حول وهم «تصفية القضية الفلسطينية»!
أنْ يعلنَ الصهاينة -بأشكالٍ مباشرة أو غير مباشرة- أنهم يعملون على «تصفية القضية الفلسطينية»، هو شيءْ، وأنْ نتعاملَ نحن مع هذا «الهدف» بوصفه احتمالاً واقعياً قابلاً للتحقق، هو شيءٌ مختلفٌ تماماً...
مناسبة الحديث، هي أنّه ومع كل مفصلٍ جديدٍ في منطقتنا متعلقٍ بالقضية الفلسطينية - سواء كان اتفاقات أبراهام أو العدوان على غزة أو على الشيخ جراح وإلخ- تنمو كالفطر بعد المطر، الأدبيات والخطابات والبيانات التي تقول بضرورة «النضال لمنع تصفية القضية الفلسطينية». وتشترك في هذه المقولة، أحزاب وقوى وأنظمة ووسائل إعلام ومفكرون وإلخ... وليس من الصعب الاستنتاج أنه في كلّ مرة يتم التأكيد فيها على «النضال لمنع تصفية القضية الفلسطينية»، فإنه يتم التأكيد ضمناً، وفي الوقت نفسه، على أنّ «تصفية القضية الفلسطينية» هي احتمالٌ واقعي! فهل الأمر كذلك حقاً؟ وما الذي يعنيه في نهاية المطاف، ليس في الإطار النظري فحسب، بل وفي العملي أيضاً؟
فلنبدأ القصة من نهايتها: إذا سلّمنا بأنّ «تصفية القضية الفلسطينية» هي احتمالٌ واقعي، فإنّ ذلك سينعكس مباشرة في طريقة صياغة المهمة التي علينا إنجازها، والتي ستكون في هذه الحالة: «منع تصفية القضية الفلسطينية»! وليس حلها، ليس التحرير، ليس إقامة الدولة الفلسطينية، ليس إنهاء نظام الفصل العنصري... وإنما «منع تصفية القضية»...
وبالتالي، فإنّ هكذا فهم، يضعنا تحت سقفٍ محدد يتراوح بين «الممانعة» و«المقاومة»؛ أي العمل لإفشال خطط العدو... وفقط. وأما الانتقال من «المقاومة» إلى الهجوم، ومن «المقاومة» إلى التحرير، أي إلى تحقيق خططنا نحن، فإن ذلك هو خارج دائرة التفكير، ومؤجلٌ إلى «ظروفٍ أخرى أكثر مناسبةً».
هنا بالذات، مع الحديث عن «الظروف المناسبة»، نكون قد اقتربنا من جوهر المسألة؛ فأولئك الذين يصدقون أنّ هنالك احتمالاً واقعياً لـ«تصفية القضية الفلسطينية»، يقعون في خطأين قاتلين؛ الأول هو جهلهم بقدرات وطاقات الشعب الفلسطيني. والثاني هو جهلهم وعدم فهمهم حقيقة التوازن الدولي الجديد، والنتائج التي ترتبت وستترتب عليه.
بالنسبة للخطأ الأول، فليست هنالك حاجة لكلامٍ كثيرٍ حوله: ما دام هنالك شعبٌ فلسطيني على أرض فلسطين، فليس هنالك من سبيلٍ لتصفية القضية؛ لا اتفاقات التطبيع ولا أوسلو ولا كامب ديفيد ولا وادي عربة، ولا محاولات ضم الضفة أو غزة، ولا التنسيق الأمني، ولا هدم البيوت ولا الاعتقال ولا الإجرام ولا القصف ولا الاعتداءات العسكرية... من الصحيح أنّ قضية السكان الأصليين في أميركا قد تمت تصفيتها، ولكن تمت تصفيتها عبر السبيل الوحيد الممكن للقيام بذلك: أي عبر إبادتهم عن بكرة أبيهم؛ حوالي 90 مليون إنسانٍ تم قتله. ولو كان الكيان الصهيوني ومعه واشنطن ولندن، قادرين على فعل ذلك نفسه طوال مئة سنة الماضية ضد الفلسطينيين، لما ترددوا لحظةً واحدة، ولكنهم عاجزون عن ذلك لجملة من الأسباب على رأسها نوعية توازنات القوى الدولية الجديدة مما بعد الحرب العالمية الثانية، وكذلك نوعية ودرجة الوعي الإنساني والشعبي العام في مجمل الكوكب، بما في ذلك في البلدان الغربية.
