هرم الأكاذيب الأمريكية ليس مالياً فقط... (1) .. أكاذيب أمريكية كبرى بخصوص «الشرق الأوسط» خلال 5 سنوات

هرم الأكاذيب الأمريكية ليس مالياً فقط... (1) .. أكاذيب أمريكية كبرى بخصوص «الشرق الأوسط» خلال 5 سنوات

منذ سنوات طويلة، لم يعد يجادل أيّ باحث اقتصادي جدّي بأنّ سيطرة الدولار على التبادلات العالمية، تحوّلت إلى أكبر عملية نهبٍ جرت عبر التاريخ؛ حيث تطبع الولايات المتحدة دولاراتها دون أي أساسٍ مادي، لا ذهب ولا غيره، وبهذه الدولارات التي لا تكلفها سوى قيمة طباعتها (ناهيك عن أنّ القسم الأكبر من الدولارات اليوم ليس مطبوعاً حتى، بل رقمياً، أي لا يكلف شيئاً على الإطلاق)، بهذه الدولارات تشتري/ تنهب قسماً هائلاً من ثروات ومنتجات العالم. وبذلك كوّنت هرمها المالي المقلوب الذي يقف على رأسه عملياً، ولا ينفك يتضخم ويتضخم، منذراً بانهيارٍ يقترب أكثر فأكثر.

وإذا كان هذا الأمر قد بات واضحاً ببعده المالي الاقتصادي، فإنّ له بعداً آخر موازياً، سياسياً، ما يزال على ما يبدو أقل وضوحاً... نقصد بذلك هرم الأكاذيب السياسية والجيوسياسية الذي تواصل الولايات المتحدة بناءه وتضخيمه. والخطير في المسألة، هو أنّ هذا الهرم بالذات، أي هرم الأكاذيب السياسية، ما يزال قادراً على التأثير في عقول الناس، خاصة وأنّ الآلة الإعلامية الغربية، وتوابعها عبر العالم، ما تزال آلة نشيطة وفعالة، حتى وإنْ تراجعت فاعليتها مقارنة بالسابق.
ما نقصده من هذه المقارنة بين الهرم المالي الدولاري وهرم الأكاذيب السياسية، هو أنّ الولايات المتحدة، وكما بنت هرمها المالي الضخم على كذبة هي اقتران إصدار الدولار بالذهب، فإنها تبني أيضاً أهرامات من الأكاذيب السياسية على «مشاريع مفترضة» هي في الحقيقة وهمية بقدر وهمية اقتران الدولار بالذهب.
سيتضح المقصد بشكل أكبر مع طرح الأمثلة الملموسة للأكاذيب الكبرى الخاصة بالشرق الأوسط التي سنتحدث عنها تباعاً، والتي راجت خلال السنوات الخمس الماضية، ودون أن نضعها بالضرورة في ترتيبها الزمني الذي ظهرت فيه.

أولاً: الممر الهندي الشرق أوسطي الأوروبي

على هامش اجتماع مجموعة العشرين في نيودلهي يومي 9-10 أيلول الماضي، أعلنت الولايات المتحدة والهند وأوروبا عن إطلاق مشروع «الممر الهندي الشرق أوسطي الأوروبي» ليصل بين الهند وأوروبا، عبر السعودية وفلسطين المحتلة.
وبمجرد أن تم الإعلان عن هذا «المشروع»، تحوّل إلى أساسٍ لهرمٍ ضخمٍ من التحليلات والقراءات والاستنتاجات والتنبؤات التي لا أول لها ولا آخر.
جرى التعامل إعلامياً مع «المشروع» بوصفه معطىً واقعياً متحققاً ومنتهياً، وبدأ بناء التحليلات على هذا الأساس، ولم يكلف الإعلام والمحللون أنفسهم عناء محاولة التفكير بمدى واقعية أو جدية أو الآجال الزمنية الخاصة بهذا المشروع.
قبل الدخول في نقاش هذا الجانب من المسألة، أي الجانب الواقعي منها، فلننظر إلى هرم الأكاذيب الذي تم بناؤه على أساس «الإعلان عن المشروع»، والذي بالمناسبة ما يزال إعلاناً بالأحرف الأولى، ولم يصل إلى مستوى خطة نظرية كاملة بعد، ما يعني أن الاتفاق الكامل عليه ما يزال بحاجة إلى سنوات أخرى، وإنْ تم الاتفاق عليه غداً، فتنفيذه سيستغرق بالحد الأدنى عشر سنوات.

فلندع هذا كله جانباً، ولننظر إلى هرم الأكاذيب الذي تم بناؤه على أساس فكرة ما تزال غير مكتملة حتى على الورق:

1- تمكنت الولايات المتحدة من الإيقاع بين الهند والصين، وسحبت الهند إلى معسكرها عبر هذا المشروع.
2- تمكنت الولايات المتحدة من وضع أساس لمنافسة الحزام والطريق، وللتقليل من فعاليته.
3- تمكنت الولايات المتحدة من ضرب إسفين بين السعودية وإيران، ومن التأسيس لضرب التسوية التي عمل عليها الصينيون والروس بين البلدين، عبر ربطها بين السعودية و«إسرائيل» في مشروع استراتيجي ضخم سيقود إلى تطبيع العلاقات بين البلدين، وسيعيد السعودية إلى الاصطفاف الغربي الخالص الذي كانت فيه طوال عقود سابقة.
4- تمكنت الولايات المتحدة من تفخيخ كل العمل الصيني الروسي في الشرق الأوسط، ووضعت الأساس لإعادة السيطرة عليه بشكل كامل وطرد الروس والصينيين منه.
5- سيؤدي هذا المشروع إلى تقليل أهمية انضمام السعودية والإمارات ومصر وغيرها من الدول في المنطقة إلى بريكس.
النقاط التي ذكرناها أعلاه، ليست إلا جزءاً من «الاستنتاجات» العبقرية والاستراتيجية التي تم إغراق الإعلام بها خلال الأشهر الماضية بخصوص هذا المشروع المفترض.

