مؤتمرات بروكسل حول «سورية»: ديون أكثر من «مساعدات»
انعقد في التاسع والعاشر من أيار الجاري مؤتمر بروكسل السادس حول «دعم مستقبل سورية والمنطقة»، وسلسلة مؤتمرات بروكسل هذه بدأت منذ عام 2017، كمنصة رئيسية لحشد وتنظيم التمويل الغربي بالدرجة الأولى تحت أهداف معلنة من قبيل «تلبية احتياجات اللاجئين السوريين والمجتمعات المضيفة لهم في البلدان المجاورة». لكن ما يجدر بالتوقف عنده بشكل خاص، وإضافة للمتاجرة المستمرة بمعاناة اللاجئين السوريين والريع السياسي الناجم عنها، وتحويل ذلك إلى «تطبيع» لإطالة الأزمة وحتى «تطبيع» تقسيم سورية عبر آليات توزيع التمويل، والعرقلة العملية لتنفيذ القرار 2254، تجدر الإشارة إلى تراجع التمويل ونسبة تلبية الاحتياجات المقدرة، وفق اعتراف التقارير الرسمية.
ويبدو أنها سوف تستمر بالانخفاض ليس فقط لتعمق الأزمة الاقتصادية والغربية خاصةً، بل ولأنّ «حنفية» التمويل هذه تحكمها بالأساس شروط سياسية وليست إنسانية، وتستغل من عدة جهات ومنظمات وحكومات المنطقة بفسادها الليبرالي الذي يحظى بالرعاية الغربية، لإلقاء اللوم في فشلها الداخلي على أزمة اللاجئين و«التسوّل» الدولي على ظهورهم ودمائهم، كلما غرق مركب هنا أو احترقت خيمة هناك، بينما يستمر هذا الفساد في كل المنطقة بنهب بلاده وفقرائه في الداخل من مواطنين ولاجئين.
بالنسبة لمؤتمر بروكسل السادس المنعقد مؤخراً، فقد حضره أكثر من 75 وفداً من دول الجوار المضيفة للاجئين السوريين والدول الشريكة والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي والمنظمات الدولية والمحلية، بما في ذلك الأمم المتحدة، و«المجتمع المدني». ونشرت مفوضية الاتحاد الأوروبي في اليوم الثاني الختامي من المؤتمر (في 10 أيار 2022) تقرير «التسليم مقابل التعهدات» التي تم التعهد بها في مؤتمر بروكسل السابق (الخامس 30 آذار 2021).
«تعهّدات» غير ملزمة و«ديون»
من الجدير بالذكر أيضاً أن جزءاً من التمويل بشكل «قروض» أي «ديون» سوف يستحق دفعها لاحقاً، مما يثير التساؤل على حساب من سوف يتم سدادها وكيف ومتى وبأية شروط وفوائد؟ ففي أحدث سلسلة من تقارير «التتبع المالي» لنشاطات مؤتمر بروكسل الصادر بعد المؤتمر الأخير في أيار 2022 نجد ما يلي:
«باستضافة من الاتحاد الأوروبي وبرئاسته بشكلٍ مشترك مع الأمم المتحدة، أعلن مؤتمر التعهدات التاسع تعهداً تمويلياً إجمالياً بمبلغ 4.4 مليار دولار (3.6 مليار يورو) وللعام 2021، وتعهّدات متعدّدة السنوات بما يقارب 2 مليار دولار (1.7 مليار يورو) للعام 2022 وما بعده، بالإضافة إلى ذلك أعلنت المؤسسات المالية الدولية والمانحون كذلك 7 مليار دولار (5.9 مليار يورو) بشكل قروض للعام 2021 فما بعد».
ويدرج التقرير عند كلمة «قروض» loans حاشية تقول بوضوح: «تعهّدات القروض تشير إلى استهدافات الإقراض، والتي تعتمد على رغبة المتلقّي وقدرته على الالتزام بالبنود وبمتطلّبات الضمانات المطلوبة من قِبل المُقرِض».
ويقول التقرير بأنّه يرصد أحدث هذه الأرقام كما كانت حتى آخر يوم من عام 2021 الماضي، وأنّ «هذا التقرير يلخص التقدم المحرز في المساهمات بالاستجابة في سورية وفي الدول المجاورة المستضيفة للاجئين – الأردن، لبنان، تركيا، العراق، ومصر».
إنّ تقارير بروكسل توضح عادةً في ملحق بها تعريف «المصطلحات» ذات الصلة:
- فهي تعرّف «التعهّد» Pledge بأنه «في حالة المِنح، يشير إلى إعلان المانحين بشكلٍ غير ملزم، لنواياهم بالمساهمة أو التخصيص».
