سد النهضة... مأزق أم تكامل إقليمي
رهام الساجر رهام الساجر

سد النهضة... مأزق أم تكامل إقليمي

لا يخفى على أحد أنّ تعقُّد وتصاعد الأزمات داخل منطقة القرن الإفريقي من الحرب في تيغراي، وبؤرة التوتر المُلتهبة على الحدود السودانيّة-الإثيوبيّة، وصولًا لأزمة سدّ النهضة الإثيوبي تُمثّل جميعها السيناريو الكارثي الأمثل الذي تبتغيه واشنطن هناك، وهو ما عبّر عنه ديبلوماسي الأزمات فيلتمان حينها بقوله: إنّ الأزمة السوريّة سوف تصبح مسألة هيّنة مقارنة بالفوضى المُتصورة في أثيوبيا.

على الرغم من أنّ سدّ النهضة الإثيوبي من المُقرَّر أنْ يدخل الخدمة في نهاية عام 2022 وفق التصريحات الرسميّة، إلا أنّه حتى الآن لم يتم التوصل إلى اتفاق بين مصر وإثيوبيا والسودان فيما يتعلق بحقوق كلّ منهم في مياه نهر النيل، فمنذ ما يقرب العقد من الزمان، كان السدّ الكبير مصدر توتر بين الدول الثلاث، والذي يُعدّ قضية من القضايا الأساسية في قلب الخلافات بين الدول المتشاطئة المختلفة حول مياه حوض النيل.

 رفض تام

اكتملت المرحلة الثالثة لملء خزان مساحته 74 مليار متر مكعب خلف سد النهضة الإثيوبي ما أعاد إشعال التوترات لواجهة الأحداث من جديد، إذ أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في خطاب تلفزيوني، الجمعة 12 من آب الجاري، اكتمال المرحلة الثالثة من ملء خزان السد الذي تبنيه على النيل الأزرق من موقع السد شمال غربي البلاد، «ما ترونه خلفي هو الملء الثالث مكتملاً»، في خطوة قد تزيد من تعميق الأزمة المائيّة بين البلدان الثلاثة، التي لم تُحقّق فيها الجهود الدبلوماسيّة طويلة الأمد أيّ اختراقٍ يُذكر طوال السنوات الماضية.

في حين تترقب القاهرة والخرطوم التأثيرات الناجمة عن المرحلة الثالثة من ملء خزان سد النهضة على نهر النيل على حصتيهما في المياه، وسط احتجاج مصر الرسمي وإعلان السودان حالة التأهّب، حيث أعلنت وزارة الخارجيّة المصريّة، في بيانٍ لها، في 29 من الشهر الفائت، أنّ وزير الخارجيّة سامح شكري وجّه خطاباً إلى رئيس مجلس الأمن الدولي لتسجيل اعتراض مصر ورفضها التام لاستمرار إثيوبيا ملء سد النهضة بشكل أحادي دون اتفاق مع مصر والسودان حول ملء وتشغيل هذا السد، وذكر البيان أنّ ذلك يُعدّ «مخالفة صريحة لاتفاق إعلان المبادئ المُبرم عام 2015 وانتهاكًا جسيمًا لقواعد القانون الدولي واجبة التطبيق، والتي تُلزم إثيوبيا، بوصفها دولة المنبع، بعدم الإضرار بحقوق دول المصب»، في حين أعلنت وزارة الري السودانية رفع حالة التأهب القصوى، حيث تتوقع أن تسجل مناسيب النيل الأزرق ارتفاعًا كبيرًا خلال موسم الفيضان الحالي، كأحد تداعيات الملء الثالث لسد النهضة الإثيوبي، بينما ما زالت إثيوبيا تُصّر على أنها ليست ملزمة قانوناً بمشاركة التفاصيل الفنية للسد مع الجانب المصري، في وقت تغيب فيه المفاوضات بين مصر والسودان وإثيوبيا منذ نيسان العام الماضي، إلا أنّ ما يبدو لافتًا في التحرّك الثالث نحو مجلس الأمن، تأكيد القاهرة على أنّها «تحتفظ بحقها الشرعي المكفول في ميثاق الأمم المتحدة، باتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لضمان وحماية أمنها القومي إزاء أيّ مخاطر قد تتسبب بها مستقبلًا الإجراءات الأحاديّة الإثيوبيّة».

آثار جانبية

جاء البيان المصري بناءً على الإخطار الرسمي من الجانب الإثيوبي للملء الثالث، في 26 تموز الماضي - أيّ بعد بدء التخزين بأكثر من أسبوعين - والذي يفيد باستمرار الأخير في ملء خزان سد النهضة خلال موسم الفيضان الجاري، علمًا أنّ مدير السد كيفيلي هورو كان قد أعلن في نهاية أيار الماضي أنّ التخزين سوف يتم في شهري آب وأيلول، ومع استمرار النفي الرسمي أقر هورو باحتمال تأثر مصر والسودان بعمليات الملء، قائلاً «قد تكون هناك آثار جانبية، لا نستطيع إنكار ذلك، لكنه ليس بالضرر الحقيقي، هذه الآثار الجانبية تكون خلال فترات الملء، وفيما عدا ذلك في أوقات التشغيل الاعتيادية ما يدخل (من مياه) هو ذاته ما يخرج»، أما فيما يخص المخاوف المصرية السودانية، أشار هورو إلى أنّ بلاده تبادلت المعلومات بشأن السد مع البلدين، وتصريحاتهما عن خطورة وتأثيرات السد «لا تعني إثيوبيا»، معللًا ذلك بأنّ إثيوبيا لم تتخط ما اتفق عليه عام 2015 بخصوص عمليات الملء.

