رسائل من 1920 إلى 2020
نعتقد أن ذكرى معركة ميسلون، والرمز الذي اقترنت هذه المعركة باسمه (يوسف العظمة)، تحمل الكثير من الرسائل والمعاني والدلالات، التي من المفيد اكتشافها وتثبيتها كما هي، ضمن شرطها التاريخي، بعيداً عنا تحت هذه العباءة، وممارسة (الموبقات الوطنية) من فساد وقمع، وبعيداً عن فذلكة صبيان اللبرلة عبر السخرية منها ومحاولة تشويهها، وتقزيمها، وفي هذا السياق سنحاول الإشارة إلى عدة قضايا:
أولاً: عدم خضوع يوسف العظمة للأمر الواقع، بما فيه تحدي الوعي التقليدي الذي كان سائداً بين النخب السورية آنذاك، والذي كان قائماً على ثنائية وهمية مرفوضة ومضللة بالنسبة إلى الوطنية السورية: بين الحنين إلى (العثمنة) بشكل أو آخر، ومن كان يريد لعق حذاء غورو، رمز الغزاة الجدد، ليكون الفعل النوعي الذي بادر إليه الرجل تأسيساً للخيار الوطني السوري الجديد.
- لم ينظر (العظمة) إلى التاريخ من خلال الذات والوضع القائم، بل مارس دوره كفرد في سياق التطورالتاريخي الموضوعي، بغض النظر إن كان يعي ذلك بالمعنى النظري أم لا، فقد كان خياره قيادة معركة محسومة النتائج بالمعنى العسكري، ولكنها أيضاً محسومة سياسياً ولكن بالاتجاه المعاكس، كونها توافقت مع التطور التاريخي. فكانت الثورة السورية الكبرى بعد خمس سنوات مؤشراً على تقدم هذا الخيار، وكان زخم النضال التحرري حتى تتوج بالاستقلال، فغورو الذي انتصر عسكرياً عام 1920 انكسر في عام 1925 و هُزم عام 1946، ويوسف العظمة الذي خسر عسكرياً عام 1920 تقدم في 1925 و انتصر عام 1946، بمعنى آخر يوسف العظمة نظر إلى الواقع على انه متحرك ومتغير، في حين نظر من جر عربة غورو من السوريين الى الواقع على أنه ساكن، وأن فرنسة لن تقهر. (الحكي عن الماضي اسمعوا يا أبناء اليوم)
- إن الحكم على تجربة يوسف العظمة وخياراته من خلال رد الفعل على سياسات الأنظمة المتعاقبة في البلاد، بما فيه نتائج الأزمة الراهنة، و(الحنين الى الاستعمار) هو نتاج (استحمار)، وهو حكم ظالم اذا استخدمنا اللغة المؤدبة، وهي سذاجة ووقاحة إن لم تكن خيانة، باللغة العارية، فالمشكلة ليست في خيار يوسف العظمة، بل بالضبط في عدم استكمال خياره بعد الاستقلال، حيث كان ينبغي استكمال التحرر السياسي بالتحررالاجتماعي، وانجاز الثورة الوطنية الديمقراطية، ولكن تم الخضوع لآليات الاستعمار الجديد بعد مرحلة الاستقلال.
- نتمنى ألا يتفلسف أحد ويقول، (يكفي تقديساً الأفراد) هذا ليس تقديس فرد، هذا اصطفاف إلى جانب خيار سياسي، عبر عنه الرجل، حيث ربط يوسف العظمة القول بالفعل، والوعي بالممارسة وضحى بنفسه ليقدم بذلك نموذجاً قيمياً رفيعاً بعيداً عن النفعية السياسية، والارتزاق على موائد أحد طمعاً في سلطة أو جاه شخصي. فمن حقه علينا سياسياً وأخلاقياً أن نعتبره رمزاً، ونذكره عنواناً لهذا الخيار، خصوصاً وأن هناك من يشككك ويشوه ويحاول تقزيم هذا الخيار، استغباءً أوغباءً.
- استكمال رسالة يوسف العظمة، ومن سار على خياره، لايعني الاقتصار على الاحتفاء به، بل يكمن في ظروف اليوم بالحفاظ على الإرث الوطني، وبالتحديد بالسير على طريق الحل السياسي وتنفيذ القرار 2254، من أجل استعادة السيادة الوطنية، والحفاظ على وحدة سورية، وطرد القوات الغازية.. وصولاً إلى التغيير الوطني الديمقراطي الجذري والشامل، وبناء سورية الجديدة.، إن مثل هذا الخيار يرتقي في أهميته، إلى مستوى الفعل النوعي الذي بادر اليه يوسف العظمة في ميسلون حيث خطا الخطوة الأولى على طريق الوطنية السورية الحقة.