدمةً لمصالح طبقة أو جهة سياسية ما، وفي هذا الإطار، فإنّ ما تقوم به الإدارة الذاتية في الشمال الشرقي السوري، من فرض مناهج تعليمية، ومحاربة المناهج الرسمية، المعتمدة من قبل هيئات التعليم الدولية، يعتبَر جريمةً بحق أبناء تلك المنطقة. ففي نهاية المطاف، الطالب يسعى إلى الحصول على شهادة تعليمية يكون معترفاً بها سواء داخل البلاد أو خارجها، لكي يستطيع تأمين مستقبله، وهذا ما لا ينطبق على مناهج الإدارة الذاتية، علاوة على أن تلك المناهج لم تخضع لأيّ اختبارات دوليّة، ولم يثبت حتى الآن استحواذ هذه المناهج على الأسس والمعايير العلمية.
إنّ التعليم لا يمكن أن يكون بالإكراه وبمداهمة المنازل، لذلك، فإنّ تعليم اللغة الكردية يجب أن يتمّ على أساس توافقي. والحل الأفضل، «مبدئياً»، ونؤكّد على كلمة «مبدئياً»، هو افتتاحُ معاهد خاصة بتعليم اللغة الكردية، كي يلتحق بها مَن أراد ذلك طوعاً، وهذا يمكن أن يترافق مع العملية التربوية الرسمية، القائمة على أساس منهاج وزارة التربية السورية المعترَف به. ولا تتعارض العمليّتان مع بعضهما البعض.
لا شكّ بأنّ الشعب الكردي، متعطّش لتعلّم لغته الأم، قراءةً وكتابة، بعد السنين الطوال التي حُرِمَ خلالها من تعلُّمها، بفعل السياسات المتبعة في سورية تاريخياً، إلا أنّ سياسات الفرض والغصب، تدفع حتى الكُرد أنفسهم إلى الكفر بلغتهم، فتعلُّم اللغة الأم لا يجوز أن يكون على حساب مستقبل الأجيال القادمة.
الحل سياسي بحت
إنّ التغييرات المطلوبة في العملية التعليمية، هي جزءٌ من جملة التغييرات المطلوبة في سورية الغد، فكما أنّ النهج السياسي والاقتصادي والاجتماعي بحاجة إلى تغيير، فإنّ النهج التعليمي كذلك بحاجة إلى مثل هذا التغيير.
بناءً عليه، فإنّ تغيير واقع التعليم في سورية، سواء كان ما يتعلق باللغة الكردية، أو القرارات الطبقية التي تصدر، والتي تحاكي جيوب قوى الفساد والنهب. إّن هذا التغيير، لا يمكن أن يتم إلا من خلال الحل السياسي الشامل على أساس القرار 2254، بحيث يفضي إلى تغيير جذري شامل وعميق، بما فيه جملة السياسات المتبعة في سورية، السياسية منها والاقتصادية الاجتماعية، وحتى التعليمية والثقافية، وغيرها.