سورية على الطريق الجديدة… الفقر يوحد السوريين
مع بدء الحركة الاحتجاجية في سورية في آذار 2011 اجتمعت هيئة تحرير جريدة قاسيون الناطقة باسم حزب الإرادة الشعبية في دمشق، وهناك اتخذ القرار بفتح ملف بعنوان «سورية على مفترق طرق» كان الهم الأساسي في حينها أن يتحمل الحزب مسؤوليته السياسية، ويقدم لجمهوره حصيلة خبرته السياسية، ورأيه في القضايا المختلفة، استناداً إلى منصة علمية رصينة، وفي ذلك الوقت انكبت كوادر الحزب الشابة على كتابة عشرات المقالات لنقاش القضايا الأساسية المطروحة، لكن صوت السلاح دفع ملايين السوريين للانكفاء مجدداً، والابتعاد المؤقت عن العمل السياسي، ومع تعقد الأزمة ضاقت فسحة الأمل، وجرّفت البلاد من أهلها، وظل الباقون فيها جالسين ينخرهم اليأس... أما اليوم، وقد سطعت الشمس مجدداً، ودفّأت العظام الباردة، فإننا نواصل من منبر «قاسيون» وحزب الإرادة الشعبية من خلفها، وعبر الأقلام الشابة بشكل أساسي، طرح مجموعة من المسائل أمام السوريين، علّها تركّز الضوء على المخرج الوحيد من أزمة وطنية وسياسية عميقة، جثمت فوق صدورنا لسنوات... سعياً وراء انتصارات أكبر قادمة... لأن أجمل الانتصارات هي تلك التي لم تأتِ بعد...
شو «طائفة الأغلبية»؟؟!
يكثر في هذه الأثناء الحديث عن الأكثرية والأقلية، وهناك إقبال شديد على الإحصاء! ولا يمر يوم إلا ويسمع الواحد منا فكرةً من هذا النوع. لكن إذا نزلنا إلى الشوارع في سورية من أقصى شمالها إلى أقصى جنوبها، نرى أن هناك درجة عالية من التشابه في ملامح الناس، وإذا أمعنا النظر أكثر في الوجوه، وتحديداً في أماكن الازدحام ومواقف الباصات، نكاد نشعر أننا ننظر إلى وجوهنا نفسها في المرآة... فما هو هذا الرابط العجيب بين هؤلاء كلّهم؟ إنّه سوء التغذية! فالفقر يتحوّل إلى قناع يغطي وجوه الناس، ويوحد ملامحهم وثيابهم، ففي سورية نجح بشار الأسد ونظامه في توحيد السوريين جميعاً تحت خط الفقر، ليتحوّل أكثر من 90% منهم إلى «طائفة» واحدة وهي «طائفة سوء التغذية».
هناك أشكال مختلفة لتقسيم الناس وتصنيفهم؛ الشكل البسيط هو فصلهم على أساس دياناتهم وطوائفهم وقومياتهم، لكن ظروف حياة الناس ومعاناتهم وطموحاتهم تؤكّد أن في سورية «طائفتين» الأولى: هي الفقراء والساعين وراء لقمة عيشهم. أما الثانية: فتضم أولئك الذين ينهبون الفئة الأولى ويعتاشون على دمائها وتعبها.
إدراك الأغلبية المفقرة لذلك يفرض عليهم توحيد صفوفهم والدفاع المشترك عن حياة كريمة، لكن المشكلة أنه بدلاً عن ذلك يجري إقناعهم بأنّهم أعداء، وأن ما يجمع بينهم لا يتعدى بقعة من الأرض حشروا فيها حشراً، وهذا تحديداً ما حاول بشار الأسد الهارب زرعه في عقول الناس لعقود، فلو أدرك السوريون أن لصوص النظام كانوا ينهبونهم جميعاً دون تمييز فيما بينهم لأداروا بنادقهم إلى صدور اللصوص، بدلاً من صدور الفقراء أشباههم في الخنادق المقابلة. وإن فكرنا بالموضوع أكثر قليلاً، لتبين لنا أن ترسيخ الطائفية كان مسألة ضرورية لبشار الأسد ليغطي على فساده وفساد من حوله، وسلوكٌ كهذا لم يكن يوماً حكراً على بشار الأسد دون غيره، بل كان أداة استخدمت كثيراً في التاريخ، وبأشكال متعددة، لتحقيق أعلى معدّل من النهب وتعطيل قدرة الناس على المقاومة واسترداد حقوقها.
