مجدداً: عن الأزمة الحضارية وتجاوز الرأسمالية (1)

مجدداً: عن الأزمة الحضارية وتجاوز الرأسمالية (1)

في سياق النقاش حول التصدي لمهام عملية الانتقال العالمية ربطاً بطبيعة الظواهر التي تطورت خلال العقود الماضية من عمر الرأسمالية العالمية (كنظام حياة وعلاقات وإدارة، وليس فقط كـ «اقتصاد صاف»)، واستكمالاً لمجموعة الأفكار والفرضيات التي تطرح ليس فقط أزمة الرأسمالية بما هي هذا النمط من الحياة وما وصلت إليه من تفكك وتعطّل، بل أيضاً الغياب لما يسمى مشروع الحياة البديل المتبلور على مستوى العالم والذي ولا شك يتجاوز مقولة «تعدد الأقطاب» التي لها طابع سياسي مؤقت (ودفاعي بشكل عام) بالدرجة الأولى، ولم يتجاوز الرأسمالية نفسها بعد. وهنا ضرورة العودة إلى بعض نقاشات العقود الماضية. في هذ المادة والمواد التي تليها سنحاول المرور عليها ووضعها في سياق النقاش الراهن ودعم بعض ما طرح من أفكار.

حول «عالمية المشروع»

من الأفكار التي يمكن محورة النقاش حولها هي ضرورة عالمية المشروع البديل، وتصب في سياق النقاش الدائر عالمياً اليوم، وهذه الفكرة كانت قد وُضعت للنقاش مبكراً خلال العقود الماضية. ويمكن البدء من هذه الفكرة لسبب مهم هو أنه يرسي عاملاً مفتاحياً في التمييز بين «المشاريع» الموجودة في مواجهة الرأسمالية والتي ما زلنا نرى ملامحها اليوم، بل تحديداً اتضحت اليوم أكثر، حتى وإن كانت هذه الملامح محمولة على قاعدة «البديل عن الرأسمالية». ومن المفاتيح تلك هي الموقف من التيارات الثقافية التي راجت خلال النصف الثاني من القرن الماضي تحديداً، ويمكن تكثيفها بـ: التيار الليبرالي، والتيار الماركسي، والتيار الثقافي «الرافض» الرافع لشعار الخصوصية. وتكمن فكرة التفرقة بين هذه التيارات التي تشكل اليوم جوهر النقاش العملي عالمياً (ولو أنها لم تحضر إلى السطح بشكل صريح) هي أن كلا التيارين الماركسي والثقافي «الخصوصي» لا يقدمان بالمعنى البرنامجي الملموس (مع التأكيد على الاختلاف بين التيارين) مشروعاً عالمياً يوازي عالمية المشروع الليبرالي من خلال تجاوز الرأسمالية كحالة «حضارية»، وكنمط حياة شامل. فالثاني (صاحب الخصوصية الثقافية) عاجز بنيوياً وتاريخياً عن تجاوز الرأسمالية كحالة محققة على مستوى العالم ويدعو إلى الانكفاء الثقافي إما القومي أو الوطني أو التراثي السلفي والغرق في حالة «الحنين». بينما الأول (الماركسي المحقق في الحقيقة، أي التجارب التي تنتمي إلى الحركة الاشتراكية، ويُقصد فيها عادة الاشتراكية السوفييتية والصينية بشكل خاص) يملك الإمكانية التاريخية (العدة النظرية والمنهجية المطلوبة) لتجاوز الرأسمالية كحالة حضارية، ولكنه (أي التيار الماركسي المحقق من خلال التجارب والقوى التي تنتمي إلى فضاء الماركسية) لم يبلور أقله بالمعنى البرنامجي المطروح للتطبيق التصدي لهذه المهمة (التي هو قادر عليها)، بل بقي (في التجربة والبرامج والطروحات) أسير النظرة «الاقتصادية» للرأسمالية، أي خضع هو نفسه أسيراً للاستلاب وذلك من خلال تغييب مشروع حياة عالمي يتجاوز قاعدة الإنتاج البضاعي وقانون القيمة، أي وضعية السوق التي تحدد في نهاية المطاف باقي المستويات الثقافية والحياتية اليومية والسياسية والعقلية-النفسية والحقوقية الملائمة معها.

