«نعرف ما لا نريد»: حول النموذج الاقتصادي المنشود لسورية!
بين الشعارات التي تكررت ضمن الحركة الطلابية الشهيرة في فرنسا عام 1968، شعار «نحن نعرف ما لا نريد، ونريد ما لا نعرف- On sait ce qu’on ne veut pas, mais pas ce qu’on veut». وكان انتشاره الواسع في حينه مرتبطاً بالنشاط العالي للفوضويين «الأناركيين» ضمن تلك الحركة.
ورغم فوضوية الشعار، ووضوح افتقاد رافعيه لبرنامج بديل واضح، فإنه محق تماماً في جزئه الأول: «نحن نعرف ما لا نريد». ولعل من المفيد للسوريين أيضاً، وكخطوة لا بد منها للاتفاق على «ما نريد» بما يخص النموذج الاقتصادي لسورية، أن نتفق على «ما لا نريد»، وهو أمر ليس بسيطاً وليس قليل الأهمية... لماذا؟
من السهل أن يقول أي طرف سياسي في سورية، بما في ذلك السلطة القائمة: نريد اقتصاداً قوياً ومنتجاً ونمواً وازدهاراً وعدالة اجتماعية وحياة كريمة وتعليماً جيداً وصحة جيدة وبنية تحتية متطورة وإلخ... هو أمرٌ سهل إلى ذلك الحد، أن بشار الأسد نفسه، بقي يكرر كلاماً من هذا النوع طوال 24 سنة، وقبله والده طوال 30 سنة! ومن السهل أن يوافق الناس على هذا الكلام بوصفه «ما يريدون»، ولكن الوقائع تقول: إن جهات متناقضة عبر التاريخ، رفعت هذه الشعارات نفسها، وكلما كان الفساد والتغوّل والتسلط أكبر، كلما كان الإصرار على تكرار هذه الشعارات أكبر؛ ما يعني أنها بلا مضمون عملياً، ما لم تقترن ببرامج تفصيلية، وبأفعال واضحة تصب بالفعل في مصلحة عموم الناس، وفي مصلحة تطور اقتصادي حقيقي.
لن تحاول هذه المادة حصر كل الأشياء التي «لا نريدها» لاقتصادنا السوري، لأنها كثيرة بحق (رغم أنه من الممكن اختصارها بعبارات عامة وصحيحة، ولكنها لن تكون مفيدة في إغناء النقاش العام حول المسألة).
«اقتصاد حر»
بين الطروحات التي ظهرت على لسان مسؤولين في السلطة الجديدة القائمة، القول: إن الاقتصاد السوري ينبغي أن يكون «اقتصاداً حراً». وهذا الكلام ينتمي لما أسميناه أعلاه بلغة الشعارات العامة، خاصة وأنه يستخدم كلمة «حر» التي تسبغ حكم قيمة إيجابي على الاقتصاد المفترض، فالحر شيء جيد، وهو عكس العبد والعبودية! ولكن هل الأمور حقاً بهذه السطحية والبساطة؟!
حين الحديث عن «الاقتصاد الحر» بالمعنى الاقتصادي المدرسي، فإن الحديث يجري عن ثلاثة عوامل (رأس المال، البضائع، قوة العمل). حين يتحدث الأكاديميون المناصرون للرأسمالية، ومعهم صندوق النقد والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية عن «الاقتصاد الحر»، فهم يقصدون بالضبط حرية حركة رأس المال، وحرية حركة البضائع، ولكن ليس حرية حركة قوة العمل. ويقصدون أيضاً حرية رأس المال في تحديد سعر البضائع، وفي تحديد سعر قوة العمل (أي الأجور)، وتبقى للعامل «حرية» أن يخضع للشروط المفروضة عليه، أو أن يجلس في بيته!
حين يجري الحديث عن تحرير الأسواق، يكون المقصود تحرير الأسعار، أي إلغاء أي دعم اجتماعي تقوم به الدولة لأسعار البضائع الرئيسية، ولكن لا يتم الحديث عن تحرير الأجور عبر ربطها بالأسعار! أي أن الحد الأدنى للأجور ينبغي أن يخضع للعرض والطلب كأي بضاعة أخرى، بغض النظر عن حق العمال في الحياة الكريمة.
