أحمد الرز
email عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
يشهد الصراع القائم في المنطقة، وبخاصة المواجهة بين إيران والكيان الصهيوني، تبايناً في الطروحات الإعلامية التي لا تزال تحاول، بعضُها، توجيه الرأي العام بطرق مختلفة تهدف إلى تحوير الحقائق حول هذا الصراع ومحاولة إضعاف الثقة في جوهره وأطرافه. ومع مرور الوقت، تظهر استراتيجيات إعلامية متغيرة تتبناها ماكينات الإعلام الدائرة في فلك الغرب، والتي تحاول قلب الحقائق وتشويه الأهداف الحقيقية للصراع الدائر.
يعكس البيان الحكومي الأخير للحكومة السورية استمرار النهج ذاته الذي اعتمدته الحكومات السابقة دون أي تغيير يذكر، ورغم الحديث عن «الشفافية» و«الواقعية»، تبدو معظم مضامين البيان في العمق امتداداً مباشراً لسياسات التقشف والخصخصة والانسحاب التدريجي للدولة من التزاماتها تجاه الشرائح الأفقر من الشعب. وبالتالي، يمكن القول إن الحكومة الحالية، رغم تغيير الوجوه، لا تختلف في جوهرها أو سياستها عن الحكومات السابقة، حيث تعيد إنتاج ذات السياسات الاقتصادية `ذاتها، التي تعمق معاناة الأغلبية الساحقة من الشعب السوري.
لا تزال تتفاعل التصريحات التي أطلقتها رئاسة الوزراء في سورية خلال الجلسة الأسبوعية يوم الثلاثاء 2024/10/8، حيث شدد رئيس الوزراء على أن السياسات الاقتصادية يجب أن تعتمد على «الجدوى» و«العائدية» كأساس لاتخاذ القرارات على المستوى الوطني. وترافق ذلك مع انتقاد مباشر لما أسماه «الشعبوية» التي فسرها البعض بأنها «اتخاذ قرارات اقتصادية ترضي المطالب الشعبية دون تحقيق جدوى اقتصادية فعلية». فهل تبرر الحكومة بهذه التصريحات قرارات جديدة متسارعة تصب في مصلحة رأس المال على حساب الناس؟ في هذا المقال، سنتطرق لهذه الإشكالية ونقيّم وضع «الجدوى» و«العائدية» في الاقتصاد السوري منذ ما قبل مطلع الألفية الحالية.
منذ ما قبل انفجار الأزمة، كان من الواضح لدى الجميع في سورية أن أصحاب القرار يسيرون بخطى متسارعة نحو تصفية الاقتصاد الوطني، وبشكل خاص القطاعات الحيوية التي تشكِّل العمود الفقري للإنتاج الحقيقي في البلاد. في هذا الجو المستمر حتى اليوم، جاءت التصريحات الأخيرة لرئاسة مجلس الوزراء منسجمة مع هذا المسار، وموحية بتسريعه أكثر، داعية لـ«الجرأة الموضوعية» وكسر «المحرمات» والابتعاد عن «الأيديولوجيا السلبية الجامدة».
في لحظة كان فيها الشعب السوري مشدوداً إلى شاشات التلفاز ووسائل الإعلام، يتابع آخر تطورات التصعيد الإقليمي الجاري، جاءت الأخبار من نوع آخر. فوسط هذه الأجواء المشحونة بالتوتر والترقب، جاء قرار حكومي صادم ليزيد من الضغوط على كاهل المواطنين، إذ أعلنت الحكومة السورية عن رفع «مفاجئ» لسعر ليتر المازوت المدعوم للتدفئة، من 2000 ليرة سورية إلى 5000 ليرة دفعة واحدة، وهو ما ترك المواطنين أمام ضربة جديدة على أعتاب فصل الشتاء.
