مجدداً عن الأزمة الحضارية وتجاوز الرأسمالية (2)

مجدداً عن الأزمة الحضارية وتجاوز الرأسمالية (2)

في المادة السابقة والمواد التي سبقتها نحاول قدر الإمكان الإنتقال من نقاش أزمة الثقافة المهيمنة الليبرالية إلى نقاش قضية بديلها وإشكالاته. فالجانبان يشكّلان واحداً. وما هذا الإنتقال في النقاش إلّا كونه يفرض نفسه مهمة عملية/سياسية عالمية تتكشف ملامحها كلما تقدم الصراع، ولهذا كان التركيز عليها على صفحات قاسيون منذ سنوات ليس بالمعنى النظري فقط، فهي كانت مطروحة إلى هذا الحد أو ذاك طوال عمر الرأسمالية، بل بالمعنى في كونها قضية سياسية برنامجية «أممية». وهنا نعالج ملامح واحد من التيارات العالمية التي تحضر في سياق مواجهة أزمة الهيمنة. نقصد تيار «الخصوصية الثقافية ضمن الوحدة العالمية المتساوية» الذي يعود إلى الواجهة بوضوح.

مجدداً حول الثقافة المهمينة

لا يمكن فهم الثقافة المهيمنة، أي الليبرالية الفردية الاستهلاكية إلا ضمن النموذج الرأسمالي الليبرالي نفسه، وفي ذات الوقت، لا يمكن فهم أزمة هذه الهيمنة إلّا ضمن الصراع السياسي وتوازن القوى القائم وأزمة الرأسمالية نفسها. فالثقافة المهيمنة لا يُقصد بها المدى الضيّق بل النمط الموحد للتصور عن الحياة، والممارسات التي تعبّر عن هذا التصور. إذاً، إنه أولاً تصور محكوم بسردية وخطاب له بنيته الحاملة. وهذا التصور يوازيه في العقل ما يسمى بالنشاط القائد-المهيمن (يمكن مراجعة مادة قاسيون-عدد 1092: انهيار «النشاط الرئيسي» والقتل «الرحيم المجّاني»: عن السؤال الملحّ مجدداً) الذي يسيّر كل عناصر البنية العقلية والنفسية الخاضعة لهدفه كنشاط. وللخطاب الليبرالي وسرديته ونشاطه العقلي القائد محددّات عامة نابعة من التعريف المركزي للإنسان الفرد ضمن الرأسمالية كمحقق لذاته عبر الاستهلاك. وهذا التعريف له مكافئه الاقتصادي. فالنجاح والسعادة هي إما في الاستهلاك وإما في مراكمة الربح. هكذا فقط يوجد الإنسان بالنسبة للرأسمالية. إذاً، فإن الشكل الذي تتحقق فيه الذات ضمن الرأسمالية وبمختلف الصيغ المتناسبة مع الفروقات الطبقية للمجتمع، تتمحور حول الفرد المستلب، بمعزل عن وجوده على أي طرف من معادلة الاستلاب، أي إما كان متربحاً منها، أو كان فيها الطرف المستَغَل. وهنا مجدداً، لا يمكن فصل هذا التعريف وكل مقولات ونمط حياة الثقافة المهيمنة وتصورها عن الحياة عن الرأسمالية وقاعدتها، أي الإنتاج البضاعي والسوق. أي إنها تتحقق في شكلها الخلويّ (على حد تعبير غرامشي) في المنزل والعمل والعلاقات الاجتماعية المختلفة وفي علاقة الفرد بنفسه انطلاقاً من هذه القاعدة المادية للحضارة الرأسمالية.

