بايدن: «الآن فهمتكم»!
تتوالى خطب زعماء العالم ووزراء خارجيته خلال هذه الأيام، من على منبر الدورة 77 للجمعية العامة للأمم المتحدة. ورغم أنّ الصراع الحاد بين الولايات المتحدة من جهة وروسيا والصين من الجهة المقابلة، هو الحاضر الأساسي بشكل أو بآخر في كل الكلمات والخطابات، ورغم ما يبدو من تناقض حادٍ في مختلف الطروحات المتعلقة بالشؤون العالمية بما في ذلك أزمات الطاقة والغذاء والتضخم وغيرها، إلا أنّه من اللافت أنّ الجميع تقريباً بات ينادي بصوت واحد بضرورة توسيع مجلس الأمن الدولي، على مستوى الأعضاء الدائمين وغير الدائمين.
دعوات توسيع عضوية مجلس الأمن الدولي ليست جديدة إطلاقاً، بل تعود إلى عقود مضت، ولكنّ وتيرة المطالبة بالتوسيع ونوعية التوسيع المقصود، هما ما يظهر فيهما اختلاف كبير هذه الأيام.
خلفية
منذ 2010 تقريباً، دخل مجلس الأمن الدولي ومعه الأمم المتحدة في حالة من الشلل، وكان ذلك تعبيراً واضحاً عن أنّ القوى الكبرى المتصارعة في العالم، لم تعد قادرة على الوصول إلى توافقات. ولكنّ حالة الشلل كانت أيضاً تعبيراً عن أنّ طريقة إدارة المنظومة الدولية خلال عهد القطبية الواحدة الأمريكية قد وصلت إلى نهايتها، ولم يعد من الممكن استمرار التحكم المطلق للولايات المتحدة بشؤون العالم.
يمكن القول إنّ مرحلة انتقالية قد انقضت بين 2010 وبين وقتنا الحالي، ونحن نعيش الآن نهايات هذه المرحلة الانتقالية. بوضوحٍ أكبر، فإنّ تغير ميزان القوى الدولي كان قد وصل عام 2010 إلى العتبة التي بات فيها بمقدور القوى الصاعدة وعلى رأسها روسيا والصين، منع الولايات المتحدة من تمرير مشاريعها وهيمنتها عبر مجلس الأمن وعبر الأمم المتحدة، ولكن بالمقابل لم تستطع القوى الصاعدة هي الأخرى تمرير مشاريعها... هذا ما يلخص حالة الشلل والعجز في المنظومة الدولية القائمة، فقد باتت مكاناً لا تمر فيه المشاريع الكبرى لأحد، وإنما يتم فقط تعطيل المشاريع... ولعل عدم تنفيذ أيّ من قرارات مجلس الأمن الدولي على الأقل خلال هذه السنوات العشر أو الاثني عشر، هي أحد المؤشرات الواضحة على هذا الشلل.
السباق انطلق
الدعوات التي تخرج من الولايات المتحدة وألمانيا واليابان وغيرها من الدول الغربية لتوسيع عضوية مجلس الأمن، قد تبدو واضحة الأهداف؛ فالأكيد أنّ الغرب سئم من قدرة القوى الصاعدة على تعطيل مشاريعه، وربما يحلم بإعادة هيكلة المنظومة بما يضعف روسيا والصين... ولكن جوهر الأمر يكمن في مكان آخر؛ فاللهاث الغربي الجماعي وغير المسبوق لإعادة هيكلة الأمم المتحدة، يأتي بالضبط على خلفية أنّ الأوان التاريخي لإعادة الهيكلة تلك، قد بات مستحقاً وعلى بعد خطوة، ولن يكون بمقدور الغرب منعه. أكثر من ذلك، فإنّه من الواضح للمنظومة الغربية أنّ تراجع هيمنتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، ستكون المحدد الأساسي لكيفية إعادة هيكلة الأمم المتحدة، ولذا فهي تسعى لاستباق الأمور عبر محاولة التحكم بعملية إعادة الهيكلة بحيث لا تقوّض هيمنتها العالمية.
شارة النهاية؟
كانت قاسيون قد رأت أنّ عالم ما بعد أوكرانيا قد بدأ بالتشكل فعلاً؛ وفي افتتاحيتها رقم 1059 بتاريخ 27 شباط 2022، ذكرت أربعة محاور أساسية سيتم التغيير وفقها. وأولها كان كالتالي: «انتهت الصلاحية التاريخية للنظام السياسي العالمي بشكله القائم، وممثلاً بالأمم المتحدة وبالمنظمات الدولية الأساسية جميعها، والتي ما تزال تعكس في تركيبتها وآليات عملها توازنات دولية عفا عليها الزمن. انتهاء الصلاحية هذا لا ينعكس في عدم قدرة هذه المؤسسات الدولية على حل المشكلات العالمية المختلفة فحسب، بل وأكثر من ذلك في كونها مسهماً في تعقيدها وتعميقها وإطالتها، انطلاقاً من التلاعب الغربي ضمنها، ما يعني أنّ إعادة النظر في تركيبتها جذرياً، وبما يناسب توازنات القوى الواقعية، بات أمراً ضرورياً وملحاً، وبشكل خاص ضرورة تمثيل دول وقارات ذات أوزان فعلية وبشرية كبرى في مجلس الأمن، (الهند وإفريقيا) على سبيل المثال لا الحصر». وهذا ما تسير نحوه الأمور؛ أي أنّ المسألة ليست توسيعاً لعضوية مجلس الأمن فحسب، بل إعادة تركيب له وللمؤسسة ككل، بما يتناسب مع الموازين الدولية الجديدة، وبما يتناسب مع ضرب عمليات التبادل اللامتكافئ على المستوى العالمي...
الآن فهمتكم!
العبارتان الأكثر شهرة ربما ضمن موجة الربيع العربي خرجتا من تونس. الأولى هي «الآن فهمتكم»، التي خاطب بها الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي التونسيين في آخر خطابٍ له. والثانية هي «هرمنا»، التي أطلقها أحد المتظاهرين مع تنحي بن علي وهربه.
سخر نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، اليوم من خطاب بايدن بشكل غير مباشر عبر قوله: «إن اقتراح الرئيس الأمريكي جو بايدن بتوسيع مجلس الأمن الدولي جدير بالثناء».
ويمكن القول إنّ خطاب بايدن اليوم لتوسيع عضوية مجلس الأمن الدولي، بعد أنْ استمرت أمريكا في رفض منح إفريقيا وأمريكا اللاتينية أي مقعد في مجلس الأمن، يمكن القول إنّه خطابٌ من بايدن للعالم بأسره، من قبيل «الآن فهمتكم»!
وبكل الأحوال، فإنّ التعبير المنتظر الأشد أهمية من خطاب بايدن، هو: «هرمنا بانتظار هذه اللحظة التاريخية»...