استعادة «دراما» بوليتزر في سياق الأزمة الحضارية (1)
لن نخرج بعيداً عن سياق المواد السابقة، وكيف ذلك والسياق يفرض نفسه على مساق التفكير والممارسة. ونقصد النقاش الدائر حول تطوير المشروع الحضاري الأممي في مقابل الأزمة الحضارية للرأسمالية، بل على ما يبدو كما ظهر في غير مكان أنها أزمة السياق الحضاري للانقسام الطبقي عبر التاريخ الذي وصل إلى مرحلة حاسمة من انتقاله إما إلى بربرية محققة وفناء لاحق (وربما متجاوران) وإما إلى مجتمع السيطرة الواعية على المصير المشترك للبشرية وحكماً الطبيعة. وهنا استعادة لأحد الأعمال المنسية وربما المجهولة للمناضل جورج بولتيزر شهيد النازية.
نبذة سريعة عن حياته
ولد جورج بوليتزر (1903-1942) في هنغاريا، وانخرط مبكراً في صفوف الحزب الشيوعي المجري عن عمر الخمس عشرة سنة، والذي كان أحد الأسباب المباشرة هو موقفه الرافض لموقف عائلته الرجعي المعادي للعمال والفلاحين. ولاحقاً وبعد الانقلاب الرجعي على الكومونة المجريّة انتقل إلى باريس وتخرج أستاذاً في الفلسفة من السوربون عام 1926، وأسس مع هنري لوفيفر عدداً من المجلات النقدية المتخصصة في علم النفس، وانضم للحزب الشيوعي الفرنسي ولعب دوراً في تأسيس مركز توثيق الحزب (عام 1929) وأشرف عليه، ومن ثم عمل محرراً اقتصادياً لجريدة الأومانيتيه (الإنسانية). ومن أهم أدواره «العضوية» تأسيس الجامعة العمالية الشعبية في باريس (1932-1939) لتعليم الفلسفة للكوادر العمالية والفئات المحرومة من التعليم النظري وخصوصاً الفلسفة من موقع المادية كتيّار مضاد للتعليم الرسمي البورجوازي التي أقفلت من قبل السلطات الفرنسية التي سلّمت لهتلر. فكان من بوليتزر أن انخرط بالعمل السري بعد قرار منع الحزب في 1939، ومن ثم تأسيس مجلات كالجماعة الحرة والفكر الحر لمناهضة النازية بشكل أساس.
وفي خضم الصراع على مصير العالم في قلب الحرب العالمية الثانية، وفي 19 شباط من عام 1942 اختطفت كتائب النازية جورج بوليتز مع زوجته من بيتهما، وأذاقوهما مختلف أصناف التعذيب في الاعتقال. وحسب شهادة وزير قدماء المحاربين وضحايا الحرب المدنيين في تصريح له في 24 تشرين الأول من عام 1949 أن بوليتزر وزوجته صمدا أمام الجلاد بشجاعة وبطولة، ولم يستسلما لا للتهديد ولا للتعذيب ولا للمساومات. وفي المعتقل قضى بوليتزر ثلاثة أشهر مكبلاً بسلسلة حتى 23 أيار من سنة 1942 حيث تم إعدامه رمياً بالرصاص في أحد المعتقلات النازية عن عمر التاسعة والثلاثين، بينما ماتت زوجته بمرض التيفوئيد في 3 آذار من عام 1943 في أحد المعتقلات النازية.
وفي الخامس من حزيران من عام 1956 وافقت المحكمة الإدارية بباريس إعطاء لقب «المقاوم المعتقل» لجورج بوليتزر، ولزوجته لقب «المقاومة المنفيّة» عرفانا لمجهوداتهما ولنضالهما الفكري والسياسي ضد الاستعمار النازي لفرنسا. كما أطلق اسم جورج وماي على شارع بباريس تم تدشينه يوم 20 تشرين الثاني من عام 1999 إلى جانب عدة مؤسسات تعليمية تحمل اسمه.
