مسودة الإعلان الدستوري: سورية بلا هوية اقتصادية
في ظل التطورات المتسارعة التي تشهدها سورية بعد ثلاثة أشهر على هروب سلطة الأسد، وفي ظل تفاقم التدهور الاقتصادي المستمر في البلاد، أثارت جريدة «المدن» اللبنانية يوم الأحد الماضي 2/3/2025 اهتماماً واسعاً بنشرها ما وصفته بـ«مسودة أولية» للإعلان الدستوري السوري (لم يتسن لقاسيون التأكد من صحتها من عدمه) الذي تعمل على إعداده لجنة كلّفها الرئيس السوري بذلك. ومن بين المواد التي تضمنتها المسودة المنشورة، جاءت المادة الثامنة لتثير الجدل مجدداً حول هوية الاقتصاد السوري المطلوب، حيث جاء في نصّ المادة: «تلتزم الدولة بتنظيم الاقتصاد الوطني على أساس العدالة الاجتماعية والمنافسة الحرة ومنع الاحتكار، ودعم القطاعات الإنتاجية وتشجيع الاستثمار وحماية المستثمرين بما يعزز التنمية الشاملة والمستدامة».
الجدل الذي أثارته هذه المادة لم يكن بسبب ما تحمله من «رؤية» اقتصادية واجتماعية فقط، بل وأيضاً بسبب التناقضات الواضحة في صياغتها. فمن جهة، تؤكد المادة على مبدأ العدالة الاجتماعية كأساس لتنظيم الاقتصاد الوطني، وهو مبدأ يهدف إلى تحقيق التوزيع العادل للثروة وحماية الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع. ومن جهة أخرى، تطرح المادة مفاهيم مثل المنافسة الحرة التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً باقتصاد السوق الحر الذي يهدف لضمان ربح المستثمرين بالدرجة الأولى.
قد يبدو هذا الجمع بين العدالة الاجتماعية والمنافسة الحرة للوهلة الأولى محاولة لخلق توازن بين حماية المجتمع وحرية السوق، لكنه في الواقع يفتح الباب أمام تساؤلات عميقة حول إمكانية التوفيق بين هذين المبدأين المتعارضين في جوهرهما. فكيف يمكن للدولة أن تضمن عدالة اجتماعية حقيقية في ظل نظام اقتصادي يعتمد على المنافسة الحرة التي تؤدي إلى تفاوتات طبقية أكبر؟ وكيف يمكن حماية الفئات الضعيفة في المجتمع دون تقييد الحرية المطلقة للمستثمرين؟ ليست هذه الأسئلة جديدة في الاقتصاد السياسي، لكنها تحظى اليوم بأهمية خاصة في السياق السوري، حيث يعاني الاقتصاد من تبعات سنوات الحرب والدمار، وتحتاج البلاد إلى رؤية واضحة ومتماسكة لتحقيق النمو الاقتصادي المطلوب.
هل يمكن للدولة أن تكون عادلة وليبرالية في آنٍ واحد؟
تعتبر شعارات «العدالة الاجتماعية» و«المنافسة الحرة» من المفاهيم الأساسية التي تشكّل ركائز لأي نظام اقتصادي، إلا أن الجمع بينهما في إطار دستوري واحد يطرح إشكالية عميقة تتطلب تحليلاً معمقاً. فمن جهة، تُعرَّف العدالة الاجتماعية بأنها ضمان التوزيع العادل للموارد والفرص داخل المجتمع، مع حماية الفئات الكادحة والضعيفة من خلال سياسات تضمن تكافؤ الفرص وتقلّل من الفوارق الطبقية. ومن جهة أخرى، تقوم المنافسة الحرة على مبادئ اقتصاد السوق الحر، الذي يشجع القطاع الخاص على العمل بحرية لتحقيق الربح الأقصى، معتمداً على آليات العرض والطلب (ومن ثم الاحتكار) دون تدخل كبير من الدولة.
يثير هذا الجمع بين المبدأين في المادة الثامنة من مسودة الإعلان الدستوري تساؤلاً جوهرياً: هل يمكن للسوق الحرة والعدالة الاجتماعية أن يسيرا بالتوازي في نظامٍ اقتصادي واحد؟ الإجابة عن هذا السؤال ليست صعبة، إذ تشير التجارب العالمية إلى أن ترك الأسواق تعمل دون ضوابط اجتماعية كفيل بتقويض العدالة الاجتماعية بشكل حتمي. فـ«الكفاءة» الاقتصادية التي تولِّدها المنافسة الحرة نظرياً تأتي أولاً وأخيراً على حساب الفئات الفقيرة الأكثر هشاشة في المجتمع. ففي ظل المنافسة الحرة، تتركز الثروة في أيدي فئة قليلة من الأفراد والشركات، مما يؤدي إلى تفاقم التفاوتات الطبقية وزيادة الهوة بين الأغنياء والفقراء.