في مقارنة مع الحاضر

هذا النقاش يشكل نقطة انطلاق لنا في الموقف القائل بأن على القوى الماركسية اليوم أن تطوّر ما وصلت إليه التجارب الاشتراكية المحققة، في إنجازاتها ولكن أيضاً فيما لم تقدر على بلورته (وتحديداً ما لم يسمح الظرف السياسي والتاريخية وقتها ببلورته أخذاً بعين الاعتبار حاجات المواجهة مع الغرب ومتطلبات هذه المواجهة) لأنها نفسها في لحظة ما من حياتها «جمّدت» النظرة التاريخية لتطور المجتمع وتجاوز الرأسمالية، وتحديداً قضية الإنتاج البضاعي السلعي التي تشكل القاعدة المادية الضرورية لهذا التجاوز. وبالتالي ليس كافياً للقوى الماركسية والشيوعية اليوم أن تستعيد العدة «الاشتراكية» نفسها دون تجاوز، في سياق تجاوز الرأسمالية. والمقصود بهذه العدة هي البرامج العامة الإستراتيجية لرؤية هذه القوى تجاه بناء المجتمع ككل وغايات هذا البناء. هل هو الحفاظ على آليات السوق والإنتاج البضاعي وكل البناء الحضاري المستند إليها، ونقصد بذلك ما ينتج عنها من علاقة بالفرد بالعالم وبنفسه بشكل خاص، أم أن هناك ضرورة لإرساء نظام لا يقوم على التبادل السلعي والإنتاج البضاعي مع ما يعنيه ذلك من نظم إدارة وعلاقات وأنماط ثقافية وعقلية جديدة! وهنا يحضر أمامنا ملامح الطروحات التي نراها لدى القوى الصاعدة نفسها، وتحديداً روسيا والصين كحاملين أساسيين لقوى الإنتقال. بالفعل، نرى لدى هاتين القوتين مشاريع ثقافية بدأت بالبروز على وقع لحظة تاريخية من المواجهة تعطّل فيها المشروع الليبرالي وأخذ مساراً تدميرياً، ولكن كليهما لم يتجاوزا حدود الموقف الدفاعي «الخصوصي». وهذا الموقف حول الحق في التعددية الثقافية على مستوى العالم ورفض فرض الغرب لأجندته الثقافية تطرحه هذه الدول على قاعدة التعددية القطبية السياسية نفسها. ولكن هذا الموقف كما قلنا سابقاً لا يجيب عن تحديات التطور التاريخي التي فرضتها عقود من الليبرالية والحاجات المادية (الإجتماعية) والروحية-المعنوية التي ترتكز حول الفرد الذي وُضِع في مركز المشروع الليبرالي. فالخصوصية الثقافية والقيم والعادات التي يحاول الغرب تدميرها حقاً في سياق ردته على كل ما هو عقلاني، كونه فقد لسردية قادرة على تبرير نفسه، هذه الخصوصية الثقافية (على الرغم من أنها تحمل فيها عناصر «تراث اشتراكي» في حالتي روسيا والصين) تنتمي للتاريخ ولسياق اجتماعي وممارسي آخر، وبالتالي ليست كافية (على ضرورة هضمها واستيعابها لا مسحها وإلغائها) لواقع اجتماعي وممارسي راهن له إجاباته «الثقافية» الخاصة. والمقصود بهذا المشروع طابعه العالمي الذي يخاطب الإنسانية ككل أممياً، ويمثل مصالحها «الثقافية» بما هي نمط حياة وعلاقات على النقيض من الرأسمالية القائمة في كل بقاع العالم كنمط حياة بضاعي- سلعي يحكم كل حركة المجتمع، بمعزل عن شكل التحكم في السوق وموقع الدولة التي تتحكم فيه نسبة للسوق العالمية. فكل ما يُطرح يبقى في إطار السوق وقانون القيمة.