من كتبه المعروفة وغير المعروفة لدى القارئ العربي «مبادئ أولية في الفلسفة» (هي عبارة عن مدونات أحد تلامذة بوليتزر الذين حضروا محاضراته)، و «أصول الفلسفة الماركسية»، و«فلسفة الأنوار والفكر الحديث»، و«المادية والمثالية في الفلسفة»، و«الثورة والثورة المضادة في القرن الـ20». أما الكتاب الذي نحن بصدد تناوله هو «أزمة علم النفس المعاصر»، والذي يعتبر من الكتب الكلاسيكية في النقد الفلسفي لأسس علم النفس الرسمي وقاعدته المعرفية الابستمولوجية والمنهجية.
مجدداً لماذا هذا الكتاب؟
إن الكتاب المذكور هو عبارة عن مقالين نشرا في مجلة علم النفس العياني في العددين الوحيدين للمجلة (عام 1929) تم تجميعمها لاحقاً في كتاب «أزمة علم النفس المعاصر» عام 1947 من قبل زملاء بوليتزر. وصدرت الترجمة العربية الأولى للكتاب عام 1968 عن دار «شهدي» (المصرية) ومن ثم الثانية عام 1986. وفي الكتاب يعالج بوليتزر أزمة علم النفس الرسمي ويقترح تصوره عمّا يجب أن يكون عليه «علم النفس العلمي». ولكن قبل أن ندخل في نقاش الأفكار بحد ذاتها، هناك أهمية تاريخية للكتاب في أنه كتب بعد 3 سنوات فقط من نص فيغوتسكي الذي مررنا عليه في عدة مواد سابقة وآخرها في مادة «مجدداً، عن الأزمة الحضارية وتجاوز الرأسمالية-5». لا نعلم إذا ما كان بوليتزر قد اطلع على مخطوطة فيغوتسكي، مع العلم أن المخطوطة لم تكن معروفة إلا لدى قلة من الأشخاص من دائرة فيغوتسكي قبل تاريخ نشرها في العام 1982، إضافة إلى أن بوليتزر لم يمر على ذكر فيغوتسكي في نصه الذي جاء لاحقاً له في الزمن. ولكن يحمل النصان البنية المعرفية والمنهجية ذاتها في فهم وبناء بنية الأزمة. لهذا يمكن الاعتبار أن كليهما وضعا يديهما على ذات معادلة الانقسام ومعالمها وأعراضها. ومع أن فيغوتسكي، الذي يتشارك مع بوليتزر ذات مأساة الموت المبكر (توفي فيغتوسكي عن عمر الثامنة والثلاثين بسبب السلّ) بلور نظرية كاملة، ووضع أسس العلم البديل لما سماه «رأس المال في علم النفس»، في إشارة إلى كتاب ماركس في مجال الاقتصاد السياسي والتاريخ – ومع أنه يمكن الاستعانة به وحده لفهم أزمة ذلك العلم، ومعه أزمة الفكر المهيمن والإنسان حالياً كتوسع تاريخي لاحق لمعالم أزمة العلم، ولكن في مجال الحياة اليومية - إلّا أن بوليتزر ركز على قضية تستحق الإضاءة عليها وهي ما سماها «الدراما الإنسانية» كقاعدة ومادة لعلم النفس العلمي. وهي التي تهمنا (كما همّتنا أطروحة فيغوتسكي، يمكن مراجعة المادة ما قبل السابقة المذكورة أعلاه) في نقاش الأزمة الحضارية ونقاش البديل الحضاري. فالبحث في أزمة علم النفس تمدنا بمادة مبكرة تاريخياً لما هو اليوم أزمة الإنسان المعاصر، حيث إن الإنسان هو موضوع علم النفس، كما هو موضوع الفكر المهيمن. ولهذا فإن أزمة الأول هي تقديم تاريخي أكثر تجريداً ووضوحاً لأزمة الثاني التي وصل إليها المجتمع الرأسمالي وحضارته اليوم.