الفقاعة الضيقة
عندما بدأت المظاهرات تخرج إلى الشوارع والساحات السورية، ظن الناس أن ما يفعلونه يصل، كما يريدون، إلى كلّ بيت، وأن الناس يرونهم أنقياء صادقين، بينما كانت وسائل الإعلام تعمل على هدفٍ آخر تماماً؛ ففي سورية، لم يعتمد الناس على وسيلة إعلام جامعة ليعرفوا ما يجري حولهم، بل انقسمت وسائل الإعلام، وأصبحت هناك قنوات «مؤيدة» وقنوات «معارضة»، والمثير حقاً أنه مع كل يوم جديد، باتت مصادر المعلومات تضيق أكثر رغم تنوعها، فداخل سورية وفي مناطق سيطرة النظام مثلاً، عملت قوى الفساد على الهيمنة على الغالبية الساحقة من وسائل الإعلام، وتحوّلت مئات الصفحات على وسائل التواصل الاجتماعي وعشرات الإذاعات والصحف ومحطات التلفزيون إلى ماكينة واحدة ضخمة تروّج أفكاراً محدودة بطرق ومستويات مختلفة، لكن ما لا يعرفه كثيرون، هو أن القنوات «المؤيدة» لم تسع للتأثير على جمهور «المعارضة» بل على العكس تماماً، كان هدفها الأساسي التأثير بـ «الموالاة» تحديداً بهدف التحكم بمواقفهم وسلوكهم، وكذلك الأمر بالنسبة للقنوات «المعارضة»، فالهدف كان نسف أي إمكانية تواصل حقيقي بين الفريقين المتحاربين، وشحن كل فريق ضد الآخر، وكان الشرط الوحيد للقاء الفريقين هو ضمن برامج تلفزيونية محددة أشبه بحلبات مصارعة يلتقي فيها أصحاب الآراء المتطرفة تحديداً، ويرمون بعضهم بالأكواب والكراسي.
هذا السلوك الإعلامي والسيطرة الشديدة على ما يخرج للناس ساهم لدرجة كبيرة بتعقيد المشهد على الأرض. والمقلق اليوم، أننا نشهد إلى حد كبير ملامح تشكل فقاعات جديدة تعزل من في داخلها عن الآخرين الموجودين في الفقاعات الأخرى؛ حتى يكاد الشخص يظن أن من يشاطره الرأي موجود، أما الآخرون فما هم إلا أشباح يشعر بهم ولا يراهم. ولكن إذا ما أردنا حقاً الخروج من اللحظة الحرجة التي نمر بها سالمين، علينا أن نستفيد من دروس الماضي ونكسر هذه الفقاعات، ونلتقي مع بعضنا البعض، ونُنحي النوايا السيئة، ونستمع بقلوب وعقول مفتوحة دون أحاكم مسبقة...
غالي بس طيب!
في سورية كان هناك نوعان من الناس، الأول: مستعد لأن يدفع أكثر مقابل أن يأكل طعاماً أطيب، والنوع الثاني: يفضل أن يأكل كمية أكبر بغض النظر عن الطعم! وليس من الصعب أن نعرف الفرق بين هذا وذاك؛ فضيق الحال كان يعني أن الأولوية ليست للطعم بل للبحث عما يشبع العائلة ولا يكلف كثيراً. وخلال العقود الماضية، وتحديداً العقد الأخير، كان الحال يضيق أكثر وأكثر، والفقر يأسر عدداً أكبر من السوريين، ولم تبق إلى قلة قليلة قادرة على دفع تكلفة النكهة الباهظة، حتى أن المكونات التي تستخدم لتحضير الطعام التقليدي بدأت تتغيّر؛ فجرى استبدال اللحمة بالدجاج، ثم لاحقاً الدجاج بمرقته فقط، وكذلك الأمر لم يعد بالإمكان وضع اللوز والصنوبر فوق الفتة الشامية، واحتل مكانها الفستق المحمص في أحسن الأحوال، وبدأت البازيلاء تحتل محل الفستق الحلبي وهكذا حتى أن أبسط الأشياء باتت بعيدة المنال، وأصبح سوق البزورية في دمشق يبيع أنواع النكهات كلها، حتى أن استخدام الليمون الطبيعي أصبح شكلاً من أشكال البذخ!