بعبارة أخرى، اقتصاد السوق الحر يخدم مصالح فئة محددة من المستثمرين وكبار رجال الأعمال، بينما تترك الفئات الضعيفة عرضة لآليات السوق القاسية. وهذا ما يجعل المنافسة الحرة تتعارض مع قيم العدالة الاجتماعية، التي تتطلب تدخلاً حكومياً لضمان توزيع عادل للثروة وتوفير حد أدنى من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للجميع.
هذا التناقض الجوهري هو ما يجعل المادة الثامنة من المسودة الدستورية مثيرة للجدل. فمن ناحية، ترفع المادة شعار العدالة الاجتماعية كهدف أساسي للدولة، ومن ناحية أخرى، تتبنى آليات السوق الحر التي قد تقوض هذا الهدف. والمشكلة لا تكمن - كما يحاول البعض أن يقول - في عدم توضيح كيفية تحقيق التوازن بين هذين المبدأين المتعارضين، بل في وجودهما إلى جانب بعضهما في مادة دستورية يجب أن يحدد الهوية الاقتصادية للدولة بشكلٍ واضح. فالعدالة الاجتماعية تتطلب تدخلاً حكومياً قوياً لضمان حقوق الفئات الضعيفة، بينما المنافسة الحرة تفترض تقليص هذا التدخل إلى الحد الأدنى لضمان «حرية» السوق. وهو ما يجعل المادة الثامنة تبدو كخليط نظري غير نافع لا برنامج عمل متكامل.
النمو الاقتصادي على حساب العمال: هل هو نمو مستدام؟
تشير المادة الثامنة من مسودة الإعلان الدستوري إلى دعم القطاعات الإنتاجية وحماية المستثمرين كأحد الركائز الأساسية لتحقيق التنمية الاقتصادية. ولا شك أن دعم القطاعات الإنتاجية يمثل خطوة مهمة نحو تعزيز النشاط الاقتصادي، خاصة في بلد يعاني من آثار الحرب والدمار. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل يكفي التركيز على حماية المستثمرين لضمان ازدهار القطاعات الإنتاجية؟ الإجابة تكمن في فهم أن الاقتصار على حماية رأس المال دون ذكر صريح لحماية العنصر البشري المنتج – أي العمال – يمثل قصوراً خطيراً في الرؤية الاقتصادية والاجتماعية التي تتبناها المادة. فالعمال هم عماد العملية الإنتاجية، وضمان حقوقهم وظروف عملهم اللائقة ليس مجرد مسألة أخلاقية أو اجتماعية، بل هو جزء لا يتجزأ من تحقيق نمو اقتصادي مستقر ومستدام.
منح المستثمرين تسهيلات وحوافز، مثل الإعفاءات الضريبية أو تسهيلات القروض، دون أي اعتبار لحقوق العمال، لن يؤدي إلا إلى زيادة مستوى استغلال العمال وتهميشهم أكثر، مما يناقض مبدأ العدالة الاجتماعية الذي ترفعه المادة الثامنة كشعار. فكيف يمكن الحديث عن عدالة اجتماعية في ظل نظام اقتصادي يهمِّش الفئة التي تتحمل العبء الأساسي والأول من العملية الإنتاجية؟
في التجارب الاقتصادية الناجحة حول العالم (شرقاً وغرباً)، كانت الكفة تميل بشكل واضح لصالح حماية حقوق العمال. فالدول التي حققت نمواً اقتصادياً مستداماً لم تكتفِ بجذب الاستثمارات وحماية المستثمرين، بل فرضت حداً أدنى للأجور، ووضعت معايير لظروف العمل الآمنة، وأنظمة للتأمين الاجتماعي، وحمت حقوق العمال في التشريعات الدستورية والقانونية.
إذا ركزت السياسات الاقتصادية فقط على حماية المستثمرين دون أي اعتبار لحقوق العمال، فقد يؤدي ذلك إلى نمو اقتصادي لفترة وجيزة، لكنه سيكون نمواً هشاً وغير عادل، يخدم مصالح أقلية في المجتمع على حساب الأغلبية المنتجة. فالنمو الاقتصادي الذي يعتمد على استغلال العمال وتجاهل حقوقهم لن يكون قادراً على تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة التي تتحدث عنها المادة الثامنة. بل على العكس، سيزيد من التفاوتات الطبقية ويقوض الاستقرار الاجتماعي، مما يجعل النمو الاقتصادي عرضة للانهيار عند أول منعطف.
