هرم الأكاذيب الأمريكية ليس مالياً فقط... (2) أكاذيب أمريكية كبرى بخصوص «الشرق الأوسط» خلال 5 سنوات
توقفنا في الجزء الأول من هذه المادة، مع الكذبة الأمريكية المتعلقة بـ«الممر الهندي الشرق أوسطي الأوروبي»، وناقشنا أبعادها السياسية والاقتصادية ومدى واقعيتها، وكانت الخلاصة هي: أنّ الضجة الهائلة حول هذا الممر ليس لها ما يبررها على أرض الواقع، وأنّ المشروع أقرب ما يكون إلى بروباغاندا إعلامية- سياسية، منه إلى أن يكون مشروعاً واقعياً. وفي السياق عرضنا قسماً من هرم الأكاذيب والتحليلات والاستنتاجات التي يجري بناؤها بالاستناد إلى هذا المشروع المفترض.
ثانياً: الناتو العربي
نتابع في هذا الجزء استعراض أكاذيب أمريكية كبرى أخرى، مرتبطة بالشرق الأوسط. وفي هذا السياق ربما لا يوجد ما هو أكثر فداحةً من كذبة «الناتو العربي»..
الظهور الأول للفكرة
يسود اعتقادٌ واسع الانتشار، أنّ أول من أطلق فكرة «ناتو عربي» هو الملك الأردني عبدالله الثاني، خلال مقابلةٍ أجرتها معه قناة (سي إن بي سي) الأمريكية في حزيران 2022. وذلك بالرغم من أنّ الرجوع إلى هذه المقابلة نفسها، يظهر شيئين مهمين؛ الأول: هو أنّ المذيعة التي أجرت المقابلة هي من بدأت بطرح سؤال محدد عن المسألة: (هل تعتقد أننا بحاجة إلى ناتو خاص بالشرق الأوسط؟)، والثاني: هو أنّ الملك الأردني في إجابته، وافق على الطرح الذي قدمته المذيعة وأسماه: «ناتو شرق أوسطي» «a Middle East NATO»، وليس «ناتو عربي»، وذلك في إشارة مفهومة إلى أنّ «إسرائيل» ستكون جزءاً من هذا الناتو المفترض.
ببحثٍ أوسع، يتضح أنّ طرح هذه الفكرة ليس جديداً، بل يعود على الأقل إلى ما قبل خمس سنوات؛ (بوصفها تحالفاً شرق أوسطياً يضم دول الخليج العربي، والأردن ومصر و«إسرائيل»، وبدعمٍ وقيادةٍ أمريكية، وفي مواجهة إيران).
يوم 28 تموز 2018، أي قبل أربع سنوات من مقابلة الملك الأردني آنفة الذكر، نشرت رويترز مقالة عنونتها: «ترامب يسعى لإعادة إحياء «ناتو عربي» لمواجهة إيران». واستخدام فعل «يعيد إحياء revive» في العنوان، يعني ضمناً: أنّ الفكرة أقدم من تاريخ نشر المقالة. ولكن يمكننا مع ذلك، أن نعتبر المرحلة التي نُشرت فيها هذه المقالة، هي نقطة البداية لفكرة «الناتو العربي» بشكلها الحديث؛ لأنّ منطق الأمور يقول: إنّ الحديث عن «تحالفٍ يضم جنباً إلى جنب دولاً عربية مع «إسرائيل»، وخاصة خليجية»، لم يكن ممكناً بحالٍ من الأحوال، على الأقل لم يكن ممكناً الحديث فيه علناً، قبل إعلان إدارة ترامب عن بدئها العمل على «خطة سلامٍ في الشرق الأوسط» عام 2017، أسمتها لاحقاً «صفقة القرن»، وأعلنت عن تفاصيلها في 28 كانون الثاني 2020، خلال مؤتمرٍ صحفي ضم ترامب إلى جانب كل من نتنياهو وغانتس. وتلا ذلك كما هو معروف، توقيع اتفاق التطبيع الأبراهيمي بين الإمارات والكيان يوم 13 آب 2020، ومن ثم بين البحرين والكيان يوم 11 أيلول 2020، ومن ثم بين المغرب والكيان يوم 10 كانون الأول 2020. وتوقيع اتفاقات التطبيع هذه- وكما يمكن للمرء أن يتوقع- أعطى زخماً إعلامياً إضافياً لفكرة «ناتو عربي» يضم «إسرائيل».
بكلامٍ آخر، لا يمكن أنْ نفصل بحالٍ من الأحوال، بين هذه الفكرة، أي الناتو العربي- الناتو الشرق أوسطي، وصفقة القرن؛ فكلاهما في الحقيقة مشروعٌ واحد، له جانبه العسكري، الذي هو «الناتو العربي»، وجانبه السياسي الاقتصادي الثقافي الذي هو «صفقة القرن».
