منحة عيد الفطر: هل سترفع القدرة الشرائية أم ستزيدها ضعفاً؟
أصدرت الرئاسة السورية يوم السبت، 15 آذار 2025، القرار رقم (6) لعام 2025، القاضي بصرف منحة مالية لمرة واحدة بمناسبة عيد الفطر للعاملين في الدولة، بما يشمل الموظفين المدنيين والعسكريين والمتقاعدين، على أن تكون بقيمة راتب شهر واحد. ومع صدور هذا القرار، برزت تساؤلات عديدة حول تأثيره على الاقتصاد الوطني، وما إذا كان سيسهم فعلياً في تحسين القدرة الشرائية للمواطنين أم سيترك تداعيات أخرى على المشهد الاقتصادي العام. وفي وقتٍ ينتظر فيه الناس أي بوادر تحسن في معيشتهم، تبقى الأسئلة مفتوحة حول انعكاسات هذه المنحة على مستوى المعيشة، ومدى تأثيرها الفعلي في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة.
ما إن انتشر خبر صدور قرار المنحة، حتى تحوّل إلى موضوع للتندّر بين شريحة واسعة من السوريين. وكما جرت العادة، لم يتأخر الناس في عقد المقارنات بين قيمة المنحة وارتفاع أسعار السلع والخدمات، متسائلين عمّا يمكن لهذا المبلغ أن يغطيه فعلياً في ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة، وفي ظل تأخر متكرر عن دفع رواتب العاملين في الدولة.
لكن بعيداً عن الأرقام، يطرح هذا القرار أسئلة أعمق حول مفهوم «المنحة» نفسه، ومدى فعاليته كأداة لدعم القدرة الشرائية. فهل تمثل هذه الخطوة حلاً عملياً وجدياً أم أنها مجرد «استجابة» مؤقتة لأزمة معيشية متصاعدة، وقد يكون لها انعكاسات سلبية إضافية على مستوى معيشة السوريين؟ وما هي المشكلة الجوهرية التي تعكسها فكرة المنحة في السياق الاقتصادي الحالي؟
نظرياً: المنحة تغطي 1.9% فقط من وسطي تكاليف المعيشة
أظهرت بيانات «مؤشر قاسيون لتكاليف المعيشة» صورة قاتمة للغاية مع بداية عام 2025. فوفقاً للإحصاءات في بداية العام، بلغ وسطي تكاليف معيشة أسرة مكونة من خمسة أفراد نحو 14,557,573 ليرة سورية شهرياً. يُظهر هذا الرقم الفجوة الهائلة بين أجور المواطنين وارتفاع تكاليف الحياة اليومية، خاصة في ظل التضخم المستمر وارتفاع أسعار السلع والخدمات بشكل غير مسبوق. وفي هذا السياق، يأتي قرار صرف منحة مالية لمرة واحدة بمناسبة عيد الفطر، والتي تعادل راتب شهر واحد، ليواجه تساؤلات كبيرة حول مدى قدرته على تخفيف العبء المالي عن الأسر السورية.
لنأخذ مثالاً عملياً لقياس مدى تأثير هذه المنحة على الأسر السورية: إذا افترضنا أن أسرة تعتمد على فرد واحد فقط يتقاضى الحد الأدنى للأجور، والذي يبلغ 278,910 ليرة سورية شهرياً، فإن قيمة المنحة (التي تعادل راتب شهر واحد) ستغطي فقط 1.9% من وسطي تكاليف المعيشة لهذه الأسرة. وهذا يعني أن المنحة، رغم أنها قد تبدو بادرة إيجابية، لا تُشكل سوى نسبة ضئيلة جداً من إجمالي التكاليف التي تحتاجها الأسرة لتغطية احتياجاتها الأساسية من غذاء، ودواء، وملبس، وتعليم، ومواصلات، وخدمات أخرى. وحتى عند إضافة قيمة المنحة إلى الراتب الأساسي، فإن المبلغ الإجمالي لا يغطي سوى 3.8% من وسطي تكاليف المعيشة. وهذا يعني أن الأسرة ستظل تواجه عجزاً هائلاً في تغطية احتياجاتها الأساسية، خاصة في ظل استمرار ارتفاع أسعار السلع والخدمات بشكل مستمر.
