مالي… المستعمر التاريخي يخرج منكسراً مجدداً
تشهد جمهورية مالي تطورات لافتة في سياستها الخارجية ما من شأنه الإسهام بشكل فاعل في دفع التطورات التي تشهدها القارة الإفريقية منذ سنوات، فمالي التي شهدت كثيراً من التقلبات السياسية في السنوات الماضية تبدأ فيما يبدو في مرحلة جديدة عنوانها العريض القطع مع فرنسا التي تسعى جاهدة للحفاظ على موطئ قدمٍ في مستعمراتها السابقة.
في مطلع شهر أيار الجاري أعلن المجلس العسكري الذي يسيطر على الحكم في مالي إلغاء الاتفاقيات العسكرية الموقعة مع فرنسا والدول الأوروبية الأخرى، وفي الوقت الذي برر فيه المجلس العسكري قراره هذا بأنه جاء رداً على الانتهاكات المتكررة للمجال الجوي المالي، إلا أن تطور العلاقة بين مالي وفرنسا كان يسير بهذا الاتجاه منذ فترة، مما يجعل ما يجري خطوات متوقعة وتحديداً مع التطور السريع الذي تشهده العلاقات بين مالي وروسيا.
انقلابات متكررة
مالي، كغيرها من المستعمرات الأوروبية السابقة لم تشهد استقراراً سياسياًَ حقيقياً منذ استقلالها، فالمشاكل التي خلفها الاستعمار كانت كفيلة بتلغيم البلاد والحياة السياسية فيها، وهذا ما تجلى في صورٍ مختلفة كان منها الانقلابات السياسية المتكررة تاريخياً. وكان آخرها الذي قاده الكولونيل أسيمي غويتا في 2020، الخطوة التي واجهتها الدول الغربية والأفريقية بدرجة عالية من الاستنكار، فمنهم لأسباب تتعلق بكونها تغيير للنظام القائم بالقوة ومنهم من رأى فيها تهديداً مباشراً لنفوذه في مالي. غويتا القائد البارز قام بمناورة واسعة في استجابة أولية للضغوط، وقام بإشراك قوى مختلفة في السلطة وتعهد بأن تعود السلطة للقوى المدنية بعد انتهاء المرحلة الانتقالية، وجرى تنصيب باه نادو كرئيس انتقالي، لكن غويتا وفي رده على النزعة الاستقلالية لدى الرئيس الانتقالي ورئيس حكومته قام في أيار 2021 بإزاحته عن الحكم بالقوة مجدداً في خطوة وصفتها فرنسا بأنها «انقلاب داخل الانقلاب». لكن أسيمي غويتا نجح في تثبيت أقدامه والسيطرة على الوضع ليصبح الحاكم الفعلي ورئيس جمهورية مالي.
الاضطرابات التي شهدتها العلاقات الفرنسية-المالية جاءت في سياق طبيعي إذ إن فرنسا ومنذ العام 2013 كانت قد بدأت تدخلاً عسكرياً في إفريقيا متذرعة بمحاربة الإرهاب، وشاركت في هذه العمليات قوات أوروبية مشتركة وقوات حفظ السلام الدولية، إلا أن بعض قطاعات الجيش في مالي لم تلحظ مساهمة فرنسية فاعلة في المنظمات الإرهابية والتي تخوض معارك في كل منطقة الساحل الإفريقي، وثبت هذا التقاعس الفرنسي الفكرة التي تقول أن فرنسا تحاول إطالة أمد بقاء قواتها والحفاظ على استنزاف الدول الهشة في أفريقيا، ولهذا استشعرت الخطر بعد الانقلاب الذي قاده أسيمي غويتا فهو عسكري بارز له نفوذ واسع في أواسط العسكريين الماليين، وعلى الرغم من كونه ضابطاً قديماً في الجيش الذي سيطرت عليه القوى الغربية منذ زمن، إلا أنه تلقى تدريبات في روسيا في العام 2019 مما دفع الدول الأوروبية لتوجيه اتهامات ضمنية إلى موسكو بالوقوف وراء خطوات غويتا الطموحة.
السعي نحو التفجير
في الاستجابة الفرنسية للتغيرات غير المواتية في مالي بدأت تعمل على تخفيض قواتها ووضعت خطة للانسحاب والتي تخفي بين طياتها محاولات حثيثة لتفجير الوضع في مالي، فوجود القوات الفرنسية شكلاً وزناً عسكرياً أساسياً في البلاد، لا بالنسبة لدولة في مالي فحسب بل بالنسبة للقوات الأوروبية وقوات حفظ السلام الدولية، وإن الانسحاب السريع الذي تقوم به هذه القوات سيؤدي بالتأكيد إلى سحب القوات الأوروبية وقوات حفظ السلام التي سترى نفسها مكشوفة أمام ضربات الإرهابيين. لكن الجيش في مالي والذي يتلقى مساعدات عسكرية روسية يبدو ورغم حساسية الموقف واثقاً من السيطرة على الأجواء، ويؤكد المسؤولون في مالي أن الدعم والتدريب العسكري الذي يتلقونه من روسيا بشكلٍ مباشر وغير مباشر كان كفيلاً بتغيير الخريطة على الأرض سريعاً، وهو ما يرون فيه دليلاً إضافياً على السلوك المشبوه للقوات الفرنسية في البلاد.
لا تحظى فرنسا بسمعة طيبة في مالي، وهو أمر طبيعي إذا ما نظرنا إلى ماضيها الاستعماري، ولهذا يلقى التوجه الحالي للعسكريين الماليين دعماً شعبياً واسعاً ويخرج في مالي مظاهرات حاشدة تردد شعارات منددة بالاستعمار مثل «فرنسا ارحلي» و«لا للاستعمار» لكن في الوقت نفسه يجري على الأرض صدامات مسلحة عنيفة والتي يمكن أن تتصاعد بعد خروج القوات الغربية من مالي، لكن روسيا تسعى بوضوح إلى تثبيت اتجاه معاكس تنجح فيه الدولة في مالي في بسط سيطرتها أملاً في أن تدخل البلاد مرحلة استقرار تكون الأولى في تاريخيها.