من عزلة العقوبات إلى «الاختبار»: ما هي الخيارات الممكنة أمام سورية؟
واجه الاقتصاد السوري على مدى السنوات الماضية سلسلة من التراجعات المتسارعة التي تفاقمت بشكل كبير بفعل انفجار الأزمة عام 2011، مع ما شهدته السنوات اللاحقة من أوسع عقوبات اقتصادية غربية فرضت على سورية تاريخياً. وقد أدى هذا التلازم بين السياسات الاقتصادية لنظام الأسد والعقوبات الغربية التي ساعدته في مراكمة المزيد من الثروات على حساب السوريين، إلى تدمير واسع النطاق لبنية الاقتصاد السوري، وبشكل خاص قطاعاته الأكثر حساسية كالصناعة والزراعة والطاقة والصحة والتعليم. في المحصلة، بات يعيش أكثر من 90% من السوريين تحت خط الفقر وفق وكالات الأمم المتحدة. وفي خضم هذا الوضع الاقتصادي القاتل، جاء إعلان الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، عن نيته رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على سورية بمثابة نقطة تحول محتملة. وقد استقبل السوريون هذا الإعلان بمزيج من التفاؤل الحذر والأمل في إمكانية حدوث تحسن ملموس في الأوضاع الاقتصادية التي طال أمدها وأرهقت كاهل المواطنين.
خلال كلمته التي ألقاها في «منتدى الاستثمار السعودي - الأمريكي» الذي عُقد في العاصمة السعودية الرياض في الثالث عشر من شهر أيار 2025، وهو المنتدى الذي أعقب «القمة السعودية الأمريكية» التي ترأسها كل من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أعلن الرئيس الأمريكي نيته اتخاذ خطوة مهمة نحو «تطبيع العلاقات مع سورية»، والكشف عن قراره برفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية المفروضة على البلاد، مؤكداً بأن هذه الخطوة تهدف بشكل أساسي إلى منح الشعب السوري «فرصة رائعة» لتحسين أوضاعه، ومطالباً السوريين في الوقت نفسه بأن يظهروا «شيئاً خاصاً» لم يحدد ماهيته. وأشار الرئيس الأمريكي إلى أن قراره هذا جاء استجابة لطلبات تلقاها من بن سلمان والرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
فُهِمت كلمات ترامب المباشرة على أنها نية لرفع العقوبات عن سورية بشكلٍ كامل، ولا سيما أنه لم يُشر في إعلانه إلى أن عملية الرفع ستكون مجتزأة أو مؤقتة. لكن إشارات عدة صدرت لاحقاً وأثارت تساؤلات حول مستوى شمولية رفع العقوبات والمسارات التي ستحكم هذه العملية.
الخلفية التاريخية للعقوبات الأمريكية على سورية
فُرضت على سورية حزمة من العقوبات الأمريكية على مدى عقود، توالت وتوسّعت وفق تطورات الوضع السياسي في سورية والمنطقة. بدأت السلسلة في أواخر السبعينيات، عندما وضعت واشنطن سورية على قائمة الدول الراعية للإرهاب عام 1979، وذلك على خلفية اتهامها بدعم «جماعات إرهابية» ومعاداة سياسات الولايات المتحدة في المنطقة. ونتيجةً لهذا التصنيف، حُرمت سورية من المساعدات الخارجية الأمريكية وحُظرت صادرات الأسلحة إليها، كما فُرضت قيود على تصدير أي مواد ذات استخدام مزدوج مدني-عسكري إلى دمشق.
كانت تلك البداية التي وضعت سورية في إطار عقوبات طالت أجزاء من اقتصادها وعلاقاتها الدولية.
في العقد الأول من الألفية، وبعد الغزو الأمريكي للعراق، تصاعدت الضغوط الأمريكية عبر قانون «محاسبة سورية واستعادة سيادة لبنان» لعام 2003 الذي أقرّه الكونغرس رداً على استمرار الوجود السوري في لبنان ودعم دمشق لفصائل مناوئة لكيان الاحتلال. بناءً على هذا القانون، أصدر الرئيس جورج بوش الابن أمراً تنفيذياً في أيار 2004 فرض عقوبات إضافية على سورية شملت حظراً على معظم الصادرات الأمريكية إلى سورية باستثناء المواد الغذائية والأدوية، وتجميداً لأصول تابعة لأفراد سوريين، وقيوداً على التعاملات المصرفية السورية مع النظام المالي الأمريكي.
