افتتاحية قاسيون 1213: أولوية الأولويات: حالة الشعب

افتتاحية قاسيون 1213: أولوية الأولويات: حالة الشعب

تَشغل مواضيعُ مثل: السلم الأهلي، وحصر السلاح، والعدالة الانتقالية، والتحضير للمؤتمر الوطني، والحكومة الانتقالية، والتعددية السياسية والديمقراطية، والدستور المطلوب، والعلاقات الخارجية لسورية الجديدة، حيزاً مهماً من النقاش العام على مستوى السياسيين والمثقفين، وعلى المستوى الإعلامي. وهي جميعها، وبكل تأكيد، مواضيع مهمة لحاضر سورية ومستقبلها، وتشغل بال عموم السوريين، ولكنها مع ذلك لا تشكل في هذه اللحظة الهاجس الأكبر، والهم الأكبر بالنسبة للغالبية الساحقة منهم...

الوضع الاقتصادي المعيشي الصعب، والسعي الدؤوب الشاق وراء لقمة العيش، يحتل المساحة الأساسية في عقول وقلوب أكثر من 90% من السوريين الذين يناضلون نضالاً يومياً مريراً لتحصيل لقمة العيش، وإجار المواصلات وحبة الدواء.

يمكن تلخيص العوائق الأساسية أمام إعادة إقلاع الاقتصاد السوري بالأمور التالية:

أولاً: الإرث السيئ لسلطة الأسد التي دمرت البلاد والعباد، وخربت قسماً هائلاً من البنى التحتية، وأنهكت الاقتصاد، وأفسدت جهاز الدولة، وفوق ذلك كله، فإن السياسات الليبرالية التي طبقها النظام طوال 20 سنة الماضية، من رفعٍ للدعم وخصخصة، وتدمير ممنهج لقطاع الدولة، وللقطاعات المنتجة كلها، ذلك كله وضع البلاد وأهلها في حالةٍ شديدة الصعوبة.

ثانياً: استمرار العقوبات الغربية الإجرامية، والتي ما يزال تعليقها أو تخفيفها مجرد حديث إعلامي وسياسي، لم ينعكس بشكلٍ حقيقي على أرض الواقع، ولا يجوز التعويل عليه؛ فالغرب مستمر بمشروعه المسمى «خطوة مقابل خطوة»، وما يزال يستخدم العقوبات كعصا فوق رأس السوريين والسلطات في سورية، كما استخدمها سابقاً، لتحقيق شروطه. والتجربة التاريخية مع العقوبات الغربية والأمريكية خاصة، تعلّمنا أن الأمريكي لم يرفع بشكلٍ كامل، أي عقوباتٍ فرضها، على أي دولة من الدول، حتى وإن تغير نظامها، والعراق مثال حي على ذلك.

ثالثاً: لا تمتلك سورية اليوم سوقاً واحدة داخلية متصلة؛ فلم يجر حتى اللحظة الوصول إلى تفاهمات كافية مع الشمال الشرقي، كما أن مناطق متعددة في سورية ما تزال خاضعة لسيطرة فصائل بعينها، تتحكم باقتصادها ومعابرها رغم إعلانها الرسمي عن حل نفسها. ومعلومٌ أن وحدة البلاد، أيّ بلاد كانت، تتطلب بالضرورة وجود سوق واحدة تربط بين مختلف أرجائها، وتسمح لاقتصادها بأن يقلع وينهض ويتقدم.

إنّ التعامل الجاد مع الوضع الاقتصادي/الاجتماعي في سورية، لا يقل أهمية عن أي قضية أخرى من القضايا العامة، بل ويمكن القول: إنه اليوم يحتل مرتبة أولوية الأولويات؛

من جهة، لأن استمرار الوضع المعاشي السيئ، مضافاً إليه التخبط الواضح في السياسات التي تتبعها الحكومة المؤقتة، بما في ذلك عمليات التسريح واسعة النطاق وغير المدروسة، والدفع باتجاه إنهاء أي دورٍ اقتصادي واجتماعي مباشرٍ للدولة، ابتداءً من الخبز ووصولاً إلى مختلف المفاصل السيادية الأخرى، يعني فتح ثغرة كبيرة للتدخلات الخارجية، ولمحاولات تفجير السلم الأهلي، ولإعادة إشعال الفتنة ولمحاولات التقسيم.

ومن جهة ثانية، فإنه ورغم أن السوريين يمكن أن يختلفوا على أشياء كثيرة بما يخص شكل الدولة والدستور وغيرها من القضايا، إلا أنهم بالتأكيد، يتفقون (على الأقل 90% منهم المنهوبين الذين يعيشون تحت خط الفقر) على ضرورة النهوض بالاقتصاد الوطني، وتحسين أوضاع الناس المعيشية، وإعادة إنتاج السوق الوطنية الواحدة.

 

 

 

التمركز على نقطة الاتفاق الجامعة هذه، كفيلٌ ليس فقط بتحييد الأخطار الكبرى، ولكن أيضاً في تمهيد الطريق نحو استعادة وحدة البلاد وأهلها، ونحو تكريس السلم الأهلي، وفتح الباب لنقاش حقيقي وأخوي وسلمي حول القضايا المختلفة الأخرى.

إن ابتكارَ نموذجٍ جديد للاقتصاد السوري، نموذج سوري بالدرجة الأولى، بعيداً عن أي وصفات جاهزة شرقية أو غربية، هو ضرورة قصوى اليوم، وهو إمكانية واقعية في الوقت نفسه؛ فالبلد غنية بخبراتها وثرواتها ويمكنها الاعتماد على القيم المطلقة في اقتصادها، والتي لم يجر استثمارها طوال مئة عامٍ الماضية، وهي قادرة على إعادة إقلاع الاقتصاد خلال سنوات قليلة، ودون اعتماد على مساعدات خارجية، أو انتظار للرأفة الغربية، ورأفة صندوق النقد والبنك الدوليين، التي لن تأتي مهما انتظرناها...

أولوية الأولويات هذه ينبغي أن تكون محور العمل الأساسي في المؤتمر الوطني، وفي الحكومة الانتقالية اللاحقة، إلى جانب القضايا الأخرى المطروحة على الساحة كلها...

 

(English Version)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1213
آخر تعديل على الأحد, 09 شباط/فبراير 2025 20:56