د.محمد المعوش
email عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
لن نخرج بعيداً عن سياق المواد السابقة، وكيف ذلك والسياق يفرض نفسه على مساق التفكير والممارسة. ونقصد النقاش الدائر حول تطوير المشروع الحضاري الأممي في مقابل الأزمة الحضارية للرأسمالية، بل على ما يبدو كما ظهر في غير مكان أنها أزمة السياق الحضاري للانقسام الطبقي عبر التاريخ الذي وصل إلى مرحلة حاسمة من انتقاله إما إلى بربرية محققة وفناء لاحق (وربما متجاوران) وإما إلى مجتمع السيطرة الواعية على المصير المشترك للبشرية وحكماً الطبيعة. وهنا استعادة لأحد الأعمال المنسية وربما المجهولة للمناضل جورج بولتيزر شهيد النازية.
في المواد السابقة حاولنا التأكيد على أن الأزمة التي قادت لها الرأسمالية في نسختها الراهنة كنتيجة منطقية لقوانين عمل الرأسمالية، هي ازمة نمط حياة شامل يعكس علاقة الإنسان بالعام (وضمنا الطبيعة) وموقفه منه ومن نفسه (وغيره) ككائن. هي أزمة حضارة. والرد عليها يكون بتصور وبناء حضارة نقيضة لأسس الرأسمالية كنمط إنتاج سلعي- استهلاكي، والمؤسس للتغريب كجوهر الأزمة الحضارية وتداعياتها الاجتماعية والعقلية- النفسية والطبيعية. وهذا ما ليس مطروحاً اليوم كمشروع أممي، كرد على «عالمية الرأسمالية». وهنا نحاول تلمس بعض عناوين الأزمة ونقيضها في طروحات الجدلية وفي الفن، وتحديداً المسرحي والشاعر بيرتولد بريخت.
في المقال السابق حاولنا الإشارة بشكل عام إلى دور التكنولوجيا «الذكية» وتوسعها في الأزمة الحضارية للرأسمالية، واحتمالية تحوّل الأخيرة نحو مجتمع طفيلي «رشيق» سيخلي المساحة من كل ما هو عقلاني في التاريخ البشري لصالح البربرية مغرقاً بها كل من هو لم يعد له حاجة ضمن «الطفيلية الرشيقة» المذكورة. ومجدداً، هذا السيناريو هو احتمال محكوم بتطوير المشروع الحضاري البديل على غير قواعد الإنتاج البضاعي الذي وحده قادر على إعادة ضخ أسس العقلانية/الإنسانية في التاريخ والمجتمع. وهنا نمر مجدداً على الملامح الرئيسية للمعادلة المركزية التي تحكم التشظي المؤسس للبربرية، وبعض جذورها في الفلسفة والعلم (والفن في المادة اللاحقة).
في المواد السابقة وصلنا إلى خلاصات عامة ألا وهي أن أزمة الثقافة المهيمنة كتعبير عن أزمة نمط الحياة الاستهلاكي القائم على الإنتاج البضاعي تلتقي مع غياب نمط حياة بديل عالمي يتجاوز الإنتاج البضاعي، أقله فيما يرفعه من تصورات وموضوع على مسار البناء. وهذا ما يفتح الاحتمالات على أشكال البربرية المختلفة والتي تجد أحد قواعدها في تفتت بنية العقل على أساس انهيار سردية الثقافة المهيمنة. ولكن مررنا على فكرة دور التكنولوجيا الحديثة في تدعيم شكل من البربرية جرى تصوّره خلال العقود الماضية ويلتقي مع الردة على المجتمع الإنساني ككل.
في المادة السابقة والمواد التي سبقتها نحاول قدر الإمكان الإنتقال من نقاش أزمة الثقافة المهيمنة الليبرالية إلى نقاش قضية بديلها وإشكالاته. فالجانبان يشكّلان واحداً. وما هذا الإنتقال في النقاش إلّا كونه يفرض نفسه مهمة عملية/سياسية عالمية تتكشف ملامحها كلما تقدم الصراع، ولهذا كان التركيز عليها على صفحات قاسيون منذ سنوات ليس بالمعنى النظري فقط، فهي كانت مطروحة إلى هذا الحد أو ذاك طوال عمر الرأسمالية، بل بالمعنى في كونها قضية سياسية برنامجية «أممية». وهنا نعالج ملامح واحد من التيارات العالمية التي تحضر في سياق مواجهة أزمة الهيمنة. نقصد تيار «الخصوصية الثقافية ضمن الوحدة العالمية المتساوية» الذي يعود إلى الواجهة بوضوح.