وفي عامي 2005-2006، صعّدت واشنطن الضغوط المالية أكثر عبر تصنيف المصرف التجاري السوري كـ«مؤسسة مشتبه في تورطها بغسل الأموال»، ما أدى فعلياً إلى قطع صلاته بالمصارف الأمريكية ومنعه من استخدام الدولار في التعاملات الدولية. هدفت هذه الخطوات إلى شل القطاعات المالية السورية والضغط على نظام الأسد لـ«تغيير سلوكه الإقليمي».
مع انفجار الأزمة السورية عام 2011 وتصاعد الاحتجاجات الشعبية، انتقلت العقوبات الأمريكية إلى مستوى أشدّ غير مسبوق. حيث أصدر الرئيس باراك أوباما سلسلة أوامر تنفيذية في ربيع ذلك العام لـ«معاقبة مسؤولي النظام المتورطين في انتهاكات حقوق الإنسان»، وفي آب 2011، وقع أوباما أمراً تنفيذياً فرض حصاراً اقتصادياً شاملاً على سورية، وبموجب هذا الأمر، جُمّدت جميع الأصول المملوكة للحكومة السورية في الولايات المتحدة، وحُظر على الأفراد والشركات الأمريكية إجراء أي تعاملات تجارية أو استثمارية في سورية، كما مُنع استيراد النفط السوري ومشتقاته إلى الولايات المتحدة. وتبع ذلك تشديد إضافي في 2012، حيث استهدفت واشنطن الجهات الأجنبية التي تساعد النظام على التملص من العقوبات.
وجاءت الضربة الأقسى في حزيران 2020 مع دخول «قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين لعام 2019» حيز التنفيذ. حيث وسّع هذا القانون الذي أقره الكونغرس نطاق العقوبات بشكل غير مسبوق، فارضاً عقوبات ثانوية حتى على الجهات الأجنبية (الشركات أو الحكومات) التي تتعامل مع النظام السوري أو تدعمه، واستهدف قانون قيصر بشكل خاص قطاعات البناء والطاقة والقطاع العسكري في سورية. وبموجبه، أُدرجت عشرات من الشخصيات والشركات السورية على اللوائح السوداء الأمريكية.
جعلت هذه العقوبات المتعاقبة والمتشابكة سورية واحدة من أكثر الدول خضوعاً للقيود الاقتصادية الأمريكية في العالم، إلى جانب دول مثل إيران وكوريا الشمالية وكوبا. إذ قُطعت صلات المصارف والشركات السورية بالنظام المالي الدولي (تعذر على البنوك السورية إجراء التحويلات بالدولار أو استخدام نظام سويفت العالمي للتبادل المالي)، ما شلّ القدرة على التجارة والاستثمار. وساعد ذلك في انهيار الاقتصاد السوري إلى حد كبير، فقد انكمش الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2021 لأقل من نصف مستواه عام 2010، وتدهورت قيمة العملة السورية ومدخرات المواطنين. باختصار، جرى خنق الاقتصاد السوري ووضع الشعب في عزلة خانقة، بينما كانت رموز النظام تراكم الثروات مستفيدةً من العقوبات الغربية التي لم يعدموا الوسائل للالتفاف عليها.
