في استعادة لـ «التهديد الحضاري ومصير الإنسان» لدى تولياتي (2)

في استعادة لـ «التهديد الحضاري ومصير الإنسان» لدى تولياتي (2)

في المادة السابقة حاولنا الإشارة إلى بعض طروحات وأفكار بالميرو تولياتي حول التهديد الحضاري، والذي يمكن تحديده بمستويات ثلاثة عامة، هي الكارثة التدميرية لأسلحة الدمار الشامل، والكارثة البيئية، والتدهور العقلي الاجتماعي في نمط الحياة. هذا الموقف يلتقي مع طروحات لآخرين، كأوليغ شينين وفيديل كاسترو الذي سنحاول الإطلالة عليه لاحقاً، حول تجاوز الطروحات ضيقة الأفق من حيث التوصيف والبرنامج. وفي المادة الراهنة سنعرض بعض الأفكار العملية-السياسية التي قدمها تولياتي في مواجهة التهديد الحضاري.

في نوعية المهام الجديدة

يشدد تولياتي على أن المرحلة لكونها تفرض تناقضات جديدة، من حيث الحدة والعمق، فهي بالضرورة تتطلب فهماً نظرياً وسياسياً جديداً ونوعياً أيضاً، بما يتجاوز ضيق الأفق «الطبقي» للسان العديد من القوى التي تمسخ الأزمة بمقولات لم تعد تصلح كما هي بالتناسب مع التحولات في طبيعة الصراع، «فالوضع جديد، والموضوع جديد، ويجب أن تكون المؤشرات والحلول المطروحة جديدة كذلك». فكوننا اليوم أمام «المستجد المرعب والرهيب: إذ ما عاد بإمكان الإنسان أن يقتل وأن يدمر الإنسان الآخر فحسب كما كان يفعل في الماضي، بل أصبح في وسع الإنسان أن يقتل وأن يلغي الوجود الإنساني بأكمله». وهذا التدمير اليوم بعد عقود من كلام تولياتي صار تدميراً شاملاً مادياً وروحياً بالمعنى المحقق لتوصيف الرأسمالية في كونها «تميل إلى تدمير مصدري ثروتها، الطبيعة والإنسان» كما تعتبر الماركسية.
ويقول تولياتي «ولم نكن قد وجدنا أنفسنا قبل اليوم أمام مثل هذه المشكلة أبداً، إلا في بعض خيالات الشعراء والأنبياء والمنجمين الوقّادة. والإنسان يقف اليوم أمام هاوية مرعبة. وتاريخ البشرية يتخذ لنفسه بعداً لم يكن له أبداً قبل اليوم، إنه بعد جديد يكتسب، بالتالي، إشكالية قائمة بذاتها للعلاقات بين بني البشر، وبين تنظيماتهم، وبين الدول، وفي هذا النوع الأخير تصل هذه الإشكالية إلى ذروتها، حيث تصبح الحرب شيئاً مختلفاً عما كانته عبر الماضي الطويل، وتصبح إمكانية انتحار للجميع، لكل البشر ولكل حضارتهم». إن كان كلام تولياتي وقتها ضمن سياق وجود الاتحاد السوفياتي والصين الشعبية وتحالف الدول الاشتراكية والدول القطرية ضمن حركة الاستقلال عن الاستعمار المباشر، فإنه اليوم ضمن واقع جديد تغولت فيها الليبرالية في كل العالم، والأزمة الوجودية للرأسمالية هي أخطر من كل سابقاتها، وبالتالي فإن التهديد عاصف لكل نمط الحياة القائم ومعه عقله ومنظومة علاقاته المعروفة، وبالتالي كل ما هو تقدمي عبر التاريخ، طالما النمط الجديد-النقيض مخنوق عن الولادة، وهذا النمط هو الملكية العامة لوسائل الإنتاج وإدارة المجتمع والحياة والمشاركة في تقرير المصير، ضد السياق الاستهلاكي للاقتصاد السلعي، فهذا وحده يعيد الإنسان إلى وجود عقلاني قابل للتنبؤ وإرضاء حاجات التحقق الذاتي، كجوهر للحرية وكل الصراع في لغته الاقتصادية-السياسية.

في جديد التصدي للمهام الجديدة

كون المهام تتعلق بالتهديد الحضاري للبشرية، وكون «الأمر هنا يتعلق بإنقاذ الإنسانية والحضارة من الدمار» فإن «المهمة التي تقع اليوم على كاهل كل أولئك الذين يحملون مشاعر إنسانية، ويحترمون حياة الإنسان والحضارة التي أبدعها، على كاهل كل أولئك الذي يعرفون أن هذا هو الشيء الوحيد ذو القيمة في العالم، والذي لا بد من إنقاذه بأي ثمن. على كاهل كل هؤلاء تقع مهمة النجاح في إيجاد وخلق التراصف الواسع جداً من أجل المحافظة على حضارتنا وإعطائها وزناً تقريرياً في كل بلد، وفي الوضع الدولي، لكي يصبح هذا التراصف قوة لا تمكن مقاومتها...وصار لا بد من النظر إليها (المسائل) بطريقة تجدد أشياء فيها وتدفع البحث إلى أعمق لكي يدلنا على ما يجب عمله بالملموس لبعث الحياة في الحركة الكبرى للمحافظة على الحضارة الإنسانية». وهذا يفرض حسب تولياتي «العثور على وسيلة لا للاتصال العرضي لحل المسائل السياسية المتعلقة بطرف أو بآخر، بل للقاء أعمق يمكنه أن يخرج بمساهمة تقريرية في تكوين الحركة الواسعة لانقاذ حضارتنا ولمنع جرّ العالم المتحضر، الذي هو عالمنا اليوم، إلى الطريق الأمريكي للدمار الشامل.» وهذا «يعني أن هنالك في العالم، بالإضافة إلى الحكومات، الجماهير الشعبية الكبرى المهَدّدة بالمنظور الأمريكي، والتي لديها كلمة تقولها، والتي يجب أن تدعى، بالطريقة الأكثر ملاءمة لهذه الحالة التي نجدها أمامنا، إلى التعبير عن إرادتها وجعلها تعلو على الإرادات الأخرى». وهكذا «إذا نظرنا إلى الوضع بهذا المنظار نرى فعلاً انفتاح المجال أمام إمكانية كبيرة جداً لبعث الحياة في شيء لا أريد تسميته جبهة – لأنها كلمة محرّمة ربما! بل حركة وتراصف لقوى شديدة التباين في طبيعتها وصفتها الاجتماعية والسياسية، تشكل في الواقع حركة للمحافظة على الحضارة الإنسانية، وللمحافظة على الإنسانية نفسها. هذه هي المشكلة المطروحة أمامنا اليوم، والتي تتصدر كافة المشكلات الأخرى. واعذروني إذا ما أبرزتها بهذا الشكل، فأنا لا أريد استباق الزمن. إنني لا أبالغ، ولا اريد استغلال الخوف المشروع لدى الناس. إني أفكر فقط بأنه يجب أن نرى ونقوم بطريقة صحيحة تلك التحولات وتلك الشروط الموضوعية التي تنبع منها مشكلات جديدة كلياً».
ويبدو أن ما استبقه تولياتي زمنياً وكان يبدو مبالغةً وقتها هو اليوم حقيقة واقعة ملموسة.
فلاشة: صار التدمير اليوم بعد عقود من كلام تولياتي تدميراً شاملاً مادياً وروحياً بالمعنى المحقق لتوصيف الرأسمالية في كونها تميل إلى تدمير مصدري ثروتها الطبيعة والإنسان

معلومات إضافية

العدد رقم:
1122