لذا، فإن إغفال ذكر حماية حقوق العمال في المادة الثامنة يمثل ثغرة جوهرية في النص الدستوري، تقوض ادعاء المسودة بأنها تراعي العدالة الاجتماعية. فالعدالة الاجتماعية الحقيقية لا يمكن أن تتحقق دون ضمان حقوق العمال، ولا يمكن تحقيق نمو اقتصادي عالٍ ومستدام إذا كان عامل الإنتاج الأساسي – الإنسان – مهمشاً ومحروماً من ثمار النمو.
وإذا كانت المادة الثامنة تهدف حقاً إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، فلا بد أن تتضمن نصوصاً واضحة وصريحة تحمي حقوق العمال وتضمن لهم ظروف عمل لائقة، وتضمن مشاركتهم في ثمار النمو الاقتصادي. فقط عندها يمكن القول إن هذه المادة تعكس رؤية متوازنة تحقق العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية في آن واحد.
غياب رؤية اقتصادية لسورية المستقبل
التناقضات التي تكشف عنها المادة الثامنة من مسودة الإعلان الدستوري السوري ليست مجرد إشكالية في الصياغة أو اختلاف في الأولويات، بل تعكس مشكلة أعمق تتعلق بغياب رؤية اقتصادية وهوية واضحة للدولة السورية في المرحلة القادمة. فالنص الدستوري، بدلاً من أن يحدد أنموذجاً اقتصادياً محدد المعالم، يبدو وكأنه يحاول إرضاء مجموعة التوجهات السياسية والاقتصادية بوضع مبادئ متباينة جنباً إلى جنب، دون توضيح كيفية التوفيق بينها أو تحديد الأولويات. وهذا النهج التوفيقي لا يخلق توازناً، بل ينتج تشويشاً يعكس غياباً تاماً للهوية الاقتصادية التي يجب أن ترتكز عليها الدولة في مرحلة إعادة الإعمار.
هذا الغياب يعيد إلى الأذهان المعاناة التاريخية لسورية من تخبط الهوية الاقتصادية. فخلال العقود الماضية، عاشت البلاد ما يمكن وصفه بـ«حالة فصام» اقتصادي، حيث كان الدستور السوري قبل عام 2012 يزعم أن الاقتصاد اشتراكي، بينما كانت السياسات الفعلية هي رأسمالية مشوهة. وهذه الازدواجية لم تؤدِ إلا إلى تفاقم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، حيث فشلت الدولة في تحقيق العدالة الاجتماعية من جهة، وفي بناء اقتصاد سوق فعال من جهة أخرى.
المسودة الحالية، بدلاً من أن تتعلم من هذا الدرس التاريخي، تعيد إنتاج النهج المشوش نفسه، بل بطريقة أكثر تشويشاً. فبدل أن تتبنى رؤية اقتصادية واضحة، تكتفي المسودة بمزج شعارات العدالة الاجتماعية مع مفاهيم السوق الحر، دون تحديد الآليات الكفيلة بتحقيق أي منهما. وهذا النهج لا يقدم حلاً، بل يخلق إشكالية جديدة تتمثل في غياب بوصلة توجِّه التشريعات والسياسات التفصيلية اللاحقة. فكيف يمكن للدولة أن تضع سياسات اقتصادية فعالة إذا كان الدستور نفسه لا يحدد هويتها الاقتصادية؟
غياب الهوية الاقتصادية الواضحة يعني أن الدولة ستستمر في التخبط بين النماذج المختلفة، دون أن تتبنى نموذجاً محدداً يمكن البناء عليه. فهل سورية دولة تسعى لبناء اقتصاد عادل اجتماعياً يعتمد على تدخل الدولة في توزيع الثروة وحماية الفئات الضعيفة؟ أم أنها تسعى لبناء اقتصاد سوق حر يعتمد على المنافسة والاستثمار الخاص والربح الأقصى؟ المسودة الحالية لا تجيب عن هذه الأسئلة، مما يترك الباب مفتوحاً أمام تفسيرات متضاربة وسياسات غير متسقة.
والنتيجة المنطقية لهذا الغياب هي أن سورية ستستمر دون هوية اقتصادية معلنة، مما يعيق جهود إعادة الإعمار والتنمية. وتحديد الهوية الاقتصادية للدولة ليس مجرد مسألة دستورية، بل هو خطوة أساسية نحو بناء مستقبل اقتصادي واضح ومستقر، يمكن أن ترتكز عليه السياسات والبرامج الاقتصادية جميعها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1217