مسار رفع العقوبات والصلاحيات الأمريكية
أثار إعلان الرئيس ترامب اعتزامه رفع العقوبات تساؤلات حول كيفية تنفيذ ذلك عملياً، نظراً للتشابك القانوني للعقوبات المفروضة على سورية، حيث أن برنامج العقوبات الأمريكي هو نتاج شبكة معقدة من الأوامر التنفيذية الصادرة عن البيت الأبيض والتشريعات التي أقرها الكونغرس على مر السنين. وبناءً عليه، فإن مدى سلطة الرئيس في إلغاء العقوبات يختلف حسب نوعها ومصدرها القانوني، فالعقوبات التي فُرضت بموجب أوامر تنفيذية رئاسية - مثل الحظر الشامل الذي أعلنه أوباما عام 2011 - يمكن رفعها بسرعة نسبياً عبر إصدار رئيس الدولة أمراً تنفيذياً جديداً يلغي أو يعدّل الأمر السابق. في المقابل، فإن العقوبات التي أقرها الكونغرس بقانون تبقى سارية المفعول ما لم يصوّت الكونغرس نفسه على إلغائها أو تعديلها، مما يعني أن الرئيس وحده لا يستطيع شطبها بشكل نهائي دون المرور بالسلطة التشريعية، ومن أبرز الأمثلة على ذلك قانون قيصر لعام 2019 الذي يُعتبر مصدر الكثير من العقوبات الأشد على سورية. يقيّد هذا القانون صلاحيات الرئيس في رفع العقوبات بشكل دائم، لكنه يتضمن بنداً يسمح للرئيس بتعليق بعض العقوبات مؤقتاً لدواعٍ تتعلق بالأمن القومي.
عملياً، يستطيع الرئيس إصدار إعفاءات أو تنازلات بموجب هذا القانون لتعليق تطبيق العقوبات لفترة محدودة، ولكن يجب تجديد هذه الإعفاءات بشكل دوري. وقد أوضح وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو في تصريحه يوم 15 أيار الماضي، عقب لقائه نظيره السوري أسعد الشيباني في أنطاليا، أن إدارة ترامب تعتزم استخدام سلطاتها ضمن قانون قيصر لإصدار إعفاءات مؤقتة من العقوبات. وقال روبيو: «سينفذ الرئيس ما يتيحه القانون من إعفاءات، لكن ينبغي الانتباه إلى أن هذه الإعفاءات يجب تجديدها كل 180 يوماً»، وأكد أن الهدف النهائي هو إلغاء القانون كلياً عبر الكونغرس «إذا سارت الأوضاع في سورية نحو التحسن المطلوب»، مشيراً إلى أنه «إذا أحرزنا تقدماً كافياً، نودّ أن نرى القانون مُلغى، لأنك لن تجد من يرغب بالاستثمار في بلد قد تعود إليه العقوبات خلال ستة أشهر». وهذا يعني أن سورية ستبقى فعلياً «تحت الاختبار» لفترة قد تطول، حيث سيعاد تقييم الإعفاءات بشكل نصف سنوي للتأكد من التزام سورية بالشروط. لكن رغم ذلك، شدد روبيو على أن الحديث عن إلغاء تشريعي دائم للعقوبات ما زال «سابقاً لأوانه» في الوقت الراهن، ما دام الكونغرس يحتاج لرؤية «نتائج ملموسة» قبل اتخاذ تلك الخطوة.
يستنتج من ذلك أن الولايات المتحدة ستبقى ممسكة بورقة العقوبات وتجديدها لضمان سلوك محدد لدى السلطة السورية، مما يعني أن ورقة العقوبات لم تُرمَ بشكل كامل، وسيظل الاقتصاد السوري رهينة لتجديد أو عدم تجديد الإعفاءات الأمريكية كل ستة أشهر. ويشير هذا السلوك بوضوح إلى أن رفع العقوبات ليس قراراً إنسانياً بحتاً، بل أداة سياسية تستخدمها الولايات المتحدة للتأثير على سياسات الحكومة السورية.
الخيارات الاقتصادية المتاحة أمام سورية
يثار نقاش كبير اليوم حول الوجهة الأنسب لسورية في إعادة بناء اقتصادها وعلاقاتها الدولية. هناك طرح يدعو إلى ربط الاقتصاد السوري بالغرب بشكل وثيق لضمان رفع العقوبات بشكل كامل ودائم واستفادة سورية من الدعم والاستثمارات الغربية. ويرى أصحاب هذا الرأي أن انخراط سورية في المنظومة الاقتصادية التي تقودها الدول الغربية سيعزز ثقة تلك الدول في «التحول السوري الجديد» ويشجعها على ضخ رؤوس الأموال، مما يسرّع عملية إعادة الإعمار.
