يوسف العظمة... متى يعود الجثمان المغيّب منذ 100 عام؟!
قبل سنوات الأزمة كان يمكن لأهل قدسيا والهامة أن يروا في الصباح الباكر من يوم 24 تموز ظاهرة غير معتادة في سورية، مجموعة من الشباب يرفعون الأعلام السورية وصور يوسف العظمة ولافتات تقول: (على درب يوسف العظمة سائرون) ويمرون في الساعة السادسة صباحاً تقريباً على طريق بيروت القديم حيث تجري بقايا نهر بردى بجوار بلدات ريف دمشق الغربية دخولاً إلى القلمون الغربي وصولاً إلى ميسلون حيث يوجد ضريح يوسف العظمة.
المسير السنوي الذي كان ينظمه تيار قاسيون واللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين في حينها بتاريخ ذكرى معركة ميسلون، كان إحدى محاولات استعادة السوريين لرموز وطنية جامعة نالت ما نالته من الإهمال... سبقها حملة لمنع هدم بيت يوسف العظمة في منطقة المهاجرين الذي خرج منه للمعركة، ومحاولة تحويل بيته في حي الشاغور من ورشة تريكو إلى متحف... اليوم تحوّل البيتان إلى متحفين مغلقين لا يعلم بهما أحد، حتى إن قلّة من أهل الحي يعلمون أن يوسف العظمة كان (جارهم)، وأن البيت الدمشقي القديم المجاور خاض نقاشات وصراعات مفصلية أوصلت هذا القائد العسكري ومن خلفه من وجوه وتيارات وطنية سورية لأخذ قرار بالموت لتحيا فكرة المقاومة والاستقلال، وهو ما نجح به أبطال ميسلون.
في كتب التاريخ المدرسية التي درسها جيل الثمانينيات والتسعينيات كان يوسف العظمة يمرّ مروراً سريعاً بفقرة تشير إلى (وزير الدفاع السوري الذي تصدّى للدخول الفرنسي إلى دمشق في معركة ميسلون) بأقل من مئة كلمة وصورة (مغبّشة) تأتي في نهاية درس تاريخ، هذا النوع من الفقرات الذي يعتبره الطلاب (كمالة عدد) وثقافة عامة غير مطلوبة امتحانياً، وغالباً ما تختصره مدرّسة التاريخ...
يوسف العظمة مغيّب رسمياً، وتحديداً عبر التعامل معه ومع باقي رموز الثورة السورية الكبرى عبر التقارير التلفزيونية الرسمية في الذكرى السنوية فقط، وأيضاً بذلك النوع من التقارير (الوطنية) الملأى (بالكليشيهات) والتي (تقلب التلفاز عندما تراها).
اكتشفنا لاحقاً وتحديداً جيل الثمانينات والتسعينيات أننا لا نعرف شيئاً فعلياً عن تاريخ البلاد الحديث الذي كتبته معركة ميسلون والثورة السورية ضد الفرنسيين وصولاً للجلاء.
كنا نزور الضريح لنتفاجأ بعدها أن الضريح رمزي ولا يحوي جثماناً، وأن الفرنسيين أخفوا الجثامين وأخذوا جزءاً منها ليمنعوا تحوّل أضرحة الشهداء إلى ذاكرة شعبية جمعية... ويوسف العظمة ورفاقه في غربة لها اليوم 100 عام.
لم يطالب أحدٌّ حتى اليوم بالجثامين، بل غُيّبت أسماء بقية الشهداء وغُيّب عددهم الدقيق، ولم يجرِ أيّ بحث جدي وطني عن هذا الإرث القريب على مستوى جهاز الدولة، وكانت هنالك فقط جهود لباحثين ووجوه وطنية سورية ومحاولات توثيقية وتحليلية معتبرة ولم يلقَ الضوء عليها... مقابل جهد (لباحثين) وسياسيين من مشوّهي الحقائق الذين ترى دائماً طروحاتهم في الذكرى السنوية لميسلون، في محاولة لتعميم بعض التحليلات المنحرفة والمجتزأة وسيئة النية، مثل اعتبار يوسف العظمة (عثماني)، وأبعد من ذلك هنالك من يقول إنه (انتحاري ومغامر)!
الفكرة بسيطة... يوسف العظمة هو رمز للحظة وطنية سورية جامعة انتهت إلى أخذ قرار سياسي بتجميع بقايا الجيش الذي حلّه الملك فيصل، ليخرج يوسف العظمة ورفاقه ومتطوعون من أهالي دمشق وريفها للاستشهاد في معركة أرادوا منها أن تحيا المقاومة في وجه المستعمر الفرنسي، وكانت شهادته أول راية مرفوعة للاستقلال القادم بعد ربع قرن.
أكثر ما تحتاجه سورية في منعطفها الخطير هو النقاط الوطنية الجامعة والمضيئة، واستقلالها الثاني القادم عندما تصبح بلاداً ذات سيادة شعبية حقيقية سيرفق حتماً بقطع كل ما تبقى من صلات التبعية العميقة والممتدة لليوم مع المنظومة الغربية التي بدلت وجوه وأدوات استعمارها ووكلاء نهبها.
الاستقلال الثاني سيعيد جثمان يوسف العظمة ورفاقه من غربته ويدفنه في التراب الذي مات من أجله، ويرفع أسماء معركة ميسلون مجدداً ويخبرنا قصصهم التفصيلية، ويعطينا جميعاً جواباً مشبعاً بالزهو واليقين عن أسئلة تقضّ مضاجع السوريين اليوم: من نحن، ولماذا نحبّ البلاد، وهل هي لنا؟! ليكون الجواب نحن ورثة فدائيين وسياسيين رسموا صورة لبلاد ما زالت منشودة وأوّلهم يوسف العظمة.