ولكن ماذا لو كانت الأسرة تعتمد على فردين عاملين، كل منهما يتقاضى الحد الأدنى للأجور؟ يظل الوضع بعيداً عن تلبية الاحتياجات الأساسية. فبعد إضافة قيمة المنحة إلى رواتب الفردين، ستغطي المنحة نحو 7.6% فقط من وسطي تكاليف المعيشة الشهرية للأسرة. وهذا الرقم، رغم أنه أعلى من النسبة السابقة، يظل ضئيلاً مقارنة بالواقع الاقتصادي الصعب الذي تعيشه الأسر السورية. والأمر يصبح أكثر تعقيداً إذا أخذنا في الاعتبار أن معدل الإعالة في سورية مرتفع جداً. فحسب تقديرات الأمم المتحدة، يبلغ معدل الإعالة في سورية نحو 1 إلى 7، أي أن كل فرد عامل يعيل سبعة أفراد آخرين. وهذا يعني أن الأعباء المالية على الأسر أكبر بكثير من أن تُغطى بمنحة بسيطة.
تضعنا هذه الأرقام أمام حقيقة مؤلمة: المنحة، حتى لو حافظت افتراضاً على قيمتها الحقيقية، فإنها تظل غير كافية إطلاقاً لسد أي شيء يذكر من الفجوة الكبيرة بين الأجور والأسعار. وهي تفتح الباب أمام تساؤلات أكبر حول الحلول الجذرية المطلوبة لمعالجة تراجع مستوى المعيشة. والسؤال الآن: هل ستحافظ المنحة على قيمتها أم أنها ستكون عاملاً للمزيد من تراجع المعيشة؟
المنحة لا تغطي سوى ثلث غذاء العامل
على النحو ذاته، تُظهر البيانات المتعلقة بتكاليف الغذاء في سورية صورةً أكثر قتامة للوضع المعيشي للمواطنين. ففي بداية عام 2025، ارتفع الحد الأدنى الشهري لتكاليف غذاء الأسرة السورية وفقاً لمؤشر «قاسيون»، والتي تُحسب بناءً على السعرات الحرارية اللازمة لضمان بقاء الفرد على قيد الحياة وقدرته على إعادة إنتاج قوة العمل، إلى 5,122,483 ليرة سورية. ويعكس هذا الرقم الحد الأدنى من المتطلبات الغذائية الأساسية التي تحتاجها الأسرة لتجنب الوقوع في براثن الجوع وسوء التغذية. ومع ذلك، فإن مبلغ «المنحة» غير كافٍ حتى لتغطية هذه التكاليف الغذائية الأساسية.
لنفترض، على سبيل المثال، أن أسعار الغذاء لم تشهد أي ارتفاع خلال الأشهر الماضية (وهو افتراض بعيد عن الواقع، حيث تشهد أسعار المواد الغذائية ارتفاعاً واضحاً). في هذه الحالة، فإن مبلغ «المنحة» لا يغطي سوى 5.4% من الحد الأدنى لتكاليف غذاء الأسرة شهرياً. وحتى عند إضافة قيمة المنحة إلى الراتب الأساسي للفرد الذي يتقاضى الحد الأدنى للأجور، فإن النسبة الإجمالية التي يتم تغطيتها من تكاليف الغذاء لا تتجاوز 10.8%. وهذا يعني أن الأسرة ستظل تواجه عجزاً كبيراً في توفير الغذاء الكافي لأفرادها، مما يزيد من مخاطر انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية، خاصة بين الأطفال وكبار السن.
ولكن ماذا لو كان العامل السوري يعمل فقط لإطعام نفسه، دون أن يكون مسؤولاً عن إعالة أسرة؟ حتى في هذه الحالة، فإن مبلغ المنحة يظل غير كافٍ لتغطية الحد الأدنى من تكاليف الغذاء للفرد الواحد. فحسب التقديرات، يبلغ الحد الأدنى لتكاليف غذاء الفرد شهرياً نحو 909,840 ليرة سورية. وبالتالي، فإن مبلغ المنحة لا يغطي سوى 30.6% من هذه التكاليف. وهذا يعني أن العامل الذي يعتمد على الحد الأدنى للأجور سيواجه صعوبة كبيرة في توفير الغذاء الكافي لنفسه، حتى بعد إضافة قيمة المنحة إلى راتبه الأساسي.
