مجدداً عن الأزمة الحضارية وتجاوز الرأسمالية (3)
في المواد السابقة وصلنا إلى خلاصات عامة ألا وهي أن أزمة الثقافة المهيمنة كتعبير عن أزمة نمط الحياة الاستهلاكي القائم على الإنتاج البضاعي تلتقي مع غياب نمط حياة بديل عالمي يتجاوز الإنتاج البضاعي، أقله فيما يرفعه من تصورات وموضوع على مسار البناء. وهذا ما يفتح الاحتمالات على أشكال البربرية المختلفة والتي تجد أحد قواعدها في تفتت بنية العقل على أساس انهيار سردية الثقافة المهيمنة. ولكن مررنا على فكرة دور التكنولوجيا الحديثة في تدعيم شكل من البربرية جرى تصوّره خلال العقود الماضية ويلتقي مع الردة على المجتمع الإنساني ككل.
بين مملكتي الحرية والضرورة
في طروحات ماركس عن الحرية والضرورة، تحضر السيطرة على الطبيعة وعملياتها من خلال عملية العمل كقاعدة لتوسيع فضاء الحرية على حساب فضاء الضرورة، حيث “ينبغي على الإنسان المتحضر، كما هو الشان تماماً بالنسبة للمتوحش، أن يدخل في صراع مع الطبيعة لإرضاء حاجاته وللمحافظة على حياته وتجديد قواه الحيوية. وهذا الإلزام يوجد في كل الأشكال الاجتماعية، وكل نماذج الإنتاج أياً كانت. وكلّما تطور الإنسان المتحضر اتسعت مملكة الضرورة الطبيعية طرداً مع نمو الحاجات ولكن في آن واحد تزداد قوى الإنتاج التي توفر تلك الحاجات. ومن هذه الوجهة، لا تنحصر الحرية إلا فيما يلي: أن ينظم الإنسان الاجتماعي والمنتجون المتجمعون بصفة عقلية عملية التكييف هذه التي تربطهم بالطبيعة وأن يُخضعوها لرقابتهم المشتركة – عوضاً عن أن يستسلموا لها وكأنها قوة عمياء – وأن ينجزوا هذه العملية في نفس الوقت بأقل الجهود الممكنة وفي الظروف التي تكون أكثر تلاؤماً مع كرامتهم وطبيعتهم الإنسانيتين. ولكن هذا الميدان يبقى دائماً ميدان الضرورة. وفيما بعد، يبدأ ازدهار القوة الإنسانية التي تشكل غاية لذاته، أي تبدأ المملكة الحقيقية للحرية. ولكن هذه المملكة لا تزدهر إلا استناداً إلى مملكة الضرورة. إن التخفيض في أوقات العمل اليومي هو الشرط الأساسي لذلك» (كارل ماركس، رأس المال).
الآلة الذكية: بين مملكتي الحرية والضرورة
على هذا الأساس يمكن القول إن العقود الماضية بالتحديد، وكل القرن السابق، دفع بشكل لا يمكن تصوره تطور القوى المنتجة ومعه توسع ميدان الحاجات الإنسانية (وهذا بالتحديد يتمثل بمشروع «التحقق الذاتي» الذي حاولت الرأسمالية استيعابه قسرياً ضمن حدود الليبرالية الفردانية). ووصلت إمكانية توسيع ميدان الحرية على حساب ميدان الضرورة مكاناً يتطلب «انقلاباً» في «عملية التكييف هذه التي تربطهم (البشر) بالطبيعة». فالتطور التكنولوجي المتمثل بالآلات الذكية يسمح بـ»التخفيض في أوقات العمل اليومي» الذي هو كما عبر ماركس «الشرط الأساسي لذلك»، والذي يشكل القاعدة المادية لتطوير مساحة مملكة الحرية على حساب مملكة الضرورة. ولكن شروط هذا الإنقلاب ما زالت محصورة في إطار «التنظيم الرأسمالي» لعلاقة الإنسان بالطبيعة والمجتمع. ولهذا فإن الآلة الذكية ليست «ظاهرة مهمة» كما يجري اعتبارها اختزالاً من قبل التصورات المعممة، بل هي أكثر من ذلك بكثير. هي العنصر الضروري من الإنتاج وإخضاع الطبيعة ربطاً بالحاجات المتوسعة اطراداً من أجل توسيع مملكة الحرية وتقليل العمل الضروري.
