العدالة الانتقالية... «بدنا نكفي بيللي بقيوا»
أصدر الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع المرسوم رقم (20) القاضي بإنشاء «الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية»، يوم السبت الماضي 17/5/2025، ومنذ لحظة صدور المرسوم وحتى الآن، يدور نقاش واسع حول الهيئة نفسها، ومهامها، وحول المطلوب من «العدالة الانتقالية» ككل.
يحدد المرسوم مهمة الهيئة وصلاحياتها بالنص التالي:
«بناء على الصلاحيات الممنوحة لرئيس الجمهورية العربية السورية، واستناداً إلى أحكام الإعلان الدستوري، وإيماناً بضرورة تحقيق العدالة الانتقالية كركيزة أساسية لبناء دولة القانون، وضماناً لحقوق الضحايا، وتحقيقاً للمصالحة الوطنية الشاملة، يُعلن ما يلي:
تشكل هيئة مستقلة باسم «الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية» تُعنى بكشف الحقيقة حول الانتهاكات الجسيمة التي تسبب فيها النظام البائد، ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها بالتنسيق مع الجهات المعنية، وجبر الضرر الواقع على الضحايا، وترسيخ مبادئ عدم التكرار والمصالحة الوطنية».
النقطة الأساسية التي استقطبت القسم الأكبر من النقاش، هي حصر مهمة الهيئة المنشأة بـ«كشف الحقيقة حول الانتهاكات الجسيمة التي تسبب فيها النظام البائد...»، الأمر الذي يمكن أن يُفهم منه أن الانتهاكات التي ارتكبتها الأطراف الأخرى في سورية، بما فيها فصائل المعارضة بمختلف أصنافها، باتت خارج قوس، وتم غض النظر عنها، وسيفلت مرتكبوها من أي محاسبة من أي نوع كان، ما يجعل العدالة الانتقالية المفترضة، عدالة عرجاء، وشكلاً من أشكال «عدالة المنتصر»، التي تتناقض مع العدالة بمفهومها القضائي والاجتماعي، ويمكنها تالياً أن تنسف المهام التي من المفترض أن تحققها هذه الهيئة وفقاً للنص، والمتمثلة بـ«بناء دولة القانون، وضمان حقوق الضحايا، وتحقيق المصالحة الوطنية الشاملة».
البعض حاول إيجاد مخرجٍ تأويلي للنص، يسمح له بتوسيع دائرة عمله ليشمل كل المرتكبين من كل الأطراف، عبر الاستناد إلى عبارة «الانتهاكات الجسيمة التي تسبب فيها النظام البائد»، وتحديداً «التي تسبب بها»، مُفسراً بأن النظام هو السبب الأساسي في كل ما جرى من جرائم، بما فيها تلك التي ارتكبتها فصائل في المعارضة، وبالتالي فإن كل الجرائم يمكن أن يتم تشميلها باعتبارها جرائمَ تسبب بها النظام، وتسببه بها لا يرفع المسؤولية عن مرتكبيها المباشرين، ولا يحجب محاسبتهم... وإنْ كان هذا الفهم «السياسي-الجنائي» يمكن أن يعتبر «ظرفاً مخففاً».
ماذا تقول الوقائع؟
إذا تركنا النقاش «القانوني» جانباً إلى حين، وحاولنا البحث في المعاني الأوسع، السياسية والاجتماعية والوطنية لفكرة العدالة الانتقالية، لا بد قبل كل شيء من النظر في تجارب الشعوب والدول الأخرى، ليس لتكرارها، ولكن على الأقل، كي تساعدنا في إلقاء شيء من الضوء على المسألة موضع النظر.
التجربة اللبنانية في الحرب الأهلية، وتجربة رواندا والعراق ويوغوسلافيا وجنوب أفريقيا، وغيرها العديد من التجارب الأخرى، تشترك في أنه لم تجر في نهاية المطاف محاسبة لا كل المرتكبين ولا نصفهم، ولا حتى واحد بالألف منهم، واقتصرت المحاسبة على عدد قليل من الشخصيات النافذة. حتى محاكمات نورنبرغ الشهيرة التي جرت بعد الحرب العالمية الثانية، وحوكم فيها مجرمو النظام النازي المنهار، اقتصرت على 177 شخصاً، حكم بالإعدام منهم 24، وبالسجن المؤبد 20، ولمدد مختلفة 98، وتمت تبرئة 35.