شهدت سورية منذ ما قبل انفجار الأزمة في عام 2011 سلسلة من التداعيات الكارثية التي ضربت مختلف جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية. وكانت قوة العمل السورية إحدى أكبر الضحايا التي تلقت ضربات موجعة نتيجة تلك الأزمة المتفاقمة. حيث عانت البلاد من تراجعٍ حاد في هذا القطاع بفعل تضافر عوامل الأزمة من جهة، والسياسات الاقتصادية التي استمرت في تقويض دور الدولة في تنظيم الاقتصاد وتقديم الرعاية الاجتماعية من جهة أخرى. وعلى هذه الأرضية، يغدو من الضروري الوقوف عند التحولات التي أصابت سوق العمل وتأثيراتها على شرائح المجتمع المختلفة.
يُروج اليوم لانطباع شائع مفاده أن الاقتصاد السوري كان في حالة جيدة قبل انفجار الأزمة في عام 2011. وهذا الطرح، الذي يحظى بدعمٍ واسع في أوساط عدّة، يعتمد بشكل كبير على منطق زائف يقارن السيء بالأسوأ، ويقارن مقدمات الأزمة بنتائج انفجارها. ومع اشتداد حالة التردي الاقتصادية اليوم، يُراد إظهار المرحلة السابقة على أنها كانت أكثر استقراراً وازدهاراً، حيث يجري تصوير سورية قبل 2011 بمثابة هدف ينبغي العودة إليه اليوم.
تزامن انتشار ظاهرة «الأمبيرات» في دولٍ عدّة، مثل: نيجيريا ولبنان والعراق واليمن وغيرها، مع تراجعٍ كبير في دور الدولة وعجزها عن توفير الخدمات الأساسية لمواطنيها، فبرز نظام «الأمبيرات» بوصفه أحد الحلول «البديلة» لمواجهة أزمة الكهرباء المزمنة. وما بدأ في حينه كاستجابة ضرورية لانقطاع التيار الكهربائي، سرعان ما تحوَّل إلى صناعة ضخمة تدر المليارات إلى جيوب أصحاب المولدات الخاصة الذين استغلوا الفجوة التي خلقتها الدولة في هذا القطاع الحيوي. وسرعان ما وجد هذا النظام - الذي يفرض على المواطنين دفع مبالغ باهظة لقاء الحصول على الحد الأدنى من الكهرباء - طريقه إلى سورية خلال سنوات الحرب، إلى حدٍّ بتنا نرى فيه اليوم البعض ممن يدافعون عن هذه الظاهرة التي تعبِّر أساساً عن خرابٍ في دور الدولة.
يستمر تدهور قطاع الطاقة في سورية بوتيرة متسارعة، دون أن تلوح في الأفق أي حلول جذرية من جانب المسؤولين في البلاد. وسواء كنا في الشتاء أو الصيف، تتفاقم معاناة السوريين مع تزايد ساعات انقطاع الكهرباء بحجج وذرائع عدة لم يعد يلتفت إليها السوريون ولا حتى على سبيل التهكم. لكن ثمة جانب آخر من المسألة يتجاوز مشكلة التقنين ويرتبط مباشرة في موضوع الكلف المعلنة ومدخلات الإنتاج يجدر نقاشه لما يكشفه من مليارات ضائعة في دهاليز عملية إنتاج الطاقة في سورية التي ينخرها الفساد وانعدام الشفافية.
يواجه الاقتصاد السوري أزمة حادة تجعل من الصعب على السوريين تلبية احتياجاتهم المعيشية الضرورية. فالإنتاج المحلي لا يكفي فعلياً لتغطية احتياجات السكان. لكن الأسوأ من ذلك هو التوزيع المجحف وغير الإنساني للموارد السورية القليلة المتاحة الذي يزيد من حدة التناقض الطبقي والظلم الاجتماعي في البلاد. فرغم أن توزيع الدخل والناتج حول العالم يتسم بعدم العدالة في كثير من الأحيان، إلا أن الحالة في سورية تتسم بظلم استثنائي فريد من نوعه ولا يطاق.