في سياق النقاش حول التصدي لمهام عملية الانتقال العالمية ربطاً بطبيعة الظواهر التي تطورت خلال العقود الماضية من عمر الرأسمالية العالمية (كنظام حياة وعلاقات وإدارة، وليس فقط كـ «اقتصاد صاف»)، واستكمالاً لمجموعة الأفكار والفرضيات التي تطرح ليس فقط أزمة الرأسمالية بما هي هذا النمط من الحياة وما وصلت إليه من تفكك وتعطّل، بل أيضاً الغياب لما يسمى مشروع الحياة البديل المتبلور على مستوى العالم والذي ولا شك يتجاوز مقولة «تعدد الأقطاب» التي لها طابع سياسي مؤقت (ودفاعي بشكل عام) بالدرجة الأولى، ولم يتجاوز الرأسمالية نفسها بعد. وهنا ضرورة العودة إلى بعض نقاشات العقود الماضية. في هذ المادة والمواد التي تليها سنحاول المرور عليها ووضعها في سياق النقاش الراهن ودعم بعض ما طرح من أفكار.
إذا كان طابع المرحلة العام هو الردة على كل ما هو حيّ وعقلاني وتقدمي أُنتِج عبر التاريخ، فإن هذا الحيّ والعقلاني يدافع عن نفسه بطرق مختلفة انطلاقاً من خصوصية الميدان الذي يحضر فيه. والتعرّف على هذا الخاص ضروري لبناء البرنامج العملي «الجبهوي» من أجل تأطير حركة الدفاع عن الحياة. وهنا نطلّ مرة جديدة على أزمة العلوم من باب ديناميات العلم الداخلية.
في مواد سابقة أشرنا إلى الأزمة الفكرية التي يعيشها النظام الإمبريالي، والتي من أهم ملامحها عدم قدرته على تبرير وجوده، وبالتالي عجزه عن إعادة إنتاج نفسه من خلال البنية الفوقية التي تنظم مختلف مستويات الممارسة الحقوقية والسياسية والقيمية والثقافية والفنية والعلمية. وهذا العجز النسبي يتخذ شكل التدمير لما هو قائم من بنى ثقافية وعلمية وسياسية وفنية بلبوس تيارات عدمية لها نتائجها المدمرة على مستوى العقل والهويات الفردية وفهم العالم، وحكماً الدول والسرديات التي يعرفها المجتمع البشري. وهنا نعالج، مرة جديدة، حضور (واشتداد) هذه الأزمة في ميدان العلم من باب الذكاء الاصطناعي.
في السلسلة السابقة التي حاولت أن تطلّ على التوتر الحاصل بين البنية الفوقية والتحتية، والذي هو انعكاس للتفكك الذي تؤسس له أزمة المجتمع الرأسمالي، وصلنا إلى خلاصات عامة وهي أنّ جوانب البنية الفوقية والتي هي الوعي والثقافة والفن والعلم والحقوق والسياسة لم تعد قادرة على الإجابة عن تناقضات وحاجات تطور القاعدة المادية (التحتية) ودخلت منذ وقت ليس بقريب بأزمة، والتي تشتد مؤخراً على وقع اشتداد التناقض في القاعدة المادية، على قاعدة دمار العقل الإنساني نفسه. وكما قلنا سابقاً سنعالج في هذه المادة في بعض التفصيل ليس بالتحديد أزمة الفن المهيمن، بل الكوامن الغنيّة لهذا المستوى من الوجود الإجتماعي، أي الوجود الفني، واحتمالات تحوّله وتوسعه.
من الضروري أن نختتم السلسلة التي تحمل ذات عنوان هذه المقالة والتي ضمت 4 مقالات سابقة ببعض النقاط الرئيسية التي عالجتها المقالات السابقة. هذه النقاط إلى جانب أنها تضع المقالات السابقة في السياق التاريخي وتحدد مواقعها في الصراع الراهن، فهي أيضاً تحاول أن تتوسع في الخلاصات السياسية-العملية لتلك المقالات التي ربما كانت غارقة في الطابع الذي يميل قليلاً إلى المعالجة النظرية. هذا التوسع ينقلنا في المواد القادمة إلى التركيز بشكل منفصل على مختلف المستويات والقضايا التي تضمنها الإطار العام للمقالات السابقة.