أحمد الرز
email عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
عندما قاتل قادة الاستقلال الوطني السوري الاحتلال الفرنسي على امتداد النصف الأول من القرن العشرين، كانوا يخوضون هذا القتال وفي قلوبهم حلم ببناء وطنٍ حر يتمتع أبناؤه بخيراته، ودولة قوية بمؤسسات قوية تؤمِّن الكرامة لأبنائها. ومن يقرأ في مذكرات وتصريحات هؤلاء الرموز يدرك أنهم كانوا على دراية يقينية تامة - حتى بعد نيل الاستقلال - بأن الاستعمار لن يكف عن محاولة العودة مراراً وتكراراً لمنع الاستقلال الحقيقي ولمنع قيام مثل هذه الدولة ومثل هذه المؤسسات. لكن ربما لم يتخيل أحد منهم أن يوماً سيأتي وستجري فيه هذه العملية بأيادٍ «سورية» تعاود الكرّة مرة تلو أخرى للتخلص من مؤسسات الدولة وتصفيتها قسراً، حتى وإن كانت رابحة.
لا تزال تتفاعل تبعات الإعلان الحكومي عن التوجه نحو الدعم النقدي كبديل عن الدعم الاستهلاكي الذي كان قائماً في سورية. فمنذ أن أعلنت الحكومة السورية رسمياً يوم الثلاثاء 25/6/2024 نيّتها البدء بعملية إلغاء الدعم الحكومي عن السلع والمواد الأساسية وتحويله إلى دعم نقدي «بشكل تدريجي»، شهد السوريون سيلاً من التحليلات الإعلامية والاقتصادية التي اتفقت بمعظمها على رفض هذا التوجه، ولكن أغلب التحليلات ظلت أسيرة المعالجة السطحية لظاهرة الدعم دون النفاذ إلى جوهرها.
صدر يوم الإثنين الماضي، 10 حزيران 2024، المرسوم التشريعي رقم (17) لعام 2024، والقاضي بصرف ما أطلق عليها اسم «منحة»، بمبلغٍ مقطوع هو 300 ألف ليرة سورية للعاملين المدنيين والعسكريين وأصحاب المعاشات التقاعدية، على أن تصرف هذه «المنحة» لمرة واحدة فقط.
في ظل الأوضاع الاقتصادية المتدهورة التي يعيشها الشعب السوري اليوم، تعود فكرة التحول من الدعم الحكومي الاستهلاكي إلى الدعم «النقدي» إلى الواجهة مجدداً، فبحسب تقارير إعلامية محلية «يبدو أن حظوظ خيار استبدال دعم السعر النهائي لبعض السلع بتقديم دعم نقدي مباشر للأسر المستحقة باتت كبيرة هذه الأيام. وحسب ما أوضح مسؤول حكومي في جلسة نقاش عقدت مؤخراً فإن هناك اجتماعات حكومية مكثفة تجري لمناقشة هذا الخيار».
انعقدت النسخة الثامنة من مؤتمر بروكسل لـ«دعم مستقبل سورية والمنطقة» في السابع والعشرين من شهر أيار الفائت، وشارك فيه ممثلون عن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، والدول المجاورة لسورية، ودول ثالثة، بالإضافة إلى ممثلين عن الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والمنظمات «غير الحكومية» NGOs. وفي نهاية أعمال المؤتمر الذي استضافه الاتحاد الأوروبي في العاصمة البلجيكية، أعلن ما يسمى «مجتمع المانحين» تعهده بتقديم مبلغ إجمالي قدره 7.5 مليار يورو لدعم سورية ودول الجوار.
تتكرر التصريحات الرسمية في سورية حول مشكلة عجز الموازنة العامة بشكل مستمر، وهو عجز مقدّر في موازنة العام 2024 بأكثر من 9.4 تريليون ليرة سورية. وعادةً ما تتزامن هذه التصريحات مع كل خطوة جديدة تتخذ لتقليص الدور الاجتماعي للدولة على مر السنوات والعقود السابقة، بما في ذلك عمليات رفع الدعم التي تجري بسرعة تحت شعارات زائفة، مثل: «عقلنته» و«توجيهه إلى مستحقيه».
يعاني النظام الحالي للأجور في سورية من حالة تردٍّ شديدة، وهو نظام الأجور الأسوأ على الإطلاق في المنطقة ومن بين الأكثر سوءاً على النطاق العالمي، إذ انخفضت القدرة الشرائية للأجور بمرور السنين إلى درجة أصبح حتى المسؤولون عن إدارة شؤون البلاد لا يجادلون بفكرة أن الدولة لا تصرف أجوراً كافية لتلبية الاحتياجات الأساسية للأسر. إضافة إلى ذلك، يواجه المواطنون في سورية ضغوطاً ناتجة عن ارتفاع أسعار السلع التي لا تخضع لأي رقابة جدية، ويعاني المواطن السوري الذي يتقاضى أدنى أجور في المنطقة من تكاليف أعلى للسلع الأساسية مقارنة بالدول المجاورة وبالمعدلات العالمية.
شهدت سورية تغيرات معيشية واقتصادية كبيرة بين رمضان 2023 ورمضان 2024، حيث عانى الوضع المعيشي تدهوراً ملحوظاً بسبب الارتفاع الكبير في أسعار السلع الأساسية والمواد الغذائية، إضافة إلى تراجع القوة الشرائية لليرة السورية ومنظومة الأجور في البلاد.
تحدثنا كثيراً في السابق عن الموازنات السورية، وقمنا بتحليل الأرقام وفحص ما المفترض به أن يكون «خطة مالية» للبلاد. ولكن الموضوع الذي يعيد نفسه في كل مرة هو أن هذه الأرقام لا تعكس صورة دقيقة للواقع الاقتصادي السوري، ولا تتصل بواقع الإنفاق الفعلي من قريب أو بعيد. سواء كان الحديث عن النفقات الجارية أو الاستثمارية، حيث يظهر أن هناك هوة هائلة بين «إعلان النوايا» الوارد في الميزانية وبين الأنشطة المالية الفعلية التي تقوم بها الحكومة.
صدر في الخامس من شباط 2024 المرسومان التشريعيان رقم (7) و(8)، اللذان ينصان على «زيادة» بنسبة 50% على الرواتب والأجور الثابتة للموظفين المدنيين والعسكريين، بما في ذلك المتقاعدون، ليصبح الحد الأدنى العام الجديد للأجور 278,910 ليرات سورية شهرياً. وأتى هذا القرار متزامناً مع مجموعة من القرارات التي رُفعت بموجبها أسعار السلع الأساسية مثل الخبز، والمازوت المستخدم في الأفران، والبنزين العادي، والبنزين أوكتان 95.