كيف نكسر حالة الاستعصاء القائمة في الوضع السوري؟

كيف نكسر حالة الاستعصاء القائمة في الوضع السوري؟

يظهر في الشارع السوري رأيان متطرفان ومتناقضان، تجري تغذيتهما عبر الإعلام الرسمي وغير الرسمي، الداخلي والخارجي. 

الرأي الأول: يمكن اختصاره بالعبارة المعروفة: «سورية بخير»، ويحاول تصوير الأمور في البلاد أنها تسير إلى الأمام رغم كل الصعوبات، بما يشبه حملة «علاقات عامة» تستند إلى جملة من الاستعراضات الإعلامية.

الرأي الثاني: يقول «سورية خلصت وفشلت» وهي ذاهبة للتقسيم والتفتت، ولا إمكانية إطلاقاً لإعادة توحيدها، أو للسير بها نحو الأمام باتجاه الاستقرار والازدهار.

الحقيقة، هي أن كلا الرأيين خاطئ ومبالغ به. والحقيقة الأكثر جوهرية، هي أن وجود هذين الرأيين وسطوتهما إعلامياً، يعبر بشكل ملموس عن الاستعصاء القائم في الملف السوري، وعن الاستقطاب الحاد الذي يكاد يكون تكراراً للاستقطابات السابقة المدمرة قبل 8/12/2024، حين أصرت الأطراف المختلفة على أنه لن يكون هناك حل من أي نوع كان إلا عبر قضاء أحد الأطراف على الأطراف الأخرى، قضاءً مبرماً، عبر «الحل العسكري/الأمني»... وهو ما تم جزئياً عبر سقوط سلطة الأسد، ولكن الواقع يقول: إن هذا الإسقاط لم يحل الأزمة، بل نقلها إلى مكان آخر، وبقيت مهمة تغيير النظام تغييراً جذرياً وعبر الحل السياسي والتوافق بين السوريين، كل السوريين، مهمةً قائمة على جدول الأعمال، لا يمكن لأحد القفز فوقها، لا عبر القوة ولا عبر الالتفاف الشكلي على الاستحقاقات.

معاينة الأمر الواقع...

إذا حاولنا تقييم وضع البلاد في هذه اللحظة، بعيداً عن المبالغات بأي اتجاه، نجد أنفسنا أمام جملة من المعطيات السلبية بمعظمها، وعلى رأسها:

  1. تقسيم الأمر الواقع الذي كان قائماً منذ عام 2016 تقريباً، وحتى لحظة سقوط الأسد، ما يزال قائماً كما هو تقريباً؛ وأصبح أشد خطورة في بعض الأماكن، كما هو الأمر في السويداء مثلاً.
  2. حجم ونوعية التدخلات الخارجية بات أكبر مما كان عليه في السابق، ولعل أبرز ما يمكن تسجيله في هذا المجال هو التوغل الصهيوني في مساحات من الجنوب السوري، إضافة للتدمير شبه الكامل للمقدرات العسكرية السورية، والتدخلات السياسية العلنية في مختلف الملفات، بما في ذلك الدفع باتجاه الاقتتال الداخلي والتقسيم. ومن جانب آخر، فإن درجة الاعتماد على الخارج آخذة في التصاعد بشكل كبير، وصولاً حتى إلى اعتمادية كبيرة في صرف رواتب الموظفين وفي تأمين الخدمات الأساسية.
  3. العقوبات الأمريكية والغربية، ورغم كل الأحاديث عن رفعها، فإن الوقائع تقول: إنها لم ترفع حتى اللحظة، وما تزال تستخدم بوصفها عصاً اقتصادية لتحقيق غايات وشروط سياسية، أمريكية بالدرجة الأولى، وضمناً «إسرائيلية».
  4. الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للغالبية الساحقة من السوريين، مستمرة بالتدهور بوتائر متسارعة؛ وتبرز ضمن هذا السياق الأمور التالية: رفع الدعم بشكل كامل عن الخبز والمحروقات، كان كفيلاً وحده بتدمير القدرة الشرائية لـ90% من السوريين، الذين باتوا مضطرين لدفع كامل أجورهم تقريباً فقط لتأمين الخبز والمواصلات، ناهيك عن الاحتياجات الملحة، مثل: الكهرباء والماء والطبابة وإلخ. وفي المجال الاقتصادي العام، سمح فتح الحدود أمام البضائع الأجنبية مع الارتفاع الإضافي لتكاليف الإنتاج المحلي، بإغلاق عدد هائل من الورشات والمصانع الصغيرة في البلاد، التي تم سحقها أمام المنافسة مع المنتج الأجنبي، على سبيل المثال للحصر: معامل وورشات الألبسة والأحذية والأقمشة وحتى على مستوى معامل الغذائيات والتغليف بمختلف أنواعها... الأمر الذي ألقى بمزيد من العمال وعائلاتهم في هوة البطالة، وألقى بصناعيين وتجار وحرفيين نحو الإفلاس.
  5. الوضع الأمني ما يزال مضطرباً في مناطق متعددة من البلاد، بين ما يمكن اعتباره ضمن حدود الجنايات، عبر السرقة والقتل والخطف وغيرها من الأعمال الإجرامية التي لا تحمل أهدافاً سياسية، وإنما إجرامية بحتة، وبين ما يمكن اعتباره اضطراباً أمنياً سياسياً، متمثلاً في المشكلات الكبرى والجرائم والمجازر التي تم ارتكابها في الساحل السوري وفي السويداء، إضافة إلى الانتهاكات المتنقلة على أسس «فردية» وخلفيات سياسية وطائفية.
  6. عملية توحيد الشعب السوري، بوصفها المهمة الأهم والمدخل الأساسي لمواجهة مختلف أنواع الأزمات والمشكلات، لم يجر السير بها إلى الأمام، بل على العكس، تم السير فيها إلى الخلف في كثير من الملفات، خاصة مع محاولات الدفع السياسي نحو تقسيم الشعب السوري سياسياً/دينياً/طائفياً، ضمن مقولات «الأكثرية» و«الأقليات»، ومع التحريض الخارجي والداخلي المتعاظم بهذا الاتجاه المدمر نفسه.
  7. العملية السياسية الشاملة، بما تعنيه من مشاركة وتوافق وحريات سياسية، هي الأخرى مشلولة، وتعيش حالة استعصاء عملي، رغم الإجراءات الشكلية عبر الإعلان الدستوري، ومؤتمر الحوار، ومجلس الشعب وإلخ، والتي بقيت حتى اللحظة أقرب إلى ديكور ضروري لتمرير أمر معاكس لها تماماً، هو عدم المشاركة والاستئثار.