ما سبق يشرح لنا طبيعة النقاش الدائر حول رغيف الخبز «الجديد»؛ إذ أصدرت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك قراراً في 4 شباط الجاري يقضي بتخفيض وزن ربطة الخبز من 1500غ إلى 1200غ لكن للمفارقة شهد المواطنون تحسناً ملحوظاً في جودة الرغيف وطعمته، وهذا بلا شك أمر جيد؛ حيث شهدت السنوات السابقة تدهوراً كبيرة في جودة الخبز، لكن المشكلة الآن أن الغالبية العظمى من السوريين لا تزال في الفريق الذي يبحث عن كمية أكبر بسعر أرخص، وهؤلاء تخنقهم الغصة عندما يذوقون الرغيف الجديد، فهو يذكرهم بزمن مختلف، ولكنّه يعني أيضاً الحاجة لكمية أكبر من المال لملء المعدة بالمنتج الأساسي، الذي بات مصدر الوقود والطاقة رقم 1 لأجساد السوريين المتعبة!
لماذا نلتقي؟
منذ هروب بشار الأسد يعمل حزب الإرادة الشعبية بشكلٍ أوسع من السابق على تنظيم لقاءات كثيرة وفي كلّ بقعة من بقاع سورية مع أكبر شريحة ممكنة من الناس، ونظّم حتى اليوم لقاءات حضرها الآلاف في عدد كبير من المدن والقرى، كان آخرها ندوتين في مدينة وريف اللاذقية وأخرى في مدينة دمشق، وقد يبدو للوهلة الأولى أن هذا النمط من النشاط هو نمطٌ تقليدي ومكرر ومنافعه قليلة! لكن الواقع يقول غير ذلك تماماً.
فالمواضيع التي نحاول أن نناقشها مع الناس شديدة التنوع؛ مثل: الأوضاع المعاشية، وسبل الخروج من الوضع الصعب الذي نعيشه اليوم، مروراً بقضايا كبرى، مثل: كيفية توحيد السوريين واستعادة وحدة وسيادة بلادهم، وصولاً إلى نقاش المطلوب من المؤتمر الوطني واللجنة التحضيرية المزمع إنشاؤها، والدستور وشكل الدولة، وغيرها من المواضيع.
الهدف العميق من هذه النشاطات هو تحديداً قناعتنا بأن الطريق الوحيد الآمن للخروج مما نحن فيه، هو نقاش هذه المسائل كلها مع أوسع شريحة ممكنة، وتبادل وجهات النظر حولها، وذلك تحديداً لأن «الإرادة الشعبية» ينظر إلى السوريين لا بوصفهم جمهوراً من المتفرجين، بل على العكس؛ فهم الأساس الذي يعوّل عليه للمرحلة القادمة، وإن لم يكونوا مشاركين في صناعة مستقبلهم، فإنهم سيجدون نفسهم في المأزق السابق ذاته، يشاهدون من يتخذ القرارات باسمهم، ولهذا بالتحديد تكون مسألة دفع الناس للانخراط في العمل السياسي المنظم، بمثابة رسالة تنبيه، ودعوة للنظر للعمل السياسي بشكل جديد مختلف عن الأشكال المكروهة التي قدّمها حزب البعث؛ ففي بيت ياشوط في ريف اللاذقية قال أحد المشاركين في الندوة: إن حزب البعث كان يجبرنا على توقيع طلب الانتساب، ويأخذ منا النقود ثم يرسلنا إلى بيوتنا! ولا يمكن إلا أن نقول: إن هذا النمط كان سائداً بالفعل، وبالتالي، لم يدرك الناس معنى العمل السياسي الحقيقي، وظنوا أن السياسة ما هي إلا «رجسٌ من عمل الشيطان» ... لم يعلموا مثلاً أنها أداة للدفاع عن مصالحهم ولقمة عيشهم، ويمكنهم من خلال العمل السياسي المنظم أن يشكّلوا واقعاً جديداً، ويؤمّنوا مستقبل أولادهم! لذلك بالتحديد سنعمل دون مللٍ أو تعب للقاء مع السوريين أينما كانوا، لنشق نحن وهم وبالتعاون مع القوى والتجمعات الوطنية كلها طريق الخلاص الجماعي لسورية وأهلها، ولنسير عليه معاً إلى حيث ينبغي أن نكون.