هرم الأكاذيب
ضمن المنهج نفسه الذي تعاملنا به مع «الممر الهندي الشرق أوسطي الأوروبي» في الجزء الأول من هذه المادة، نتعامل هنا مع فكرة «الناتو العربي»؛ حيث سنبدأ بعرض جزءٍ من هرم الأكاذيب والتحليلات والاستنتاجات والتنبؤات الذي تم بناؤه على الفكرة المفترضة، باعتبارها أمراً واقعاً. ومن ثم سننتقل لمعالجة مدى واقعية الفكرة وقابليتها للتحقيق، مع الانتباه إلى المسار الواقعي الذي سلكته الأحداث في منطقتنا خلال السنوات الماضية، وخاصة خلال السنتين الأخيرتين اللتين اتخذت فيهما الوقائع اتجاهاً معاكساً تماماً لمشروع الناتو العربي المفترض.
ولنبدأ بهرم الأكاذيب الذي تمّ بناؤه بافتراض أنّ «المشاريع» هي وقائع منجزة:
- سيتم القضاء على الحوثيين مرةً وإلى الأبد، وسيتم إنهاء ملف الحرب على اليمن بانتصارٍ ساحقٍ ماحقٍ لـ«التحالف العربي» بقيادة السعودية.
- سيرتفع التوتر والصراع مع إيران، وربما يصل إلى حدود حربٍ مباشرة تشترك فيها الدول الخليجية، بدعمٍ استخباراتي وعسكري «إسرائيلي» وأمريكي.
- سيجري تقليص النفوذ الإيراني بشكلٍ كبيرٍ جداً في كلٍ من العراق وسورية، وسيحل محله نفوذٌ مشترك «عربي/ إسرائيلي/ غربي».
- سيجري إخضاع تركيا، أو الاتفاق معها، بحيث تحدد اصطفافها الذي سيكون بلا شك إلى جانب الولايات المتحدة والكيان والدول العربية، في مواجهة روسيا والصين وإيران، وسيؤدي ذلك إلى انفراط عقد صيغة أستانا الخاصة بسورية، وعودة الحياة إلى «المجموعة المصغرة الغربية» التي ستكون لها الكلمة الأخيرة في تقرير مستقبل سورية.
- سيؤدي التحالف العسكري بين الكيان والدول العربية الخليجية إلى تثبيت تموضع الخليج العربي في المعسكر الغربي، وإغلاق أية احتمالات لتطور العلاقة بين السعودية خاصة، وكل من روسيا والصين.
- سيغطي التحالف الجديد حاجات السعودية العسكرية والتقنية التي طالما طالبت الأمريكان بتوفيرها، وسيغلق هذا باب التعاون العسكري والتقني مع كل من الصين وروسيا.
التطبيع الكامل بين السعودية و«إسرائيل»، سيكون تحصيل حاصل، وسيكون أهم مرحلة في تنفيذ «صفقة القرن» وفي «تصفية القضية الفلسطينية».
النقاط أعلاه، هي جزء فقط من هرم الأكاذيب الذي تمّ بناؤه على أساس «الناتو العربي» الذي هو نفسه، لم يخط في يومٍ من الأيام أي خطوة فعلية خارج المساحة الإعلامية- السياسية.
واقعية الفكرة
مضى على الطرح الأول لفكرة «الناتو العربي» ما يزيد عن خمس سنوات، ولذا فإنّ قراءة مدى واقعيتها، سيكون أكثر سهولة من مناقشة مدى واقعية فكرة طازجة من طراز «الممر الهندي الشرق أوسطي الأوروبي» والتي لم يمض على إطلاقها سوى ثلاثة أشهر. وكما يقال، فإنّ «ما تقوله الحياة يتوقف النقاش حوله»؛ ولذا سيكون من الأجدى أن نستعرض ما قالته الحياة خلال السنوات الخمس الماضية بشأن «الناتو العربي»، علماً أنّ قاسيون كانت قد وضحّت منذ سنوات، أنها ترى أن هذا المشروع خلبيٌ ولا أمل له في التحقق، مستندةً في حينه إلى فهمها للتوازن الدولي واتجاهات تطوره... ونضع فيما يلي روابط لبعض المواد في قاسيون التي تطرقت لهذا الموضوع في حينه:
- خرافة «الناتو العربي»... قنبلة دخانية.
- خمسة مشاريع «أمريكية- صهيونية» في منطقتنا... العصا عصا... والجزرة أيضاً عصا!
- «ناتو عربي»: الهلوسة تأخذ بُعداً آخر.
- «الناتو العربي» ومواويل أخرى.
بالعودة إلى ما قالته الحياة، نجد أنفسنا أمام ما يلي:
- لم تتمكن فكرة الناتو العربي، رغم كل التطبيل الذي رافقها، من منع الحوثيين من استهداف مواقع عدة ضمن السعودية بشكل متكرر أهمها: الهجمات على أرامكو.