يمكن أن نضيف لهذه البنود بنوداً أخرى عديدة، ولكنها كافية لتكوين صورة عن مدى صعوبة الوضع الذي نعيشه، وعن الاستعصاء الذي تعيشه البلاد، والذي يحمل مخاطر كبرى بكل الاتجاهات، ليس على الأطراف السياسية المختلفة فحسب، بل على الشعب السوري والدولة السورية بالدرجة الأولى.

وما هو المخرج؟

لا يمكن الادعاء بأن حل كل هذه المصائب المتراكمة، والتي تعود بجزئها الأعظم إلى الإرث الثقيل الذي تركته سلطة الأسد، هو حل بسيط أو سريع. ولكن الأكيد هو أن هنالك مدخلين لا غنى عنهما في الوصول إلى المخرج، وأن عدم السير فيهما يعني حكماً الانزلاق نحو مزيد ومزيد من الاستعصاء، بما في ذلك الانزلاق نحو الاحتمالات الأكثر خطراً، بما فيها تجدد الاقتتال وتوسعه، بل وتهديد وحدة البلاد بشكل غير مسبوق.
المدخلان هما:

أولاً: توحيد الشعب السوري

وهذا يتطلب أولاً وقبل كل شيء إرساء فكرة المواطنة المتساوية التي يكون فيها السوري مساوياً للسوري بالحقوق والواجبات بعيداً عن أي انتماء آخر، ديني أو قومي أو طائفي أو عشائري أو جنسي وإلخ. وعملية التوحيد هذه تبدأ بالمشاركة السياسية الحقيقية والتخلي عن عقلية الاستئثار؛ أي عبر تطبيق حقيقي للحل السياسي الذي يرسم جوهره القرار 2254، ويتضمن جسم حكم انتقالي شامل ومؤتمراً وطنياً عاماً، وصولاً إلى دستور دائم وانتخابات حقيقية حرة ونزيهة، يقرر فيها الشعب السوري مصيره بنفسه.

ثانياً: موازنة التدخلات الخارجية

ينبغي أن ننسج علاقاتنا الخارجية على أساس فهم عميق للتوازنات الدولية الواقعية، ودون أيّ أوهام حول سيطرة وهيمنة غربية هي في الحقيقة في طور التراجع المتسارع. أي أن علاقاتنا الخارجية ينبغي ألا تبنى على الأمل بالأمريكي أو التبعية له، ولا على الأمل بأي أحد آخر والتبعية له... ينبغي أن نوسع دائرة علاقاتنا الخارجية لتشمل الصين وروسيا وكامل الحلف المضاد للأمريكي، بحيث نتمكن من موازنة الضغوط والوصول إلى الوضع الأمثل بما يحمينا من التغول «الإسرائيلي» وبما يؤمن منصة انطلاق واقعية لعمليات إعادة الإعمار التي لم تبدأ بعد، ولن تبدأ قبل استقرار سياسي حقيقي مبني على توحيد الشعب السوري عبر الحل السياسي الشامل...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1242