في المقابل، يحذر كثيرون من أن الارتماء الكامل في أحضان الغرب ليس خياراً بالنسبة لسورية. فالعالم اليوم يشهد تحولات عميقة على الصعيد الاقتصادي، ولم تعد الكتلة الغربية تحتكر القدرات الاستثمارية والنمو الاقتصادي كما كان سابقاً. والسؤال المطروح اليوم هو حتى لو تم رفع العقوبات الأمريكية والغربية بالكامل، هل لدى سورية مصلحة بربط اقتصادها بالغرب؟
للإجابة عن هذا السؤال، يجب النظر إلى الواقع القائم اليوم في الاقتصاد العالمي، حيث يواجه الغرب (مجموعة السبعة الكبار G7 مثلاً)، تحديات اقتصادية متزايدة، بما في ذلك تباطؤ النمو الاقتصادي، وارتفاع معدلات التضخم، والديون العامة المتزايدة وعدم الاستقرار المالي - كما حدث أثناء أزمة الطاقة والتضخم في أوروبا بعد 2022 - مما حدّ من قدرتها على تمويل مشاريع خارجية كبرى. في المقابل، يتقدم القطب الآخر (مجموعة دول بريكس BRICS مثلاً) اقتصادياً بشكل واضح، حيث تتمتع هذه الدول بمعدلات نمو اقتصادي مرتفعة، وأسواق داخلية كبيرة، واحتياطيات نقد أجنبي ضخمة، وقدرة متزايدة على الاستثمار في الخارج. ولديهم الإمكانية لإفادة سورية بصورة واضحة من خلال الاستثمار في مشاريع إعادة الإعمار، وتوفير التكنولوجيا والخبرات، وفتح أسواق جديدة للمنتجات السورية.
إذا حسبنا مساهمة الدول في الناتج المحلي الإجمالي العالمي حسب تعادل القوة الشرائية (PPP)، وهي طريقة لقياس حجم الاقتصادات تأخذ في الاعتبار فروقات أسعار السلع والخدمات بين الدول، نستطيع أن نرى بوضوح التحول في ميزان القوى الاقتصادية العالمي. ففي عام 2025، لا تتجاوز حصة السبعة الكبار الغربيين 28.4% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي حسب تعادل القوة الشرائية. في المقابل، تصل حصة مجموعة بريكس (بتركيبتها الموسعة بعد انضمام دول جديدة) إلى أكثر من 40% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي حسب تعادل القوة الشرائية في العام نفسه. هذا الفارق الكبير في الحصة من الاقتصاد العالمي يشير إلى أن مركز الثقل الاقتصادي العالمي يتحول بشكل متزايد نحو الشرق والجنوب.
وبالتالي، حتى بالحسابات العملية المباشرة للربح والخسارة، ليس من مصلحة سورية أن تلتحق بالمعسكر الغربي. فالاقتصادات الشرقية والجنوبية تمتلك الإمكانيات والموارد اللازمة للمساهمة بشكل كبير في عملية إعادة إعمار سورية وتنميتها الاقتصادية. كما أن هذه الدول أقل ميلاً - بعد النظر إلى تجاربها العديدة في العالم - لفرض شروط سياسية مقارنة بالدول الغربية.
الاستراتيجية الأمثل لسورية في هذه المرحلة هي تبني سياسة خارجية اقتصادية متوازنة، تقوم على بناء علاقات قوية ومتنوعة مع جميع القوى الاقتصادية الفاعلة في العالم، سواء كانت غربية أو شرقية أو جنوبية وألا تكون تابعة لأي معسكر. يجب على سورية أن تسعى إلى الاستفادة من التناقضات الدولية القائمة لتأمين أفضل شروط للبلاد، على أن يكون المعيار الأساسي في بناء هذه العلاقات هو تحقيق المصالح الوطنية السورية وتعزيز النمو الاقتصادي الحقيقي الذي يعود بالنفع على جميع السوريين، مما يزيد من قدرة البلاد على الصمود في وجه أي ضغوط مستقبلية من أي طرف كان.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1227