متى يمكن القول إن الأجور ارتفعت حقاً؟
الأهم من كل ما سبق هو التساؤل الجوهري: هل ستحافظ المنحة على قيمتها الحقيقية في ظل الوضع الاقتصادي المتدهور؟
تهدف المقارنات والأرقام التي ذكرناها سابقاً إلى توضيح حجم الفجوة بين قيمة المنحة وتكاليف المعيشة، لكنها لا تعكس الواقع الكامل. ففي الحقيقة ووفقاً للتجارب السابقة في سورية، لن تغطي المنحة شيئاً، وسرعان ما ستتلاشى قيمتها في خضم ارتفاعات أسعار السوق. بل إن الأمر قد يصل إلى حد أن تصبح هذه المنحة عاملاً إضافياً يسهم في تقليص القيمة الفعلية للأجر الذي يتقاضاه العامل السوري. فالكُتلة النقدية التي سيتم ضخها في السوق ستدفع الأسعار إلى الارتفاع أكثر. وبالتالي، ستتراجع القدرة الشرائية الفعلية لليرة السورية، مما يجعل المنحة تُفاقم الأزمة بدلاً من أن تُخففها، هذا عدا عن أن المنحة تشمل العاملين في الدولة فقط، وبالتالي فإن جزءاً كبيراً من السوريين غير العاملين سيتأثرون بغلاء الأسعار دون أن يستفيدوا من المنحة.
من حيث المبدأ لا شك أن كل ليرة سورية إضافية تدخل إلى جيوب العمال السوريين هي أمر إيجابي، لكن ذلك مشروط بأن تحافظ هذه الليرة على قيمتها الشرائية. فإذا كانت هذه الليرة الإضافية ستؤدي إلى ارتفاع الأسعار وتقليص قيمة الأجور الحالية، فإنها تصبح بذلك سبباً في تفاقم الأوضاع الاقتصادية بدلاً من تحسينها.
ولهذا السبب، فإن المطلوب في الظروف السورية اليوم ليس مجرد منح مؤقتة، بل رفع الأجور الفعلية بشكلٍ جذري. ولا يمكن الحديث عن رفع الأجور الحقيقية دون أخذ ثلاثة عوامل أساسية بعين الاعتبار:
أولاً: يجب أن تكون زيادة الأجور مرتبطة بتكاليف المعيشة. فالقيمة المطلقة للأجر ليست هي المهمة، سواء كان الأجر مئة ليرة أو عشرة ملايين ليرة. المهم هو ما يمكن أن يشتريه هذا الأجر في السوق فعلياً. لذلك، يجب أن يكون الحد الأدنى للأجور قادراً على تغطية تكاليف المعيشة الأساسية، بما في ذلك الغذاء، والسكن، والمواصلات، والتعليم، والصحة. وهذا يتطلب إعادة هيكلة نظام الأجور ليكون مرتبطاً بمؤشرات تكاليف المعيشة بشكلٍ مباشر.
ثانياً: حتى إذا تم ربط الحد الأدنى للأجور بتكاليف المعيشة، فإن هذا الربط يجب أن يكون مستمراً ودورياً. ففي ظل اقتصاد يعاني من التضخم المستمر، فإن أي زيادة في الأجور ستتلاشى قيمتها بسرعة إذا لم يتم تحديثها بشكلٍ دوري لمواكبة ارتفاع الأسعار. لذلك، يجب أن يكون الربط بين الأجور وتكاليف المعيشة عملية مستمرة، سواء كان هذا الربط شهرياً، أو فصلياً، أو سنوياً. وهذا يجب أن يكون حقاً للعمال، وليس مكرمة من أحد.
ثالثاً: يجب أن يكون مصدر زيادة الأجور جيوب الفاسدين وأصحاب الثروات الكبيرة، وليس جيوب المواطنين. ففي سورية، تتُركّز الثروة في أيدي فئة قليلة، بينما يعيش الغالبية العظمى من الشعب في فقر مدقع. وفقاً للتقديرات، يحصل 90% من الشعب السوري على أقل من 10% من الثروة الوطنية، بينما تُسيطر النخبة الفاسدة على الجزء الأكبر من هذه الثروة. لذلك، فإن أي رفع حقيقي للأجور يجب أن يتم عبر إعادة توزيع الثروة بشكلٍ عادل، ومكافحة الفساد، وضمان أن تكون الزيادة في الأجور مدعومة بتحسين الإنتاجية والخدمات، وليس عبر طباعة النقود.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1218