حتى «ذكرى» اتفاقات التطبيع، ليسوا قادرين على الاحتفال بها!
نقلت صحيفة هآرتس الصهيونية منذ أيام عن مسؤولين «إسرائيليين» تأكيدهم إلغاء «الاحتفال» الذي كان مزمعاً عقده يوم 13 آب الجاري في الذكرى الثانية لتوقيع اتفاقات التطبيع سيّئة الصيت التي اشتركت فيها مع كيان العدو كل من الإمارات والبحرين عام 2020.
وكان من المقرر أن يحضر «الاحتفال» ممثّلون عن كل من الولايات المتحدة والإمارات والبحرين والمغرب إضافة لممثلي الكيان.
المسؤولون «الإسرائيليون» برّروا إلغاء الاحتفال بأنّ الدول الثلاث (الإمارات، البحرين، المغرب) قد رفضت إقامة الفعالية كي «لا تؤثر على الانتخابات الإسرائيلية المقبلة»، وهو تبرير هزلي إلى أبعد الحدود، ولا علاقة له قطعاً بالأسباب الحقيقية.
التفسير الثاني الذي تسوقه وسائل إعلام مختلفة بينها وسائل إعلام العدو، هو أنّ هذه الدول «محرجةٌ» من الاشتراك في فعالية من هذا النوع بعد أيامٍ قليلة من انتهاء جولة جديدة من جولات العدوان على غزة. وهذا التفسير أكثر هزلية من الأول، لأنّ الاستناد إلى أنّ من انحدر إلى دَرَك التطبيع، ما يزال يملك قدْراً ما من الحياء بحيث يشعر بـ«الإحراج» هو استنادٌ على هواء. وللتذكير فقط، فإنّ اتفاقات 13 آب 2020 جاءت في خضم عدوان «إسرائيلي» على غزة جرى في الفترة نفسها وامتد من 11 آب 2020 ولعدة أيامٍ تلت، وإن لم يكن حرباً بوزن ما جرى في 2021 أو 2022، ولكنه تضمّن إجراءات «إسرائيلية» بينها تشديد الحصار على القطاع المحاصر، عبر إغلاق معبر كرم أبو سالم ابتداءً من يوم 11 آب، وكذلك تقليص مساحة الصيد البحري من 15 إلى 8 ميلاً بحرياً، إضافة لغارات جوية على القطاع يوم 14 آب، أي في اليوم التالي لتوقيع الاتفاقات.
ما هي الأسباب الحقيقية؟
بكلمة واحدة، يمكن القول إنّ السبب الحقيقي وراء إلغاء «الاحتفال»، أو ربما تأجيله إلى أجل غير مسمى، هو أنّ ما سُمي «صفقة القرن» وما تضمنته من اتفاقات تطبيع، قد وصلت إلى نهايتها المحتومة، ولم يعد لها أيُّ أفقٍ، حتى وإنْ كانت الحكومات المطبّعة تتعامل مع الإلغاء كتأجيل، وبشكل «تكتيكي» بانتظار تغير الظروف... فالظروف تغيّرت وتتغير فعلاً، ولكن باتجاه واحد هو بالضد من مصالح كيان العدو؛ ولنجمل المتغيرات الكبرى المؤثرة بما يلي:
أولاً: استندت «صفقة القرن» إلى افتراضٍ ونيّة هي تشكيل قطب يتحالف فيه الصهاينة مع المطبّعين العرب وخاصّة في الخليج والمغرب، في إطار العداء مع إيران شرقاً والجزائر غرباً... ولكن ما الذي حصل؟ من جهة تعزّزت مواقع إيران مع تعزز التوازن الدولي الجديد، وبات حلّ الأزمة بينها وبين الخليج العربي إمكانية فعلية عبر الوساطة والتحفيز الروسي والصيني. وتبخّر فكرة «الناتو العربي» هو أحد المؤشرات الواضحة على تهافت محاولات دمج الكيان في المنطقة. من جهة الجزائر، فقد تبيّن أن مواقعها هي الأخرى باتت أقوى وأكثر رسوخاً خاصة مع اقترابها من دخول بريكس ومع مواردها الضخمة الطاقية وقدرتها على لعب دور وازن في المعادلات الأوروبية الراهنة.