- و«الالتزام» Commitment هو «خطة مثبّتة ومعبر عنها كتابةً ومدعومة بصناديق تمويل ينفّذها المانح... ولكن لم يتم بعد كتابة عقود بها أو صرفها... وفي حالة القروض يجب فهم المبالغ المُلتَزم بها من المؤسسات المالية على أنّها التي حصلت على موافقة هذه المؤسسات نفسها».
- «العقد» Contract هو اتفاقية ملزمة وموقعة من كل من الطرفين المانح والمتلقي (للمنحة أو القرض) قبل صرف المبلغ المتعاقد عليه.
- «الصرف» Disbursement هو عملية تسليم المبلغ من الجهة المانحة إلى المتلقية وذلك بموجب عقد أو التزام. ومن الجدير بالملاحظة أنّ التقارير تؤكد على أنّ «المصروفات تشير إلى التمويلات التي تصرف من المانح إلى المتلقي من المستوى الأول، وليس ما ينفَق في نهاية المطاف على مستوى المشروع». هذا مهم للغاية لأنّه يعني بأنّ مجرّد «صرف» المبلغ والإعلان عن حجمه في التقارير ليس ضمانةً بأنّ التمويل قد وصل إلى «مستحقّيه» من الناس، كالمواطنين في الداخل والنازحين واللاجئين والمحتاجين...إلخ. لأنّ ذلك يعتمد إلى حد كبير على «المتلقي الأول» وهو عادةً حكومة أو منظمة غير حكومية، وبالتالي تكون النتيجة أسوأ كلما كان الفساد أكبر لدى المتلقي الأول.
لمحة عن نِسَب «الوفاء بالمطلوب»
تقارير متابعة التمويل الصادرة عن بروكسل تصنف التمويل في فئتين:
■ «خطة استجابة الأمم المتحدة الإنسانية لسورية» أو اختصاراً HRP: وتعني الاستجابة داخل سورية.
■ «خطة الأمم المتحدة الإقليمية للاجئين والقدرة على مواجهة الأزمات» أو اختصاراً 3RP: وهي تغطي «الحماية والاحتياجات الإنسانية والصمود في البلدان المضيفة للاجئين (لبنان والأردن وتركيا والعراق ومصر)».
ومن التقرير الأحدث والتقارير السابقة نلاحظ أنّ هناك ميلاً عامّاً نحو تدهور نسب تمويل الاحتياجات الإنسانية للسوريين داخل وخارج البلاد. فعلى مدى السنوات الأربع الماضية (2018 – 2021) تراجعت نسبة تلبية الاحتياجات المقدّرة كما يلي (وكما توضح المخططات المرفقة أدناه من التقارير):
- تلبية تمويل الاستجابة المخصصة للداخل السوري HRP انخفضت من 65% إلى 64% ثم 58% وصولاً عام 2021 إلى 47%.
- تلبية تمويل الاستجابة في بلدان الجوار السوري 3RP كانت 52% عام 2018، ثم 58% عام 2019، ثم انخفضت إلى 53% عام 2020، وصولاً في عام 2021 إلى 29%.
ختاماً، تجدر الملاحظة بأنّه وفق أغلب التقارير السنوية بما في ذلك التقرير الأحدث كان المانحون الرئيسيون من حيث حجم المبالغ هم الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي (وخاصة ألمانيا). وبالتالي فإنّ التراجع المستمر في هذه «الاستجابة الغربية» لعواقب الأزمة السورية تنطوي على مؤشر إهمالٍ متعمَّد، وهذا ينسجم مع سلوك الغرب السياسي تجاه الأزمة السورية وتجاه عرقلة التنفيذ الكامل لقرار مجلس الأمن 2254 (وبالتقاطع مع متشددي الطرفين). وليس تراجع الاستجابة الإنسانية ناجماً فقط عن تدهور الغرب اقتصادياً وأزمته (ولو أنّ هذا عامل مهم أيضاً) ولكنه ليس الوحيد، لأننا إذا قارنّا مثلاً الاستثمار الغربي المسيّس في الأزمة الأوكرانية نجد أنهم يضخون مبالغ هائلة لتسعير الحرب من جهة ولتمييز اللاجئين الأوكران عن غيرهم من جهة ثانية، رغم الأزمات الاقتصادية التي يعاني منها هؤلاء «المانحون» الغربيون. فهناك مسعى لتعقيد الأزمة السورية في بعدها الإنساني والاجتماعي أيضاً وليس فقط الاقتصادي والسياسي، بما يتوافق مع نواياهم في تدمير الإنسان السوري بحيث يصعّبون قدر ما يستطيعون إمكانيات التعافي اللاحق للسورين وإعادة إعمارهم وطنهم على نحو سليم، وهذا يؤكد على أنّه لم يعد هناك حلّ (ولا حتى تخفيف) للأزمة الإنسانية أيضاً كما الاقتصادية-الاجتماعية وكلّ مشتقّاتها سوى بالحلّ السياسي بالدرجة الأولى، وعبر الإسراع بالتنفيذ الكامل للقرار 2254.