مجدداً عن الأزمة الحضارية وتجاوز الرأسمالية (4)
في المقال السابق حاولنا الإشارة بشكل عام إلى دور التكنولوجيا «الذكية» وتوسعها في الأزمة الحضارية للرأسمالية، واحتمالية تحوّل الأخيرة نحو مجتمع طفيلي «رشيق» سيخلي المساحة من كل ما هو عقلاني في التاريخ البشري لصالح البربرية مغرقاً بها كل من هو لم يعد له حاجة ضمن «الطفيلية الرشيقة» المذكورة. ومجدداً، هذا السيناريو هو احتمال محكوم بتطوير المشروع الحضاري البديل على غير قواعد الإنتاج البضاعي الذي وحده قادر على إعادة ضخ أسس العقلانية/الإنسانية في التاريخ والمجتمع. وهنا نمر مجدداً على الملامح الرئيسية للمعادلة المركزية التي تحكم التشظي المؤسس للبربرية، وبعض جذورها في الفلسفة والعلم (والفن في المادة اللاحقة).
جذور فلسفية
لا يمكن التفكير في المعادلة المؤسِّسة للبربرية، ومن أهم ملامحها غياب الانتظام لأية بنية، وضرب أسس العقلانية، دون التفكير في المعادلة الفلسفية لانقسام (وعي-مادة، مجرد-ملموس، ذات-موضوع...) هذا الانقسام الفلسفي هو في جذوره انقسام اجتماعي بين طابعين من الممارسة تجاه الواقع، ذهنية من جهة، وجسدية من جهة أخرى. والممارسة هنا لا تعني العمل بمعناه المحدود، بل المشروع الاجتماعي ككل، والموقف من القضايا الواقعية المطروحة أمام البشرية. أي هو الموقف الذي أطّره ماركس في مقولة «ليس المطلوب تفسير العالم، إنما المطلوب تغييره». وبالتالي كلما انفصل الموقف الذهني عن هذا المطلوب كلما اشتد الانفصال بين قطبي المعادلة إياها، بين العقل والجسد، بين الذات والموضوع. إنه الانفصال التاريخي «المشهور» بين الموقف المثالي والموقف المادي في الفلسفة. وليس أحد هذين الموقفين صافياً وقائماً بذاته، فالمادية تحضر فيها المثالية بشكل نسبي، والمثالية تحضر فيها المادية أيضاً بشكل نسبي. وهذا التداخل بين الموقفين يقوم على شروط الوجود الإجتماعية التاريخية للوجود البشري. فشروط الحكم وإنتاج العقل فرضت توازناً تاريخياً بين الفئة التي تحكم والقوى التي تدور في فلكها، من جهة، ومن جهة أخرى، بين التصدي لقضايا الواقع، ومعه الممارسة الحقيقية، وهذا ما فرض وزناً مادياً لعقلها، وإن كانت هذه القوى وعقلها يميلان إلى تأبيد الواقع المنقسم.
وحتى لا نوسّع في هذه النقطة، فإن الانقسام بين المثالية والمادية، كان تاريخياً وبشكل عام يميل إلى التداخل بين الممارسة الواقعية والعقل، مع ميل تاريخي وفي شروط محددة لصالح أحد الطرفين. ولكن لا يخرج هذا التداخل بين الموقفين نحو الانفصال التام إلا بسبب حاجة الطبقات الموضوعية لبضعها البعض. أي في كون الواحدة منها تعتاش على حساب الأخرى. وهذه الحاجة هي التي كانت مثلاً تشدّ عقل الحاكم إلى أرض الواقع ضمن الشروط التي يفرضها الصراع الطبقي وتوازن القوى الذي يفرضه. ولكن والأهم، كان هذا التوازن هو الحاكم لعقل الطبقات المحكومة (الذي أنتجه عقل الحاكم نفسه كعقل مهيمن في كل مرحلة) والعاملة بشكل أساس ويمثل التماسك النسبي لعقلها.
