في تشكيل جبهة الدفاع عن الحياة: العلم نموذجاً
إذا كان طابع المرحلة العام هو الردة على كل ما هو حيّ وعقلاني وتقدمي أُنتِج عبر التاريخ، فإن هذا الحيّ والعقلاني يدافع عن نفسه بطرق مختلفة انطلاقاً من خصوصية الميدان الذي يحضر فيه. والتعرّف على هذا الخاص ضروري لبناء البرنامج العملي «الجبهوي» من أجل تأطير حركة الدفاع عن الحياة. وهنا نطلّ مرة جديدة على أزمة العلوم من باب ديناميات العلم الداخلية.
العلم يعيش تناقضه الواعي
في كتابه «ملاحظات حول العلم والأزمة» يقول ماكس هوركهايمر (من الأساسيين في مدرسة فرانكفورت) أن «العلم يقبل كمبدأ أن كل خطوة من خطواته لها قاعدة نقدية، ولكن الخطوة الأكثر أهمية، أي تحديد مهمات العلم، تفتقد إلى التأسيس النظري وتبدو أنها اعتباطية. وثانياً، للعلم علاقة بفهم العلاقات الشاملة؛ ومع ذلك، لا يملك القبض الواقعي على العلاقات الشاملة التي يقوم عليها وجوده نفسه، والاتجاه الذي يقوم عليه عمله، أي المجتمع. والتناقضان يرتبطان ارتباطاً وثيقاً». ويقول هوركهايمر في مكان آخر إن الأيديولوجيا المهيمنة تحضر في العلم عبر إدارة الظهر وغض النظر عن الأزمة الاجتماعية والبحث فيها، فـ «في علم هذه المراحل، إن البعد الأيديولوجي يحضر إلى الضوء عادة قليلاً كحكم خاطئ ولكن في قلة وضوحه، ولغته الخفيّة، وطريقته في طرح الإشكاليات، اتجاه بحثه، وفوق كل شيء، عمّا يغلق عينه عليه.» وهذا ما جعل العلم «يهدر ويبدد الطاقات العقلية» كمحدد لمسار العلم في القرن الماضي.
ولكن في كون العلم يعكس التناقض في المجتمع واتجاهاته العامة، وكما يقول هوركهايمر، وبعد أن وصلت التناقضات حداً يسمح بالعين «العادية» بالنفاذ إلى جوهر ما يحدث فعلاً، فإن التناقض الداخلي للعلم متعاظم، وبالتالي فإن قواه البشرية تعيش هذا التناقض بالضرورة، في كونها الحامل البشري لتناقض العلم.
الاغتراب المضاعف الواعي
في كون العلم يعيش تناقضاً مزدوجاً، أو مركباً، فإن العالم أو العامل في العلم يعيش اغتراباً مضاعفاً. فهو من جهة كإنسان، يعيش الأزمة الاجتماعية وتداعياتها، ولكنه وبحكم دوره كباحث في فهم الواقع من أجل توظيف العلم الذي «له طابع الحياد» في حل هذه المشكلات، فهو عند تعطل العلم كمؤسسة وكمنهجيات مهيمنة وكتمويل وكنشر يعادي هذا الواقع، فإن العامل في ميدان العلوم يصبح بشكل واع في وضعية المعادي لنفسه. هذا ما يضع الباحث «المتضرر اجتماعياً» في اغتراب مضاعف كون منتوج عمله البحثي يصب علناً في غير صالحه.
عداء العلم ووزنه الاجتماعي
الباحثون والباحثات يشكّلون كتلة وازنة بعد تضخم أعداد المتخرجين ما بعد الدراسات العليا والعاملين والعاملات في ميدان العلوم خلال العقود الماضية. وخصوصاً في توسع دور العلوم والابتكار في عملية الإنتاج. هذا التوسع يجعل من أزمة العلوم ساحة صراع حامية تبدو بوادرها كما قلنا سابقاً من خلال نقاشات حامية تحت ما يسمى أزمة العلوم وأزمة الإبداع في العلوم، وغيرها. وهذه القاعدة الاجتماعية يجب ألا تنحصر في حدود جدران العلم حصراً، أي في جدران النقاش الأكاديمي وعلى صفحات المنشورات، بل يجب تحويلها إلى كتلة فاعلة مباشرة ضمن أطر لها ملمح سياسي مباشر لمواجهة موجة معاداة الحياة وتدميرها. وهنا يجيب تجاوز التخصصية في كل علم، فالأزمة هي أزمة دور العلم ككل، والتي أصبحت أوضح لمجمل العاملين المتضررين وأصحاب الفكر الحي على مختلف تخصصاتهم واتجاهاتهم.
الجبهة الواسعة
إن فكرة توسيع الجبهة المواجهة تستند إلى محاولات جرى تقديمها خلال القرن الماضي في عدة دول، ومنها إيطاليا والتي نظّر لها بالميرو تولياتي، وكان وقتها قد حددها بشكل واضح كجبهة الدفاع عن الحضارة بشكل عام، وكذلك أشار فيدال كاسترو في حوارات سابقة معه في نهايات ثمانينيات القرن الماضي، وكذلك قدمها الثوريون العرب في جبهة مواجهة الفاشية والتي كانت أوسع ما يكون من جبهة «سياسية» حزبية. فما بالنا اليوم بعد توسع حضور العامل الذهني والقدرة الإبداعية والانخراط في الحركة من قبل فئات واسعة لم تعد منحصرة بفئات من المثقفين الثوريين المتحدرين من الطبقات الوسطى، بل صارت تضم فئات واسعة من الطبقة العاملة، تلك المنخرطة بميادين الفن والعلوم والإنتاج الثقافي بشكل عام.
أدوات غير تقليدية
يجب التفكير مرة جديدة في أدوات العمل عند الذهاب في تأطير هذه الحركة التي تعيش تناقضاً واعياً وتملك الفعالية النسبية للحركة، وبالتالي التفكير في تشكيل أطر ومنصات مرنة قادرة على التعامل مع هكذا ميدان له من عدم الانضباط أكثر من عمل الأحزاب والجبهات السياسية التقليدية. وهنا يجب الاستفادة مثلاً من التجارب «النقدية» في مجال العلوم تحديداً تجربة مدرسة فرانكفورت ولكن مع توسيعها لتتلائم مع إحداثيات المرحلة والفئات المستهدفة. وهكذا يمكن أن تتحول الطاقة الكامنة في العلوم إلى عامل مضاف في حركة الدفاع عن الحياة، ولكن يجب في بادئ الأمر وضعها على جدول الأعمال السياسي ورسم أطرها. والعلم لا يختلف عن باقي المؤسسات والبنى التي تدافع عن نفسها في أشكال مختلفة، كالعائلة وبنى القرابة والفكر التراثي الذي يحمل ما يحمل من عناصر الحياة الحقيقية، والتي يجب أيضاً البحث في تأطير دفاعها عن نفسها (يمكن هنا مراجعة الحركة الصربية للدفاع عن العائلة تحت لواء الكنسية). فبناء تلك الجبهة الواسعة والمرنة أمر ضروري.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1111