لا يمكن القول بأن أياً من النماذج المذكورة أعلاه، هي نماذج «مثالية»، أو نماذج صالحة لفكرة تحقيق العدالة للضحايا من وجهة نظر جنائية، أو حتى من وجهة نظر قانونية عامة. مع ذلك، فإن ما تخبرنا به هذه النماذج، وما يمكن بالفعل أن يُستفاد منها، هو الفكرة الواضحة التالية:
حين يجري الحديث عن «عدالة انتقالية»، فإن المقصود هو جانبها السياسي والوطني، وليس جانبها الجنائي؛ وهو فارق كبير له أسبابه الواضحة؛ فالتعامل مع ما جرى ضمن صراع عسكري طويل الأمد، بوصفه جملة من الجرائم والانتهاكات الجنائية، يعني إدانة كل الأطراف في نهاية المطاف، وزج عشرات أو حتى مئات الألوف من الناس في السجون، وتعليق مئات منهم على أعواد المشانق... وهو أمر ليس فقط غير ممكن عملياً، ولكنه أيضاً غير ممكن من وجهة نظر الحفاظ على البلاد والعبور بها نحو الاستقرار والتعافي... ما يستوجب طريقة نظرٍ مختلفة للمسألة برمتها، طريقة نظر سياسية-وطنية.
جوهر «العدالة الانتقالية» المطلوبة
الصراعات الحادة والدموية وطويلة الأمد التي تجري في أي بلد من البدان، تترك ندوبها وجراحها العميقة في كامل المجتمع الذي تجري ضمنه. وظيفة العدالة الانتقالية هي قطعاً ليست محاولة إزالة هذه الندوب؛ بل على العكس تماماً، وظيفة العدالة الانتقالية هي توضيح هذه الندوب والكشف عنها بكل أبعادها، بما يحولها إلى جزء من الذاكرة الوطنية للمجتمع المكلوم؛ والهدف من تكريس الندوب جزءاً من الذاكرة الوطنية للمجتمع، هو أن تبقى شاهداً مستمراً على المأساة التي حدثت، بالضبط لمنع تكرارها.
وكي نتمكن من منع تكرار المأساة، فإن أول ما ينبغي التركيز عليه هو: الأسباب التي دفعتنا نحو الكارثة، لمعالجتها بشكل جذري يمنع تكرارها في أي وقت لاحق.
ولعل بين الدروس الكبرى التي لا يجوز القفز فوقها، ما يلي:
أولاً: الاستعانة بالأطراف الخارجية من جانب قسم من السوريين ضد أقسام أخرى، يؤدي إلى مزيد من التدخلات الخارجية، من أطراف متعددة ومتناقضة، ويحول البلاد إلى ساحة صراع إقليمي ودولي، ويضاعف آلاف المرات من حجم الخسائر البشرية والمادية.
ثانياً: قسم السوريين على أسس قومية أو طائفية أو دينية، من شأنه أن يعزز من سيلان الدم ومن الخراب العام. ومن شأنه أن يضعف البلاد ككل، وأن يضعف كل أطرافها واتجاهاتها وتياراتها.
ثالثاً: العمل السلمي المرتكز إلى نشاط الناس الاجتماعي والسياسي، هو دائماً الطريق الأقصر والأقل تكلفة نحو التغيير، ونحو الوصول إلى الحقوق. واستخدام العنف ينبغي أن يكون في إطار الدفاع فقط، وضمن شروط صارمة لا تجعل من «الدفاع» ذريعة لسفك دماء الناس.
رابعاً: الجوهر العملي في العدالة الانتقالية هو الاعتراف بالجرائم والانتهاكات التي ارتكبتها كل الأطراف وكشفها؛ أي المصارحة تمهيداً للمسامحة والمصالحة، واستخدام المحاسبة بوصفها تكثيفاً رمزياً للعدالة، عبر محاكمة عدد محدد من الشخصيات النافذة وصاحبة المسؤولية في الارتكابات من كل الأطراف.
في أحد البرامج الإذاعية لزياد الرحباني، وفي سياق الحديث عما بعد الحرب الأهلية اللبنانية، يقول: «بدنا نكفي بيللي بقيوا، مش بدنا نكفي على اللي بقيوا» ... وفي سورية أيضاً ينبغي أن نكمل بمن بقي من السوريين، لا أن نكمل على من بقي منهم، وبالتالي نحتاج إلى منطق مختلف تماماً عن منطق الانتقام، وعن منطق انتصار قسمٍ من الشعب على قسمٍ آخر، لأن منطقاً كهذا من شأنه أن يكرس خسارة الجميع، وخسارة البلد بأسره معهم...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1228