ولكن هذا التوازن مهدد اليوم لعدة أسباب. الأول، هو القدرة على التخلي عن وزن كبير للقوى العاملة عالمياً بسبب التكنولوجيا الحديثة. مثلاً: أصدر خبراء مصرف غولدمان ساكس الأسبوع الماضي تقريراً بترجيح خسارة حوالي 300 مليون وظيفة حول العالم بسبب التطبيقات المتوسعة للذكاء الصناعي على أساس حوسبة 18% من الأعمال عالمياً وخصوصاً أصحاب «الياقات البيضاء والزرقاء» (وهذا الخبر يأتي في سياق المادة السابقة الثالثة من هذه السلسلة). والسبب الثاني، والذي يلتقي مع الأول ويحققه، هو ضرورة إخراج تلك القوى التي من المطلوب القضاء عليها وعلى البنى السياسي والاجتماعية التي تمثلها، من دائرة الفعل، وذلك عبر الانحدار بها إلى مستوى المنفعل المحض. في ظل تعطل نمط الحياة الذي تم إرساؤه على الأرض طول حضارة الاستهلاك. ولتثبيت هذا الواقع اللاعقلاني من جنون ظروف الحياة، الذي تحتكر فيه القلة مصير المليارات، مع أنه يمكن تأمين شروط ونمط حياة إنساني لتحقيق حاجات المليارات مادياً ومعنوياً، لتثبيت هكذا واقع لا عقلاني يجب إرساء «عقل» لا عقلاني.
وهكذا إذاً، يجري دفع الانفصال بين قطبي انقسام المعادلة الفلسفية إلى أقصاه. وهذا الدفع يبقي على القطبين حاضراً دون توازن وتداخل بينهما. فيجب أن يتم تثبيت مادية متطرفة تتمثل في تاريخ الفلسفة بالمدارس البيولوجية المحضة. وعلى الطرف المقابل تثبيت مثالية متطرفة تتمثل في تاريخ الفلسفة بالمدارس الذاتية المتطرفة التي تلغي الواقع وتغرق في عوالم غير واقعية. وهذه المدارس وإن لم يكن لها مساحة الحضور الأكبر في تاريخ الفلسفة فهي اليوم تحتل الموقع الأبرز في التحول الحاصل للمستوى العقلي المطلوب تثبيته على الغالبية. عقل يتوتر بين القطبين وفي ذات الوقت. إنه عقل منقسم بهذه الحدة المتطرفة له تبعات حياتية قاتلة، هي تبعات الانقسام بين الموقف الضروري من تغيير الواقع وبين الموقف من القبول أو الخضوع لما هو قائم من الجنون الذي هو أصل انقسام المعادلة الفلسفية المذكورة.
جذور علمية
إن تقصّي مفاعيل انقسام المعادلة الفلسفية أعلاه يمكن تتبّعه في العلم، وبشكل خاص في علم النفس. وهنا نعود إلى النص التاريخي، الذي يعتبر من الكلاسيكيات، للعالم السوفييتي ليف فيغوتسكي، المعنون «المعنى التاريخي للأزمة في علم النفس: تحقيق منهجي» (المكتوب في عشرينيات القرن الماضي ولم يصبح معروفاً بشكل محدود إلا في سبعينيات القرن نفسه، وإلى اليوم يجري تغييبه. النص الذي بنى عليه العديد من الأسماء الأساسية في الميدان تحليله، وهناك نذكر الجمعية العالمية لبحوث نظرية النشاط الثقافية التاريخية (ISCAR)، وهو تجمع أكاديمي-بحثي عالمي، وتحديداً من روسيا والبرازيل والبرتغال واليونان، والذين عملوا على تطوير نظرية فيغوتسكي وتلامذته وأتباعه). فيغوتسكي يبني تحليله على أساس الانقسام في المعادلة الفلسفية المركزية، وما ذكر أعلاه ليس إلا توسيعاً في تحليل فيغوتسكي ووضعه في سياق المرحلة التاريخية الراهنة. ولكن ما يهمنا استخلاصه من تحليل فيغوتسكي هو تأثير هذا التشظي بين قطبي المعادلة على العلم. فالأزمة التي عاناها علم النفس طوال تاريخه (المحكوم بالمجتمع الطبقي، وهو اعتبار يحكم كل تحليل فيغوتسكي)، هي تجربة واختبار مبكر للأزمة العقلية التي نحن أمامها اليوم.
ولماذا هذا الاعتبار حول كون الأزمة في علم النفس مؤشراً مبكراً على أزمة العقل الراهنة؟ هناك نقطتان منهجيتان في هذا الخصوص. وكلتاهما مركزيتان لدى فيغوتسكي. الأولى هي أن فهم «السواء» يجري فهمه انطلاقاً من الـ «لا سواء» (الاضطراب)، فيقول: «إن مفتاح علم النفس يكمن في علم الاضطراب (الباثولوجيا)». وهذا ليس إلا صياغة لمقولة ماركس بأن «التاريخ يسير دائماً من جانبه المتعفّن». وهكذا أيضاً كانت الترجمة السياسية لهذه المقولة لدى لينين حول «الحلقة الأضعف».
