سورية اليوم: الأعلى كلفة في العيش... والأدنى أجراً في الإقليم

سورية اليوم: الأعلى كلفة في العيش... والأدنى أجراً في الإقليم

يعاني النظام الحالي للأجور في سورية من تردٍ كبير، وهو الأسوأ على الإطلاق إقليمياً وأحد أسوأ النظم عالمياً. فقد تراجعت القدرة الشرائية للأجور عبر السنوات حتى وصلنا لمرحلة لا يناقش فيها المسؤولون السابقون والجدد فكرة أن الدولة لا تقدّم أجوراً كافية لتغطية الاحتياجات الأساسية للأسر. كما يواجه المواطنون السوريون ضغوطاً هائلة نتيجة ارتفاع أسعار السلع غير الخاضعة لأي رقابة فعلية، ويتحمل المواطن الذي يتقاضى أقل الأجور في المنطقة تكاليف أعلى للسلع الضرورية مقارنة بالدول المجاورة والمعدلات العالمية.

مع استمرار تراجع القدرة الشرائية، يربط بعض المسؤولين هذا التدهور باستمرار العقوبات الاقتصادية المفروضة على البلاد حتى بعد سقوط نظام الأسد. وعلى الرغم من أن هذه العقوبات أثرت ولا تزال تؤثر على حياة السوريين ومعيشتهم، إلا أن تساؤلاً مهماً يطرح نفسه اليوم: هل يعود تراجع القدرة الشرائية في سورية إلى العقوبات فقط؟ أم أن هناك عوامل أخرى مثل مصالح كبار المستفيدين الذين يرغبون في بقاء الاقتصاد السوري اقتصاداً قائماً على الاستيراد تحت شعارات اقتصاد السوق المفتوح وغيرها؟ ولماذا تتجاوز أسعار السلع في سورية الأسعار في دول الجوار والأسعار العالمية في كثير من الأحيان بدلاً من أن تكون قريبة منها؟ هل العقوبات وحدها هي السبب؟

الأجر السوري أقل أجر في المنطقة

يمثل الحد الأدنى للأجور في سورية اليوم حالة غير مسبوقة في التاريخ السوري، حيث يُعد الأقل على مستوى المنطقة وبفرق شاسع: في الأردن، يبلغ الحد الأدنى للأجور 260 ديناراً (ما يعادل 366 دولار)، وفي العراق 500,000 دينار (ما يعادل 382 دولار)، وفي تركيا 17,002 ليرة (ما يعادل 530 دولار)، وفي مصر 6,000 جنيه (ما يعادل 126 دولار)، وفي فلسطين 1,880 شيكل (ما يعادل 510 دولارات)، وحتى في لبنان، الذي يواجه أسوأ أزمة مالية واقتصادية عالمياً، فإن الحد الأدنى للأجور يصل إلى 18,000,000 ليرة (ما يعادل 400 دولار)، بينما في سورية يقدر بـ278,910 ليرة (أي أقل من 27 دولاراً). وإذا أردنا أن نقارن الأجر في سورية بوسطي الحد الأدنى للأجور في الإقليم (الذي يبلغ 386 دولاراً)، يظهر أن الحد الأدنى للأجور في سورية يمثل فقط 6.9% من هذا المتوسط، أي أن أصحاب الأجور الأتراك والعراقيين والأردنيين والفلسطينيين واللبنانيين يقبضون حداً أدنى للأجور يزيد وسطياً بأكثر من 14 ضعفاً عن أصحاب الأجور السوريين.