ثانياً: استندت «صفقة القرن» إلى أكاذيب حول دخول «الجنّة» الاقتصادية الغربية من الباب «الإسرائيلي»؛ وتبيّن أنّ الفوائد المزعومة هي بالمحصلة غير موجودة أو بأحسن الأحوال هي أقل بكثير من الخسائر المترتبة على الاستقطاب المطلوب المنبطح للغرب والمعادي لروسيا والصين... فتلك الجنّة الموعودة ذاتها ظهر أنها تتحول إلى جحيمٍ مستعرٍ بشكل متسارع؛ فالفيدرالي الأمريكي يمتص دماء كل الدول المرتبطة بالدولار عبر سياسة أسعار الفائدة وغيرها من السياسات، ويحكم عليها بالجوع والعوز عبر سياسات التخريب الشامل ضد روسيا والصين، ويطلب من «الحلفاء» انتحاراً جماعياً ومجانياً كقرابين للهيمنة الأمريكية.
ثالثاً: الأوهام التي حاول الصهيوني إقناع العالم بها، بل وحتى حاول إقناع نفسه بها خلال السنوات الماضية، والقائلة بأنّ القضية الفلسطينية باتت محصورة في غزة، وعاجلاً أم آجلاً يمكن احتواؤها، هذه الأوهام تلاشت كلياً؛ فغزّة نفسها لم تركع، بل ولا يمرّ عامٌ إلا ويحمل معه تطوراً جديداً في قدرة المقاومة فيها على الصعد المختلفة. أكثر من ذلك، فإنّ «وحدة الساحات» ابتداءً من الشيخ جراح وما تلاه، قد باتت أمراً واقعاً بحيث غدت «المشكلة» بالنسبة للكيان، ليست فقط في غزة، بل وفي الضفة أيضاً وفي القدس وفي 48. وفوق ذلك كلّه هي مشكلة تموضع الكيان دولياً على الضفة الخاسرة، أي على ضفة الدولار، وهو التموضع الوجودي للكيان، والذي هو نفسه سيكون أحد أسس نهايته...
رابعاً: المعركة الدولية الكبرى الجارية، التي تقف في أحد ضفتيها الصين وروسيا ومعهما حلفاء كثر من أمريكا اللاتينية إلى إفريقيا إلى آسيا، تقف في ضفتها الثانية لا الولايات المتحدة أو أوروبا كدول، بل أهم من ذلك، رأس المال المالي العالمي الدولاري الذي يحكم الغرب بأسره ويفرض هيمنته على النظام المالي الدولي، وعلى النظام السياسي الدولي. وفي القلب من رأس المال المالي هذا، الكتلة الصهيونية، والتي لا تعدو «إسرائيل» أن تكون أحد أدواتها ومشاريعها... ولذا، مرة أخرى، فإنّ وجود هذه الأداة محكوم بنتائج هذه المعركة، والتي باتت واضحة لكل ذي عقل.
فلنحتفل نحن إذاً!
ربما يكون امتناع أنظمة التطبيع عن الاشتراك في «احتفالات التطبيع» مجرّد قرار «تكتيكي» من وجهة نظرها، وخاصة ضمن الظرف المرتبط بتحسن العلاقة مع إيران، واقتراب توقيع الاتفاق النووي مرة جديدة... ولكنّ هذا الامتناع، وسواء وعت تلك الأنظمة أم لم تعِ، هو في جوهره نتاجٌ للنقاط الأربع التي ذكرناها أعلاه...
وإذا كان كيان العدو قد فشل في «الاحتفال» بأوهام ابتلاع القضية الفلسطينية عبر «اتفاقات التطبيع» و«صفقة القرن»، فربما من حقنا نحن أن نحتفل بذكرى هذه الاتفاقيات، بوصفها أحد آخر المسامير في نعش محتل همجيٍ عاث خراباً في كل بلدان المنطقة وعبر ما يصل إلى مئة عام...