إذاً، النقطة المنهجية الأولى تفرض أن فهم الجانب «المتعفن» لأية ظاهرة يسمح بفهم- وفي حالتنا استباق- العام من الظاهرة. أما النقطة المنهجية الثانية، وهي أن النشاط العقلي-الجسدي الإنساني له قاعدة مشتركة، هي القاعدة الإبداعية كطبيعة للعقل، وبالتالي فالفرق في الإبداع بين النشاط الخاص (علم، فن) والنشاط اليومي هو في الدرجة فقط. وهكذا، فإن دمج النقطة المنهجية الأولى (اللاسواء هو مفتاح فهم السواء) والثانية (الأصل المشترك لكل النشاط الإنساني في شكليه الإبداعيين: الخاص واليومي) يسمح بالقول بأن مظاهر أزمة علم النفس، في كونها تبحث العقل والشخصية بالتحديد، هي مشهد مبكر (في ميدان النشاط الإبداعي الخاص) عن أزمة العقل العامة (في ميدان النشاط الإبداع اليومي-العادي). لماذا لها هذه الصفة من التبكير؟ هنا نضيف نقطة منهجية ثالثة، هي أن العلم هو ميدان يقوم بتوضيح منطلقاته بشكل صريح ويبني نظرياته ومقولاته بشكل واعٍ ويتعامل مع وقائع الواقع بشكلها المجرد. في كونه مجال التجريد العالي، يتميز العلم بقدرته على تحديد طبيعة الظواهر بشكل مبكر عن النشاط العقلي العادي الذي لا يتعامل مع الحركة الكلية للواقع (لا ينهض الشخص صباحاً عادة ويقول ما هي منهجيتي العلمية تجاه الواقع اليوم وما هو منطلقي الابستمولوجي-المعرفي!).
ماذا يفيدنا إذاً تحليل فيغوتسكي لأزمة العلم في سياق البربرية والتوتر الحاد للمعادلة الفلسفية بين قطبيها؟ للتكثيف وضيق المساحة، يعدد فيغوتسكي عدة ملامح. الأول هو أن عدم حل معادلة (وعي-مادة، ذات-موضوع، ومجرد-ملموس) الذي يجد أصله في الانقسام الطبقي في المجتمع، يؤدي إلى تمحور النظريات والمنهجيات حول النفس الإنسانية بين القطبين، وأقصى أشكال هذا التطرف كما قلنا في القسم السابق هما، المنهجية المثالية الذاتية التأملية من جهة، والتي تلغي الواقع، والقطب الآخر، هو المنهج الحسي الصافي والذي يلغي الذات الإنسانية ويغرق في الاتجاه الطبيعي الميكانيكي. وما باقي المنهجيات التي تهيمن إلا تعبير عن امتداد بين القطبين ودمجهما بشكل ميكانيكي. ويقول فيغوتسكي بأن تطور هذا التوتر محكوم بتطور الأزمة الواقعية الاجتماعية التي تفعل فعلها في العلم. وفعلاً نجد اليوم مدارس «نفسية» تنزع نحو إلغاء الواقع بالكامل، وبين أخرى تلغي الذات بالكامل وتغرق في الانغماسية الحسية (يمكن أن نرى تعبيرات عن هذه المنطلقات بشكل صافٍ في طبيعة النماذج المعتمدة لتمثيل العقل في الذكاء الصناعي). هذا الانقسام وضغط الأزمة الاجتماعية سمح للبعض بالقول بأن علم النفس مؤخراً مهدد في أسسه وتماسكه كعلم، وتحكمه الفوضى والتوالد التجريبي للمقولات والممارسات.
هذه الصورة المبكرة هي البربرية (إلغاء الذات بما هي إلغاء العقل، والغرق في الحسية) في العلم، والتي نجد ملامحها اليوم في الشخصية الإنسانية (كمنهجيات ضمنية). وفي المادة اللاحقة سنحاول تتبعها في التيارات الاجتماعية والصورة المبكرة للفن، وتحديداً لدى عظيم المسرح بيرتولد بريخت.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1116