وكونها محصورة فهذا يقلب قدراتها إلى نقيض، أي يعظّم من تناقضات المجتمع على قاعدة الإنتاج والتنظيم والإدارة والحياة الرأسمالية البضاعية. فهي، ومع التقائها مع حاجة الرأسمالية إلى تعميم البربرية للاستمرار في الاستحواذ على الثروة من قبل القلة القليلة، الذين هم بالنهاية بشر معروفون ولهم أجساد مادية، وليسوا اقتصاداً صرفاً، من أجل ذلك، تشكل التكنولوجيا الذكية رافعة لمشروع المالتوسية الجديدة، ولكن في تأسيس لمجمتع يسميه البعض «ما بعد الرأسمالية»، وما يقصده هؤلاء خداعاً هو انتهاء الرأسمالية. ولكن ما يحصل عملياً في الواقع المحقق هو التطور الموضوعي للرأسمالية نحو البربرية. حيث يمكن الاستغناء عن (القضاء على) القسم الأعظم من القوى المنتجة البشرية تحديداً، عبر الاستعاضة عن القوى العاملة (ماهرة أم يدوية) بجيش جديد من الآلات «الذكية» والقادرة على العمل (وإنتاج فائض القيمة) بدل البشر، وبالتالي تحصّل قسماً هاماً من الثروة في العلاقة مع الطبيعة. هذا المصير ليس جديدا،ً بل جرى نقاشه طوال العقود الماضية، ولكن في اتجاه شيطنة الآلة الحديثة نفسها لا شيطنة النظام. وهنا يكمن الصمت على المقلب المقابل، أي مقلب العالم البديل. فالآلة الحديثة كما هي أداة لمشروع البربرية، فهي أيضاً مدخلٌ ضروريٌ لمشروع توسيع وبناء مملكة الحرية. ولكن هذا المدخل شرطه «السياسي» الضروري هو تحويل شكل التنظيم الإجتماعي والإداري، أي علاقات الإنتاج نفسها ومعها كل البناء الفوقي وكل الحضارة من أجل تحرير القوى المنتجة وتوظيفها لصالح «ازدهار القوة الإنسانية التي تشكل غاية لذاته» على حد تعبير ماركس. ولكن ما هو المعنى العملي لـ»ازدهار القوى الإنسانية كغاية لذاتها» في حضارة الاستهلاك العدمية المفرغة من المعنى الإنساني الجمالي، وكيف ستجري الاستفادة من تحرير الطاقة الإنسانية التي تتوظف اليوم في العمل الضروري. وما هو الشكل «التنظيمي والإداري» وما هو الميدان الذي ستنشط فيه القوى التي تحررت من العمل الضروري غير كونها مستهلكة أو غير مطلوب وجودها أساساً؟ ها هنا يكمن تناقض كبير لما يسمى بمشروع الحضارة البديلة العالمية على حساب الحضارة الرأسمالية المهيمنة.
الآلة الذكية: بعض المؤشرات العالمية
تشير الأرقام العالمية إلى مدى توسع توظيف «الآلات والأنظمة الذكية» (الروبوتات ضمناً). وحسب إحصاءات الفدرالية الدولية للروبوتات فإن المعدل العالمي لكثافة الروبوتات شكلت (في العام 2020) حوالي 126 لكل 10 آلاف عامل (موظف)، أي ما نسبته 1.26%. بينما ترتفع هذه النسبة إلى مستويات كبيرة جداً في الدول العشر الأعلى توظيفاً للروبوتات. فهي في كوريا الجنوبية حوالي 10% (932 وحدة لكل 10000 عامل) وسنغافورة 6%. وحوالي 4% في اليابان وألمانيا، و3% في السويد، وحوالي 2.7% في هونكونغ و2.5% في الولايات المتحدة وتايباي (تايوان) والصين والدنمارك. وهي حوالي (أو قريبة من) 2% في كل من إيطاليا (2.4%) وبلجيكا ولوكسمبورغ (2.21%) وهولندا (2.1%) والنمسا (2.05%) وإسبانيا (2.03%) وفرنسا (1.94%) وسلوفينيا (1.83%) وسويسرا (1.81%) وكندا (1.65%) وسلوفاكيا (1.75%) وتشيكيا (1.62%). وهذه الأرقام طبعا أهميتها في النمو السنوي، الذي يجاوز في بعض الدول 27% سنوياً (كسنغافورة مثلاً)، وحسب بعض الأرقام فإن الصين ستستحوذ على حوالي 25% من سوق الذكاء الاصطناعي عالمياً في العام 2030.