في ملف الاعتقال
كانت السلطة البائدة تملأ السجون بكل من عارضها، وبغض النظر عن شكل هذه المعارضة، حتى تحوّلت السجون في سورية إلى نقطة تجمعٍ لمئات الآلاف من السوريين، حتى أصبح ملف المعتقلين واحداً من الملفات الأساسية، وكانت المطالبات لا تنقطع لإطلاق سراحهم. لكن سلطة بشار الأسد كانت تتعامل مع هؤلاء وعائلاتهم على أنّهم موضوع للابتزاز، ولم تكن هناك نيّة حقيقية لعلاج هذه المشكلة، تماماً مثل ما لم تكن هناك أي نيّة للبدء بحل سياسي حقيقي.
في 8 كانون الأول فتحت أبواب السجون وخرج الآلاف من أقبية فروع الأمن ومن سجن صيدنايا وغيره، وبدا للوهلة الأولى كما لو أن المشكلة قد حلّت بعد أن التم الشمل أخيراً، لكن ظهرت أمامنا مشكلات جديدة، وهي أن المعتقلين، الذين حالفهم الحظ بالبقاء على قيد الحياة، خرجوا ليجدوا أنفسهم بلا عمل، وهم بحاجة إلى رعاية صحية ونفسية، وانضمت غالبيتهم إلى جيش العاطلين عن العمل في سورية، ليظهر مرة جديدة أن المشاكل في سورية شديدة الترابط، وإن كان بالإمكان حل بعضها جزئياً يظل من الواضح أن إنجاز المطلوب يحتاج العمل على القضايا كلها بشكلٍ متوازٍ.
المشكلة الثانية، أو المأساة الكبرى الثانية، التي ظهرت مع فتح السجون، هي مأساة المفقودين الذين لم يُعرف مصيرهم بعد، ولم يتم الحصول على وثائق وسجلات تسمح بمعرفة هل هم على قيد الحياة أم أنهم استشهدوا، وإذا كانوا قد استشهدوا فأين هي جثامينهم...
هذه المأساة المستمرة، هي ألمٌ متواصل يعتصر قلوب عشرات الآلاف، وربما أكثر، من الأمهات السوريات، اللواتي ما يزال الحزن يجثم على صدورهن ويقض مضاجعهن. وربما من المحق القول: إنّ هذا النوع من الألم بالتحديد، هو ألم لا علاج له؛ فلا يعوض الأم عن ابنها أي شيء في هذا العالم... ولكن مع ذلك، فإن هذا الألم يمكن تخفيفه وتسكينه، عبر استمرار العمل على البحث عن نهاية واضحة للقصص الفردية كلها، وعبر العمل على ملفات العدالة بشكلٍ مدروسٍ يهدف إلى تنظيف الجراح، وصولاً لإغلاقها، وليس عبر تعميق الجراح وتلويثها.
وربما أهم من ذلك كله، أن تشعر الأمهات بأن دماء أولادهن لم تذهب هباءً، بل كانت الأساس في بناء بلادٍ عزيزة كريمة قوية يسودها الحب والوئام والسلام والتعاون بين أهلها؛ فالمرأة السورية، كانت وما تزال، معادية للقتل والاقتتال، وجانحةً إلى السلم والتفاهم والتعقل والحكمة، لأنها هي بالذات، وخلافاً لقسم كبير من الرجال، تعلم أكثر من غيرها أيّ لوعةٍ وأيّ عذابٍ يخلّفه فَقْد الأحبة... أهم ما يمكن أن نقدمه كسوريين لأمهات الشهداء والمعتقلين المفقودين المغيبين، هو أن نحفظ السلم الأهلي، وأن نُعيد بناء البلاد حرةً عزيزة كريمة موحدة، كما اشتهاها أبناؤهن وبذلوا من أجلها أقصى ما يمكن أن يبذله إنسان: روحه!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1213