لم يكلف أصحاب هذه الاستنتاجات أنفسهم النظر إلى هذه الفكرة المفترضة من الزوايا الواقعية التالية:

1- المشروع ما يزال فكرة لم تكتمل لا حساباتها ولا آليات تنفيذها، ولا الاتفاقات حولها. وكي يصل إلى نهاياته، على افتراض أنه سيصلها، فإنه سيحتاج إلى ما لا يقل عن 15 عاماً بأحسن الأحوال.
2- يتضمن الممر المفترض ثلاث مراحل: بحرية من الهند باتجاه الإمارات، برية من الإمارات فالسعودية فالأردن فالكيان الصهيوني، بحرية من حيفا باتجاه أوروبا عبر المتوسط. وطول الممر المفترض مقسم بالتساوي تقريباً بين هذه المراحل الثلاث، أي أنّه يتضمن ثلثي طوله طرقاً بحرية، وثلث طوله طرقاً برية. وليس من الصعب على المختصين بحسابات الجدوى الاقتصادية أنْ يتبينوا بسرعة مدى خلّبية هذا المشروع، خاصة إذا ما تمت مقارنته مع خطوط الحزام والطريق القائمة فعلاً، وذلك للأسباب التالية:

أ- الطرق البحرية مقارنة بطرق السكك الحديدية البرية، هي أكثر كلفةً وأبطأ وأطول. والممر المفترض ثلثاه طرق بحرية.

ب- المقارنة بين الطرق البحرية والطرق البرية تصب في صالح الطرق البرية، وهذا معروف ومفهوم، ولكنّ الممر المفترض ليس برياً ولا بحرياً، بل مختلطاً. والطرق المختلطة هي الأعلى كلفةً والأقل جدوى، من كلٍ من البرية البحتة والبحرية البحتة؛ فالطرق المختلطة تعني أنّ البضائع التي سيتم تحميلها عند شواطئ الهند على السفن، يجب أن يتم تنزيلها على شواطئ الإمارات، ومن ثم تحميلها على سكك الحديد، ومن ثم تنزيلها في حيفا، ومن ثم تحميلها مجدداً عند شواطئ حيفا لنقلها بحراً، ومن ثم تنزيلها عند الشواطئ الأوروبية، لتحميلها مجدداً على السكك الحديدية وطرق النقل البرية الأخرى نحو وجهاتها النهائية. كل عملية تنزيل وتحميل، هي تعقيد إضافي وتكاليف إضافية ووقت إضافي، ليس لها أي مبرر اقتصادي بوجود الطرق البرية التي تصل من ووهان إلى مدريد.

ت- المنطقة المفترضة لمرور هذا الحزام، هي واحدة من أشد المناطق توتراً بالمعنى السياسي حول العالم. والظرف السياسي الذي يجري تقديمه كحاضن مفترضٍ للمشروع، هو ظرف استمرار الكيان الصهيوني مسيطراً وقوياً ودون حل القضية الفلسطينية؛ أي هو ظرف توتر وانفجارات مستمرة بامتياز... وبالتالي، فإنّ تصديق أنّ هذا المشروع قابل للتحقق ضمن الآجال التي يجري الحديث عنها، وضمن الظروف السياسية التي يجري الحديث عنها، وبالأهداف التي تم وضعها، هو حمقٌ متكامل الأركان، اقتصادياً وسياسياً.

ث- من الصحيح أنّ هنالك تنافساً بين الهند والصين، ولكن هذا التنافس لا يعني أنّ الهند ترى أن مصلحتها هي في الاصطفاف استراتيجياً مع الأمريكي ضد الصيني، على العكس من ذلك، فإنّ قراءة صحيحة للسياسة الهندية تجاه مختلف المشاريع العالمية، تظهر أنّ الهند تلعب مع الولايات المتحدة لعبة ابتزازٍ مكشوفٍ تقريباً، وتسعى للحفاظ على مصالحها، وتساير الأمريكان شكلياً في بعض الملفات، ولكنها تسير فعلياً بشكلٍ أكبر ضمن شراكتها مع كل من الصين وروسيا والبرازيل وإيران وتركيا والسعودية وغيرها من الدول الصاعدة.

ج- الأمر نفسه ينطبق على السعودية، التي وافقت على «فكرة مشروع الممر الهندي الشرق أوسطي الأوروبي»، وهي مجرد فكرة كما ذكرنا، بالتوازي مع انضمامها إلى بريكس، التي هي مشروع حقيقي ملموس، وليس فكرة غير مكتملة حتى على الورق. والسعودية بالتوازي مع الموافقة على فكرة مشروع الممر، سارت خطوات إضافية في التسوية مع إيران برعاية صينية روسية...

لقراءة الجزء الثاني من المادة :

هرم الأكاذيب الأمريكية ليس مالياً فقط... (2) أكاذيب أمريكية كبرى بخصوص «الشرق الأوسط» خلال 5 سنوات 

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
1152
آخر تعديل على السبت, 10 شباط/فبراير 2024 09:47