على الرغم من أن تطور هكذا قطاعات تتطلب الزج بقوى بشرية لتطويرها، حيث تشير بعض الأرقام كالمنتدى الاقتصادي العالمي بأن ميدان الذكاء الاصطناعي خلق في العام 2022 حوالي 133 مليون فرصة (وهذا يناقض أرقاماً أخرى تقول بأن عدد العاملين في هذا القطاع ستصل في العام 2025 إلى حوالي 100 مليون)، ولكن هذا القطاع يشهد طفرة حالياً، وربما سيصل إلى مرحلة التخمة والتركز والتمركز بحيث لا يعود قادراً على استيعاب قوى بهذا الكم. ولكن والأهم هذا يفرض تحديات كالتي يواجهها اليوم هذا القطاع من حيث الشح في إيجاد القوى “الماهرة” كفاية من حيث السوية العلمية والخبرة الضرورية تماشياً مع سرعة ومدى توسّعه. فحسب إحصاءات منشورة (على موقع Statista) ردت حوالي 80% من المؤسسات في القطاع بأنها تعاني من صعوبات في إيجاد القوى الماهرة الضرورية في بعض الوظائف كهندسة المعلومات وتعلم الآلات وغيرها. وبالتالي فهو يتطلب تحويلاً جذرياً في منظومة التعليم والتحضير المهني لهكذا فئات تعمل في القطاع الذهني الإبداعي، بالتالي يتطلب شكلاً محدداً من التأمينات ومستوى المعيشة، ولكن والأهم يتطلب علاقة قادرة على تأمين هكذا طاقات إبداعية وخلقها، وهذا ما يناقض مرة جديدة طبيعة العالم البربري الذي يتوسع طرداً مع كل توسع في هذا القطاع من “السيطرة على الطبيعة”.
هذه مجرد لمحات عن التناقضات العميقة التي ينتجها تطور القوى المنتجة، هو تناقض ليس فقط مع المنظومة الرأسمالية (خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار أن أعلى نسب من توظيف الذكاء الاصطناعي يحصل في دول المركز أو محمياته الاقتصادية ككوريا الجنوبية). وإذا كانت القوى المهيمنة ستحل هذه المسألة عبر الاستغناء عن الطبقة العاملة وبالتالي عن الشكل الراهن من المجتمع لصالح مجتمع أكثر اصطفاء، وإدارة للموارد وإنتاج الثروة يجري فيه “ترشيق” البنية الإجتماعية إلى مستوى آلة (ومن يمكن تشغيلها وإنتاجها) ومن يستهلك الثروة. وهكذا تكتمل الحلقة، فالقضاء على الطبقة العاملة سيقضي على الطبقة الرأسمالية ولكن يحولها إلى النتيجة المنطقية التي تتضمنها اليوم الرأسمالية، أي يحولها إلى فئة طفيلية بالكامل تعيش “في قُبحِها” على حد تعبير مهدي عامل.
ويبقى السؤال، كيف ستتعامل القوى الصاعدة مع هذا الواقع الكلي وتستبقه؟ فالحضارة الاستهلاكية عالمياً مدفوعة بتعفنها نحو هز الأسس العقلانية للمجتمع وكل ما هو تقدمي في التاريخ البشري. وهذا التحدي أممي يتجاوز “نسب النمو الوطني والدفاع عن السيادة الوطنية-القومية” ويقتضي تطوير المشروع الحضاري الأممي لتجاوز الرأسمالية كنمط حياة يتفاعل فيه جدلياً الاقتصاد والفكر والسياسة، وكما يبدو اليوم، يتقدم السؤال الحضاري ويكثف فيه باقي المستويات بشكل لا يقبل الاختزال.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1115