فلنضف بعض الأرقام
تتضمن اتفاقيات «التجارة الحرة» التي تعد الأساس في إنشاء منظمة التجارة العالمية، «حرمة» تدخل جهاز الدولة في دعم المنتجين المحليين؛ لأن هذا الدعم برأي المنظمة يعتبر إخلالاً بالتنافس العادل، فالمنتج الذي يتلقى دعماً من حكومته، يصبح أكثر قدرة على المنافسة في الأسواق الخارجية، وفي الأسواق الداخلية، وهو أمر يخل بالتنافس «الشريف» بين المنتجين!
كلامٌ ربما يكون جميلاً، لو جرى تطبيقه بالفعل، وعلى الجميع. ولكن الحقائق تقول شيئاً مختلفاً كلياً؛ فالدول الغربية بالذات، هي أكثر الدول دعماً لمنتجيها المحليين، بل وحتى لبنوكها الخاصة.
على سبيل المثال لا الحصر، عام 2005، بلغت نسبة دعم الدولة للإنتاج الزراعي كنسبة من القيمة الإجمالية للمنتج الزراعي النسب التالية: أمريكا: 18%، كندا: 21%، الاتحاد الأوروبي: 32%، اليابان 58%، النروج 70%.
أما في دول «العالم الثالث»، ونحن ضمنها، فإن قيام الدولة بدعم الزراعة، يُعتبر تخلفاً وإخلالاً بشروط «المنافسة الحرة» و«الاقتصاد الحر» ... لماذا؟ لأنه يعني أن دولنا يمكنها في هذه الحالة أن تؤمن إنتاجاً زراعياً يكفيها ذاتياً، بل ويمكنها أن تنافس في الأسواق العالمية بالفائض من إنتاجها، وهذا أمرٌ يخل بـ«حرية» شركات وحكومات الدول الغربية في نهبنا عبر التصدير إلينا، وعبر استيراد موادنا الخام غير المصنعة أو نصف المصنعة بأسعار زهيدة... هذه هي المسألة ببساطة، الاقتصاد الحر الذي يُروج الغرب له، هو اقتصاد يكون فيه حراً في نهبنا...
مزيد من الأرقام
تعالوا ننظر في «المنافسة الحرة» من وجهة نظر القطاعات المالية. أليس من المفترض وفقاً للفهم الرأسمالي للأمور أن الشركة التي لا تعرف تدبير أمورها هي شركة ينبغي أن تفلس وتتنحى لمصلحة «الأصلح»؟ نعم، هكذا الكلام في الكتب وفي الشعارات... أما في الواقع فالوضع مختلف؛ خلال الأزمة المالية بين 2007-2009، قدم البنك الفيدرالي الأمريكي دعماً مجموعه قرابة 16 ترليون دولار للبنوك المفلسة، على شكل ديون بفوائد صفرية أو شبه صفرية، وليس معروفاً إن تم تسديد أي شيء منها لاحقاً. مثلاً: بنك سيتي غروب حصل على 2.5 ترليون دولار، وبنك مورغان ستانلي حصل على 2 ترليون، وميريل لينش 1.9... وإلخ. وكذلك الأمر مع البنك المركزي الأوروبي الذي قدم قرابة 1.5 ترليون يورو لعدد من البنوك والمؤسسات المالية الخاصة.
خلاصة أولية
ما يجري تقديمه لنا بوصفه «اقتصاداً حراً»، يعبر عن نموذجين متعاكسين تماماً يحملان الاسم نفسه. نموذج مخصص لعلية القوم، أي للدول الغربية، وضمنه يجب على الدولة أن تدعم الزراعة والصناعة والتعليم والطبابة وتطوير البنى التحتية، وحتى القطاع المالي. ونموذج آخر، بالاسم نفسه، مخصص لدولنا، دول الأطراف، ينبغي فيه أن تنسحب الدولة من أي دور اجتماعي، عليها ألا تدعم لا الزراعة ولا الصناعة ولا التعليم ولا الطبابة، ولا أي شيء... عليها أن تعمل شرطي مرور يمسك بعصا قصيرة لا تُستخدم في ضرب أحد، بل في الإيحاء بالسيطرة... في حين أن رؤوس الأموال الخارجية يمكنها أن تنهب ما تشاء وتخرج من البلاد في أي وقت تشاء وتدخلها في أي وقت تشاء... وعلى الحكومة أن توفر للغرب يداً عاملة ماهرة ورخيصة للتصدير بشكل مستمر نحوه، وعليها أن توفر موادها الخام غير مصنعة أو نصف مصنعة بأحسن الأحوال، وجاهزة للتصدير... أي باختصار، أن تكون بلادنا أرضاً مستباحة للنهب الغربي... هذا بالتأكيد هو «ما لا نريده»، ونعرف أننا لا نريده!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1228