 

تأثير الملء الثالث

يؤكد غالبية الخبراء أنّ أحد أهم المخاطر الرئيسية المحتملة على مصر هو أن عملية ملء سد النهضة في غضون 3-5 سنوات سيؤدي إلى انخفاض بنسبة 20٪ في حصة مصر - كونها تعتمد على النيل لتأمين 80-85٪ من مياهها- البالغة 55.5 مليار متر مكعب وفقًا لاتفاقيتي 1929 و1959،  ما يؤدي إلى تدهور نصيب الفرد من المياه المصرية من 2500 م3 سنويًا إلى   600 م3، وأنّ الأزمة ستتضح أكثر خلال سنوات الجفاف، ولا سيّما أنّ هذا العام هو آخر أعوام الفيضان، حيث أنّه خلال سنوات الجفاف القادمة سينخفض معدل المياه في النيل الأزرق إلى 31 مليار متر مكعب، مما سيأجج صراعًا بين الدول الثلاثة على هذه الكمية المحدودة من الماء.

 في حين صرّح عدد من الخبراء عن إمكانيّة احتواء الضرر الناجم عن التعبئة الثالثة كون أنّ بناء السدّ الإثيوبي مُتأخر عن موعده مما يجعل قُدرة إثيوبيا على الاحتفاظ بالمياه أقل مما تمّ الإعلان عنه رسميًا، حيث أشار عباس شراقي أستاذ الموارد المائية بجامعة القاهرة إلى أنّ الملء الأول لسدّ النهضة الذي تمّ في 2020، كان مقررًا له 18 مليار ونصف المليار م3 من المياه، ولكنهم لم يخزنوا سوى 5 مليارات فقط، أما الملء الثاني فكان المفترض أن يصلوا لـ18.5 مليار م3 ولكنهم لم يخزنوا سوى 3 مليارات من المياه فقط، وأكّد أنّ إجمالي ما تمّ تخزينه في الملء الأول والثاني لسدّ إثيوبيا بلغ 8 مليارات م3 من المياه، موضحًا أنّ التخزين في سدّ النهضة هذا العام لن يزيد عن 6 مليارات م3 من المياه، ليكون الإجمالي 14 مليار م3 وهي السعة الأصلية بحسب شراقي، فيما أكّد خبراء آخرون على أنّ بحيرة سد النهضة لن تُملأ قبل 15 عامًا، أيّ أنّ الكمية المطلوبة ستكون قد تم تخزينها بالكامل عام 2035، فإن لم يكتمل البناء الأوسط لن تكون هناك أيّ قدرة على التخزين، وهذا يعود في المقام الأول للأسباب الماليّة واستنزاف البلاد في الحروب الداخليّة، وبالتالي فإن القاهرة تحاول احتواء الموقف حتى هذه اللحظة لضيق خياراتها، والتي قد تتضمن تعظيم الاحتياطي الإستراتيجي من المياه، وتنمية العلاقات مع السودان ودول أفريقيا وصولاً حد التدخل لتخريب السد عن طريق «ضربة عسكريّة دقيقة» وفقًا لمراقبين، أو عبر التدخل سرًا إلى جانب التيغراي في الصراع الجاري كون السدّ يقع على مقربة من الإقليم.

 فقدان السيطرة

كان القرن الإفريقي وما زال عقدة استراتيجية هامة لها أثر حاسم على الاستقرار لا في إفريقيا فقط، بل حتى على الملاحة من البحر الأحمر شمالًا وصولًا للمحيط الهندي جنوبًا، هذه الأهمية الاستراتيجية تطلبت من واشنطن دورًا مشبوهًا في التوتير يلعب على خطوط المشكلات التاريخية الداخليّة والبينيّة مُعرقلًا حلّها لعقود، جاعلًا المنطقة بأكملها على صفيح ساخن لن يطول الوقت بها حتى تنفجر، وما إن بدأ التوازن الدولي يلعب دوره الحاسم على الأرض في كثير من ملفات المنطقة بدأت الولايات المتحدة تفقد السيطرة، الأمر الذي فرض عليها المزيد من التراجع، والذي تحاول عبثاً التغطية عليه بإثارة الفوضى والصراعات البينية المستدامة لإدامة إضعاف هذه الدول وعدم ترك المنطقة لروسيا والصين التي وجدت الدول الإفريقيّة في العلاقة معهما بوابة حقيقيّة للتنمية بعيدًا عن السياسة الغربية التي تم فرضها لعقود.