- لم تتمكن الفكرة من القضاء على الحوثيين قضاء مبرماً. وبالمقابل جرى الوصول إلى اتفاق سلامٍ معهم، وتجميدٍ كامل تقريباً للحرب في اليمن وعليها.
- رغم مرور 5 سنوات على الفكرة، إلا أنّ السعودية لم تطبّع مع الكيان، بل وبات التطبيع أبعد من أي وقت مضى بعد 7 أكتوبر.
- اتفاقات التطبيع الذليلة التي انخرطت فيها الإمارات والبحرين والمغرب، وبغض النظر عن الإرادة السياسية لأنظمة هذه الدول، قد دخلت بشكل موضوعي إلزامي في حالة تجميدٍ ليس من الواضح متى يمكن فكّه.
- لم تستورد السعودية أنظمة الدفاع الصاروخي «الإسرائيلية»، لا القبة الحديدية ولا السهم ولا غيرها، ولم تحمها منظومات باتريوت الأمريكية، وباتت سمعة هذه المنظومات الثلاث في الحضيض بعد الحرب في أوكرانيا، وبعد 7 أكتوبر.
- لم تنتقل السعودية إلى مواجهة مباشرة مع إيران، بل جرى العكس تماماً؛ جرى الوصول إلى تسوية سلمية بوساطة صينية وروسية، وما تزال العلاقات بين الدولتين تشهد تحسناً تدريجياً وبطيئاً، ولكن ذا اتجاه ثابت. والدولتان اللتان من المفترض أن تخوضا حرباً ضروس تلبية للمصالح الأمريكية و«الإسرائيلية»، باتتا تحتلان كرسيين متجاورين في تحالف بريكس، المنافس الاقتصادي- السياسي، للغرب وتحالفاته.
- لم ينخفض نفوذ إيران في المنطقة، بل تعزز، وخاصة بعد 7 أكتوبر.
- لم تنحسر العلاقات بين السعودية من جانب والصين وروسيا من جانب مقابل، بل على العكس من ذلك، تعززت بصورة غير مسبوقة تاريخياً؛ لم يظهر ذلك فقط في موقف الحياد اتجاه حرب أوكرانيا ورفض الانخراط في العقوبات، بل وأيضاً عبر التعاون الهائل وغير المسبوق في تنمية البنى التحتية وفي الاستثمارات، وأهم من ذلك، في أوبك+ وفي بريكس التي انضمت إليها كل من السعودية والإمارات ومصر مؤخراً.
- لم تتم إعادة إحياء المجموعة المصغرة الغربية، بل على العكس من ذلك تم إعلان دفنها نهائياً في الاجتماع الذي عقدته يوم 24 كانون الثاني 2023 في جنيف، والذي لم تحضره-كما كانت العادة- لا السعودية ولا مصر ولا الأردن... وأهم من ذلك في السياق السوري، لم تحضره حتى تركيا!
- لم يجر إخضاع تركيا، ولم تجر إعادتها إلى بيت الطاعة الأمريكي، بل على العكس من ذلك، خطت تركيا خطوات إضافية في الابتعاد عن الأمريكان، وإنْ كانت لم تنجز حتى اللحظة انعطافها الكامل، والذي ليس من المتوقع- بطبيعة الحال- أن يتم بشكلٍ حاد وبسرعة كبيرة.
خلاصة أولية
يتضح من المعالجة التي قمنا بها آنفاً لكلٍ من «الممر الهندي الشرق أوسطي الأوروبي» و«الناتو العربي»، أنهما فكرتان لم تتجاوزا مرحلة الحديث الإعلامي السياسي، وأنه لا يمكن لهما أن تتجاوزا تلك المرحلة.
وربما، فإنّ ما هو أهم من ذلك، أنّ هذين المشروعين المفترضين، وحجم التطبيل الإعلامي السياسي حولهما، يشير بوضوحٍ إلى أنّ الولايات المتحدة لم يعد لديها ما تقدمه لمنطقتنا وللعالم بأسره سوى المشاريع الخلبية... وعودٌ على بدء؛ فإنّ المنتج الأساسي الوحيد في الإطار الاقتصادي المالي الذي ما تزال الولايات المتحدة «تقدمه» للعالم، هو دولارها، وبالأحرى فهو المنتج الوحيد الذي من خلاله تواصل نهبها لشعوب ودول العالم. والأمر لا يختلف كثيراً حين الحديث عن المشاريع السياسية التي تقدمها؛ فهي الأخرى وهمية بقدر وهمية أساس الدولار، لا وظيفة لها سوى محاولة الحفاظ على الهيمنة الأمريكية، ومنع تقدم الأقطاب الصاعدة...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1153