دور الثقافة المركزي

هذا الدور المركزي للمشروع الثقافي العالمي بدأ يفرض نفسه في لحظة تاريخية انكشف فيها جوهر الرأسمالية كحالة أكثر من استغلالية بل تدميرية. ويمكن القول اليوم إن الأزمة العميقة للرأسمالية رفعت من حالة الشفافية في تعميقها حالة الاستلاب في قلب كل مجتمع، وسّعت هامش اعتمال العقل تجاه هذه الحالة «الحضارية» بعد تبيان فراغ المعنى الوجودي الذي يحمله مشروعها «الفرداني الاستهلاكي» (الموازي لقاعدة السوق والقيمة التبادلية نفسها). هذا جعل في السنوات السابقة، وبعد وصول المشروع الليبرالي إلى حدوده التاريخية وانكشاف جوهره المفرّغ من المعنى ودفع باتجاه أزمة العقل الحالية عالمياً، رفع من الحاجة إلى هيمنة الجانب الثقافي من جديد على حساب الاقتصادي كإطار للنقاش. وبالتالي دخل العالم «الثقافي-الفكري» كما دخل في عدة مرات انتقالية في التاريخ في حالة توتّر وعدم يقين حضاري. هذه اللحظة تفرض تقدم الجانب الثقافي إلى الواجهة كعنصر مهيمن في قيادة باقي السلسلة الصراعية. على أن المهمة الحالية هي سد هذا الفراغ الحضاري في الرد على أزمة النمط الفرداني المحقق خلال العقود الماضية من خلال مشروع لا يلغي ما حصل من تطور على مستوى قوى الإنتاج المادية والبشرية والحاجات التي يتطلبها، بل يهضمها في مشروع اجتماعي «شعبي أممي» يتجاوز الطبقي المحدود (والمقصود هنا حصره بالطبقة العاملة)، بل يجيب عن أسئلة القوى الإجتماعية ككل. ويحتاج ذلك إلى تعبير- حامل سياسي تنظيمي (جبهوي) عن هذه الحالة النوعية من تجاوز الاقتصادي لصالح الحضاري والتي تشهد تلاقي فئات واسعة من القوى الحية «الثورية» للتصدي لمهمة فتح طريق الحياة للتقدم. وهذا النقاش عن الجبهة الواسعة ظهر سابقاً في بعض محاولات مجتمعات الأطراف الانفكاكية (تجربة إيطاليا والجبهة الحضارية المسيحية-اليسارية، وتجربة حركة مواجهة الفاشية في مجتمعنا)، ولكنها اليوم صارت اليوم حالة عالميّة نتيجة التزامن والترابط العالي الذي حصل في العقود الماضية. والحاجة إلى هكذا جبهة على مستوى التحدي الحضاري صارت أممية اليوم على مستوى الحاجة العملية لها، أي ضرورتها لإنقاذ البشرية والتصدي للمشروع البربري الذي أصبح يتجاوز الاقتصادي البحت. ولكنها إلى حد الآن لم توضع موضع التشكيل الواعي المطلوب، بل هي محصورة لدى القوى الصاعدة كما يبدو في تلمس الطريق تجريبياً على هذا المستوى.
هذه هي النقاط الرئيسية التي تصلح بشدة للنقاش الراهن، وتحديداً عالمية المشروع البديل كنمط حياة يتجاوز حالة السوق واقتصادها التي تهيمن في كل العالم (الصاعد والمتراجع على حد سواء) مهما كان شكل الدولة التي تقوم بإدارة الفائض من القيمة. وعدم التجاوز هذا يفتح باب التفكك والردة للخلف إلى ما تحت الدولة، ويقدم مادة تفجيرية للإمبريالية، في لحظة من التوتر الحضاري التي نحن فيها اليوم. فإذا كان المهيمن عالمياً اليوم، أي الذي يجر معه باقي مستويات الصراع، كما أشرنا سابقاً، هو الثقافي (أي النمط الحضاري الرأسمالي ككل) فالمطلوب الرد عليه بنمط بديل يوازي مستوى الهجوم الناتج عن هيمنة هذا المستوى في الصراع، لا الانحصار بطروحات ثقافية خصوصية دفاعية الطابع مهما حملت من أفكار أخلاقية، ولا حتى الأفكار الأخلاقية بقوى «الخضر» ومشاريع «الزهد الاستهلاكي» التي لا تتجاوز في كونها سلبية أو تبقي على القاعدة البضاعية وقانون القيمة نفسهما وتنظر للحل عبر الهروب إلى جزر نائية ومعزولة عن «الحضارة المأزومة». فمجدداً، المهمة بكل بساطة هي ضرورة تعريف «اشتراكية القرن الحادي والعشرين»، وكيفية تضمينها ما حصل من تطور روحي- ومادي تكنولوجي خلال العقود الماضية، لا القفز عنه، وتحديداً قضية «التحقق الفردي» التي هي في صلب مشروع ماركس الإنساني، حيث الاقتصاد أداة لتحليله والوصول إليه.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1113