مجدداً حول أزمة الثقافة المهيمنة

هذا النمط من الحياة الفردانية-الاستهلاكية-الربحية يواجه أزمة وجودية. فهو من جهة جرى تعويمه في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية على توازن طبقي فرض هذا المستوى من إمكانية الرشوة الاجتماعية في المركز من جهة، ومن جهة أخرى سمحت به التجارب التحررية-الاشتراكية في الأطراف عبر رفع مستوى الحياة وتطوير قوى الإنتاج والتحول إلى قواعد الرأسمالية إما إنتاجاً لدى بعض التجارب التصنيعية في دول الجنوب، وإما كان لها طابع الاستهلاك أكثر من الإنتاج، أي الأسواق التي لعبت فقط دور تصريف البضائع. ولكن بشكل عام، غالب الدول عاشت جدول أعمال الليبرالية الحضاري على اختلاف من يمسك بالثروة ولصالح من يجري ذلك. وهذا النمط يواجه أزمته منذ انفجار الأزمة تحديداً في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين (وسنة 2008 هي علّام). والتناقضات التي يواجهها هذا النمط الحضاري «الاستهلاكي-البضاعي» يواجه أزمات من مستويات مختلفة. فهناك الأزمة «التشغيلية»، أي عدم قدرة السلطات على ذات مستوى الرشوة بعد الأزمة، ومن ناحية أخرى ما فرضته الأزمة من أزمات سياسية واجتماعية-عسكرية عالمياً، حطمت النمط الفرداني الاستهلاكي ونموذجاً عن السعادة. وإلى جانب «الأزمة التشغيلية»، هناك «الأزمة الداخلية» للنمط نفسه شغّالاً كان أو معطلاً. أي التناقضات التي تتحدد بالاستلاب السلعي أساساً. فالسعادة في مفهومها الليبرالي مبتورة أساساً. فهي أولاً استهلاكية غير إبداعية، وهي منفصلة عن تاريخ الآخرين، وهي بالضرورة ممنوعة عن صناعة هذا التاريخ. فالتاريخ الليبرالي يسير على جدول أعمال الربح لا معادلة الجمال الإنسانية للخلق. وهذا ما ولّد كل أمراض الليبرالية الإجتماعية والنفسية طوال العقود. وهذا التعطل في النمط الحضاري الليبرالي ولّد اصطداماً للبشرية مع حدود هذا النمط، وخلق ما سمّاه حتى عتاة منظري الرأسمالية بأننا دخلنا «عصر المعنى» بعد أن فقدت البشرية المعنى الذي ميّز نشاطها القائد في عقود الليبرالية، وهي لهذا تعيش اليوم أزمة معنى وأزمة نشاط-عقلي قائد، وأزمة تعريف لـ«السعادة».
وهنا لا بد من الإشارة، أنه صحيح القول إن هناك فروقاً بين الليبرالية في المركز، ودور الفرد فيه هناك وسرديته، عن الليبرالية في الأطراف أو التجارب التحررية في كون الفرد فيها مشاركاً ببناء التجربة وحضوره كـ«شعب» واعٍ ربط مصيره الخاص بمصير التجربة العام للمجتمع (مثلاً: الفرد-النقابي، الفرد-الحزبي)، التي تمثل لليوم حالة تنظيمية-سياسية في دول خارج المركز. ولكن هذا التمايز لا يقفز عن سقف الحضارة المهيمنة، أي الأهداف الحياتية ومعنى الحياة التي يتضمنها المشروع الليبرالي (وهنا للدقة، لا نتكلم عن الليبرالية كتهمة سياسية ضيقة، بل كنمط حياتي). وبالتالي في هذه الدول يمكن أن نلمس فصلاً بين مستوى حضور الفرد كشعب، وبين حضوره كفرد-مستهلك. أي إن الاستلاب لم يجرِ تجاوزه، بل وقف في مرحلة من مراحل تجاوزه، هي هي المرحلة ذاتها، والسقف ذاته التي وقفت عنده التجربة الاشتراكية سابقاً، أي كونها حافظت على الإنتاج البضاعي الذي على أساسه تنبني تفاصيل علاقة الفرد بالعالم. فهذه القاعدة هي التي تفرض المتطلبات الإدارية (والأجهزة المترتبة عليها) والتنظيمية اليومية وجدول الأعمال اليومي للفرد، وعليه باقي العلاقات والعادات والممارسات الإجتماعية. وبكل سهولة، إن قاطرة نمو هذه الدول اليوم، والصين بالتحديد، هي تعزيز الاستهلاك الداخلي (أو التجارة مع الخارج-وبالتالي تعزيز الاستهلاك عالمياً). وهنا نختم هذه الإشارة الاعتراضية عن أنه نعم هناك فروق بين دول المركز ودول الأطراف (الصاعدة منها بالتحديد) لصالح المدى الذي وصلته الليبرالية الفردية، ولكنها مجدداً، فروق يهيمن فيها جدول أعمال «الحضارة البضاعية-الاستهلاكية» ويُخضع له أنماط العلاقة الأخرى بالعالم، أي العلاقة الإبداعية-الجمالية للإنسان خارج الاستلاب السلّعي، أي الإنسان باني واقعه وتاريخه، وتاريخ الآخرين معه. أي إنه محقق معادلة التحقق الذاتي لدى هيغل، ولدى ماركس بالضرورة، أي عندما يكون الإنسان ضرورياً لنفسه وللآخرين، فهذه هي معادلة الوجود الجمالي للإنسان في كلاسيكيات الجدل والتحرر.
إذاً، ونتيجة لأزمة الثقافة المهيمنة، ونتيجة فقدان الرأسمالية لهوامش أخرى للمناورة بهذا المعنى الثقافي، تدفع قوى العالم القديم اليوم البشرية نحو ثقافة الـ«لا ثقافة»، وحضارة الـ«لا نشاط»، والـ«لا مشروع فردي»، والـ«لا تصور مفهوم عن العالم». هي تنحدر بالبشرية تجاه البربرية. وهذا أساساً حضّرت له منذ سنوات في إعلامها وأفلامها بشكل خاص، من خلال نمط أفلام حضارة «الأمطار الحمضية»، حيث يعيش البشر مستوى من الوجود بالكاد يكون يومياً على حدود البقاء مرضاً وأوبئة وشح غذاء وغياب الأمن والطاقة، ويتنازع المصادر «مجموعات» وعصابات متقاتلة، لا شعوب، وتنهار وحدة المجتمع، وتبقى بعض الجزر المعزولة «المحظية». هذا التصور موجود في هوليوود بشكل كثيف. وهذا موضوع لنا إليه عودة لاحقة، حول مجتمع «ما بعد الرأسمالية».