1221aaaaa

معيار الذهب يعزز تردي الأجور السورية

عندما نعيد النظر في تقويم الحد الأدنى للأجور بواسطة الذهب بدلاً من الدولار، نجد أن المعيار الذهبي لا يحسّن من الوضع المتردي في سورية. فعلى سبيل المقارنة، يمكن للحد الأدنى للأجور في الأردن شراء 5.5 غرام من الذهب عيار 21، بينما في العراق يمكن شراء 5.7 غرام، وفي تركيا 8 غرامات، وفي مصر 1.9 غرام، وفي فلسطين 7.7 غرامات، وفي لبنان 6 غرامات، ولكن في سورية لا يستطيع الحد الأدنى للأجور شراء سوى 0.3 غرام من الذهب فقط!
وبهذا، فإن معيار الذهب يصل إلى حد التطابق مع معيار الدولار، فبمقارنة عدد غرامات الذهب التي يستطيع الأجر في سورية شراءها بوسطي عدد الغرامات التي يستطيع الحد الأدنى للأجور في الإقليم شراءها (5.8 غرامات)، يظهر أن الحد الأدنى للأجور في سورية يمثل فقط 5.1% من هذا المتوسط.

1221aaaac

ماذا لو قارنا سورية مع العالم؟

إذا وضعنا قائمة تشمل جميع دول العالم، وآخر تحديث لبياناتها حول الحد الأدنى الشهري للأجور لديها، يتبيّن أنه من أصل 177 دولة تتوفر لديها مثل هذه البيانات، تقبع سورية في أسفل القائمة، ولا تتبعها سوى ثلاث دول: غامبيا، والسودان، وفنزويلا.
وعلى العموم، يتراوح الحد الأدنى للأجور عالمياً بين 4,221 دولاراً في سويسرا، و4.4 دولارات في فنزويلا. وبالحساب، يتبين أن متوسط الحد الأدنى الشهري للأجور في العالم هو 530 دولاراً. بكلامٍ آخر، فإنه يعادل نحو 20 ضعف الحد الأدنى الرسمي للأجور في سورية!
الحديث عن مقارنة الأجر السوري بالأجر العالمي قد يبدو غير منطقي بالنسبة لأولئك ممن يسوقون مختلف الحجج لتبرير الوضع الكارثي في سورية. هنا يمكننا أن نضرب مثالاً قريباً من النموذج السوري، وهو اليمن الذي عاش ظروفاً شبيهة بالظروف السورية في مختلف النواحي بما في ذلك العقوبات المفروضة على البلاد، لكنه ورغم ذلك، يتمتع بحد أدنى شهري للأجور يصل إلى 83.9 دولارات، أي أكثر من ثلاثة أضعاف الأجر في سورية.
الارتفاعات الاسمية لا تغير شيئاً..

1221aaaab

بل تزيد الكارثة

تأتي هذه الصورة القاتمة للأجور في سورية بعد سلسلة ارتفاعات في القيمة الاسمية للأجر السوري خلال السنوات السابقة، وفي ظل التراجعات المستمرة في القيمة الحقيقية لهذا الأجر، وهو ما يؤكد ما قلناه دائماً حول أن رفع الحد الأدنى للأجور لا يعني شيئاً على الإطلاق إن لم يكن مربوطاً بعوامل عدّة، منها:

أولاً: أن تتم عملية الزيادة المفترضة للأجور من مصادر حقيقية غير تضخمية، وهذه المصادر هي، أولاً: أصحاب الربح الكبير في البلاد، وثانياً عوائد الإنتاج الحقيقي الذي يجب أن تنصب الجهود على إعادة بنائه وإيقاف عمليات تصفيته التي سرّعتها سلطة بشار الأسد. وأي «زيادة» للأجور من مصادر أخرى غير حقيقية هي زيادة تضخمية، تنقلنا «من تحت الدلف إلى تحت المزراب»، أي أنها إعادة توزيع الثروة لمصلحة أصحاب الأرباح على حساب أصحاب الأجور.

ثانياً: لا حل حقيقي للأجور في البلاد ما لم يكن الحد الأدنى للأجور مربوطاً بتكاليف المعيشة بشكلٍ دوري يضمن عدم حدوث خلل في النسبة التي يغطيها هذا الحد الأدنى من تكاليف المعيشة، كما أنه لا معنى لهذا الربط ذاته دون اعتراف السلطة بالحد الأدنى لتكاليف المعيشة الضرورية، وبحق السوريين غير القابل للمساومة في الحفاظ على قيمة أجورهم ورفعها لتؤمن لهم محددات الحياة الكريمة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1221