أما بخصوص الخطأ الثاني، فهو عدم فهم التوازن الدولي الجديد كما هو فعلاً. وبأحسن الأحوال، التعامل معه، ومع فكرة عالمٍ متعدد الأقطاب، على أنها مشروعٌ جنيني ربما يتحقق بعد عقود. من الطريف (وربما المحزن)، في هذا السياق، أنّ البعض يرى أنّ قدرة الصهيوني على الإيغال في الدم الفلسطيني، وعدم امتثاله للرغبة الواسعة حول العالم بوقف إطلاق النار، هي دليلٌ على أنّ ميزان القوى الدولي ما يزال راجحاً باتجاه المصلحة الأمريكية-الصهيونية!
إذا استخدمنا هذا «المنطق» نفسه، فعلينا أن نقول مثلاً:
1- إنّ العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي «الإسرائيلي» على مصر عام 1956، هو «دليلٌ» على أنّ الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية لم تنهارا ولم تتراجعا، والتوازن الدولي لم يتغير... وكان سيكفينا، لو قلنا بهذا الدليل، أن ننتظر بضعة أيامٍ فقط بعد بداية العدوان لنعرف أنّ «الدليل» إياه ليس دليلاً.
2- إنّ عمليات القمع والإجرام الكبرى التي ارتكبها الفرنسيون في الجزائر، وخاصة تلك بين عامي 1959 و1961، والتي أوقعت خلال عامين عشرات آلاف الشهداء، هي «دليلٌ» على أنّ التوازن الدولي كان ما يزال في مصلحة الفرنسيين! وفي هذه الحالة أيضاً، كان يكفي الانتظار عاماً إضافياً، حتى تموز 1962، لكي تستقل الجزائر وليظهر أيضاً أن «الدليل» إياه ليس دليلاً.
يمكننا أن نتابع في سرد الأمثلة في فيتنام وفي الصين مع الاستعمار الياباني، وفي مصر نفسها مع الاستعمار البريطاني، وغيرها من الأمثلة. والتي تدل جميعها على أنّ مستوى إجرام الاحتلال ليس دليلاً على طبيعة التوازن الدولي واتجاهاته، بل وفي كثير من الأحيان، فإنّ ازدياد مستوى الإجرام الاستعماري يكون دليلاً على تراجعه وتراجع وزنه دولياً وليس العكس.
وإذاً، وبعيداً عن المقاييس والأدلة الشكلانية، فإنّ قياس وفهم التوازن الدولي في اللحظة التي نعيشها، هو أمر بالغ الأهمية في تحديد تموضعنا والمهام التي على عاتقنا، والإمكانيات الفعلية التي بين أيدينا...
وبما يتعلق بفلسطين بشكل مباشر، فلنتذكر الحقيقة الواضحة التالية؛ قيام الكيان الصهيوني واستمراره، كاستعمار استيطاني وكقاعدة غربية في قلب منطقتنا، ارتبط عضوياً بتوازنٍ دوليٍ محدد سادت فيه تدريجياً، ثم كلياً، منظومة بريتين وودز، منظومة الاستعمار الجديد الاقتصادي.
وإذا كان بين نتائج الحرب العالمية الثانية وانتصار الاتحاد السوفياتي في حينه، ونضال حركات التحرر الوطني في بلدان الجنوب العالمي، أن تم فتح الباب أمام التحرر من الاستعمار التقليدي، وخاصة البريطاني والفرنسي، فإننا اليوم أمام انعطافٍ تاريخي جديدٍ تتم فيه محاصرة الاستعمار الجديد الاقتصادي، ومنظومات تبادله اللامتكافئ بشكلٍ تدريجي وسريع. وهذا ما نراه بأعيننا في أفريقيا وفي أمريكا اللاتينية وفي منطقتنا أيضاً، عبر بريكس وأوبك+ وعبر الحزام والطريق والمشروع الأوراسي وغيرها من المبادرات والمشاريع التي تتقدم على حساب الأمريكي والصهيوني بشكل يومي.
الظروف العالمية التي نعيشها، ليست ظروف «تصفية القضية الفلسطينية»، وليست ظروف «منع تصفية القضية الفلسطينية»، بل هي ظروف التحضير النهائي لحل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً وشاملاً على أساس القرارات الدولية، وعلى أساس تصفية صهيونية الكيان وعنصريته. هذا هو الأفق الفعلي أمامنا، وتخفيض السقف دونه ليس «عقلانيةً»، بل تصرفاً بعقلية الهزيمة في عصرٍ انفتحت فيه إمكانية تحقيق الانتصارات الفعلية... وربما ليس مفاجئاً، أنّ «عقلانيي» اليوم، هم أنفسهم من كانوا يرفعون «الشعارات الكبرى» في عصر التراجعات والهزائم!