الصين وروسيا كنموذجان للقضية

إذا كان ذلك كذلك، أي في تداخل عميق بين أزمة الثقافة المهيمنة وبين القاعدة السلعية-البضاعية لتعريف الحضارة الفردانية-الليبرالية، فإن المشروع البديل لا يمكن أن يبقى في حدود الدفاع عن الخاص الثقافي للمجتمعات الصاعدة، فهذا الخاص ليس بناجٍ من هذه الأزمة كما رأينا في استناد هيمني حضاري لصالح السردية والخطاب الاستهلاكي-الفردي في داخل هذه الدول، على الرغم من وجود مستويات في هذه المجتمعات ما زالت تنتمي لحضارة «صنع التاريخ» ومعادلة التحقق الجماعية للفرد (على سبيل المثال نرى المؤسسة البحثية والأكاديمية والسياسية والفنية والعسكرية في هذه الدول، ومنها روسيا بشكل خاص). ولكن، هذا ليس لخطاب حضارة «صنع التاريخ» وجود عام في جدول أعمال المجتمع على المستوى الخلوي اليومي في المدرسة والمنزل والعمل والجامعة لغالبية المجتمع وقواه. فهناك فصل نسبي بين الفردي الممارسي (الاقتصادي-الإنتاجي تحديداً)، وبين المستوى السياسي لهذه الدول، والذي ينتمي بملامحه الأساسية إلى حضارة «صنع التاريخ». وهنا السؤال مجدداً، كيف ستتطور المواجهة ليس فقط مع الثقافة المهيمنة، بل مع أزمة الثقافة المهيمنة بالضرورة، التي هي قادرة وبسبب هذا التداخل بالذات لا أن تجر فقط معها قوى في داخل هذه الدول لمعاداة المستوى السياسي لـ«صنع التاريخ»، بل هي تجر فعلاً قوى عالمية. فالمساحة العالمية للصراع وشروط البقاء للدول الصاعدة نفسها تتطلب حل أزمة الهيمنة الثقافية في كل العالم، وبالتالي تقديم حضارة بديلة لا تقوم فقط على طروحات ثقافية خصوصية مهما كانت تدعو إلى «حضارة عالمية متساوية لكل الثقافات» كما أعلن الرئيس الصيني في لقاء مؤخر له، مع الحفاظ على القاعدة السلعية نفسها، بل تجاوز هذه القاعدة. هذه المهمة عمليّة وآنية بامتياز ووجودها في الأداء العلني يعني أنها على جدول الأعمال، ولكن يجب تجذيرها نظرياً بالدرجة الأولى، ومن ثم حسب ما تسمح به توازنات القوى على الأرض، أي مدى حضور الإنتاج السلعي لصالح إمكانية غير السلعي وكيفية تحقيق ذلك، وما دور التكنولوجيا الحديثة الذكية» في ذلك. وللبحث بقية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1114