وكما أشرنا، وعلى الرغم من أن بوليتزر وصل نسبياً إلى تقسيم عام متشابه لما هو لدى فيغوتسكي، حول الثنائية التي يتوتر حولها العلم المذكور (ثنائية الموقع الطبيعي والبيولوجي البحت كتعبير عن مادية متطرفة، والموقع الذاتي-الروحي المنكر للواقع في صيغته الأكثر تطرفاً في مثاليتها)، وهو ما ينتج كل الضجيج والفوضى والصخب والتفتت، ويبقى الإنسان «التاريخي الفعلي في خبرته اليومية وفي وحدته وتشامله» خارج متناول هذا العلم في كل تياراته، ويتم تجاهل دراما حياته كما يعتبر بوليتزر؛ على الرغم من التشابه، إلا أن عقل فيغوتسكي وطروحاته كانت أبعد مدى وأكثر نضجاً وتبلوراً وهذا يعود ربما إلى أن فيغوتسكي من أهل الميدان (علم النفس) بينما بوليتزر قارب القضية من موقع الفيلسوف. وهناك أيضاً حسب اعتقادنا عقل النصر-الواثق لدى فيغوتسكي، وهو مؤشر للفروق في وضعية الحركة الثورية في المجتمع السوفياتي الناشئ وقتها، وبين التجربة الثورية الأوروبية وإرهاب النازية الذي يلعب دوره في المدى الذي يخطوه الفكر وبؤر تركيزه (ولا نقول في مدى جذريته وثوريته).
إذاً، تهمنا مساهمة بوليتزر بشكل خاص في نقاش عناصر أزمة الحضارة القائمة، والنقاش في بديلها ونواقصه كما هو مطروح (وما هو غير مطروح) اليوم بصيغته المعلنة. وتحديداً كيف يمكن الرد على الأزمة الحضارية وإنسانها المأزوم، كما رد العقل الثوري على أزمة علم النفس الرسمي، كما قلنا لتشارك الاثنين في ذات الموضوع، ألا وهو النظرة إلى الإنسان وفهم عقله وتاريخيته ومصيره المنشود. وكما حاولنا أن نقيم التشابه بين جذور وملامح أزمة العلم الرسمي التي يعيش في ظلها منذ أكثر من مئة وخميس عاماً (يمكن مراجعة المادة ما قبل الأخيرة)، فإنه أيضاً يجب أن نقيم التشابه في الردود على الأزمة، من موقع الجدلية الماركسية (ونقصد موقف فيغوتسكي وبوليتزر بالتحديد). ونعتقد أن هذه المقاربة المنهجية تستحق النقاش.
وإلى حد الآن، وبعد حوالي مئة عام على كتابة النصين المذكورين لم ينتج العلم تجاوزاً لما تم تقديمه فيهما، وذلك يعود إلى سبب تاريخي بسيط هو أن المجتمع لم يتجاوز إلى حد الآن مجتمع «رأس المال» (لماركس)، ولا غيره من الكتابات المركزية. فمثلاً، أعادت دار النشر الفرنسية المعروفة «المطابع الجامعية في فرنسا» (Presses Universitaires de France-PUF) طباعة كتاب آخر لبوليتزر صدر قبل (عام 1928) الكتاب موضوع هذه المادة، هو «نقد أسس علم النفس» عام 1967، بعد حوالي أربعين عاماً من صدوره، وضمّنه العديد من الفلاسفة والعلماء في مؤلفاتهما.
فالبناء على تلك الردود (وعلى فهم الأزمة) ضروري لتوضيح الموقف من الحضارة البديلة وبناء مادة المواجهة مع تلك المأزومة، وفهم ملامح أزمتها وطورها. وفي المادة القادمة سنتناول الأفكار المطروحة في كتاب بوليتزر «أزمة علم النفس المعاصر».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1118