التنوع في سورية حاضراً ومستقبلاً... «الهيمنة» و«نظرية المزهرية»! (1/2)

التنوع في سورية حاضراً ومستقبلاً... «الهيمنة» و«نظرية المزهرية»! (1/2)

لدى التعامل مع مسائل التنوع في سورية، سواء كان الحديث هو عن التنوع القومي أو الديني أو الطائفي أو العشائري وإلخ، فإنّ هنالك نموذجين رائجين؛ الأول: هو ذاك الذي تعبر عنه بشكلٍ مكثّف عبارة «إنجيل يعانق قرآن، طائفية ما عنا». ورغم أنّ هذه العبارة التي وردت في إحدى الأغنيات التي ظهرت خلال الأزمة، مخصصة للفكرتين الدينية والطائفية، إلا أنها تعبّر عن منطقٍ عام في التعاطي مع كل مسائل التنوع، وهو المنطق القائل: «ليست هنالك مشكلة من الأساس». النموذج الثاني: هو النقيض الشكلي للأول، ويقول عكس ما يقوله تماماً؛ وباختصار فهو لا يقول: «ليست هنالك مشكلة من الأساس»، وإنما يقول: «هذا هو أساس كلّ المشكلة»؛ أي أنّ ما يسميه «طائفية النظام وتعصبه القومي وإلخ» هو المشكلة، كلّ المشكلة، وما بقي من مشاكل إنما يتفّرع عنها...

نقول: إنّ الثاني هو النقيض الشكلي للأول، لأننا نعتقد أنهما ليسا نقيضين جذريين بأية صورة من الصور، بل هما مشتقان من جوهرٍ واحد، ويعبران عن مصالح متشابهة وعن عقلية متشابهة، وعن أهدافٍ وغايات ورؤى مستقبلية متشابهة، وهذا ما سنناقشه تالياً، وصولاً إلى وضع تصورٍ أولي شديد العمومية عن النموذج المناقض جذرياً لكلا النموذجين، والذي نزعم أنّ استكمال صياغته أمرٌ ضروري ضرورة قصوى في سياق عملية الحل السياسي، وفي سياق إعادة سورية إلى الحياة...

الجوهر المشترك

الجوهر الذي يشترك فيه كلٌ من النظام القائم، والقسم من معارضته المدعوم غربياً وفي واجهته «الإخوان»، والذي يعبّران عنه ببرامجهم وبممارساتهم وسياساتهم الفعلية، يتلخص في ثلاث:

أولاً: نموذج اقتصادي- اجتماعي ليبرالي، مرتبط بالغرب صميمياً، وقائم على: أ- ضرب قطاعات الإنتاج الحقيقي. ب- تضخّم القطاعات الخدمية، وخاصة المالية. ج- الارتباط بالمنظومة المالية العالمية بمركزها الدولاري. د- الإضعاف المطّرد للدور الاقتصادي- الاجتماعي للدولة. هـ- تبادل غير متكافئ لمصلحة الغرب يتضمن تبعية تكنولوجية وهجرة عقول. و- توزيع جائر للثروة إلى حد التوحش، يصب في مصلحة قلة اقتصادية عابرة للقوميات والأديان والطوائف، وضد مصلحة الغالبية العظمى من السوريين، العابرة أيضاً للقوميات والأديان والطوائف.

ثانياً: نموذج سياسي- أمني يشكل الأداة الضرورية للحفاظ على النموذج الاقتصادي-الاجتماعي الناهب؛ فحين يكون الجوهر الاقتصادي قائماً على توزيع متوحش للثروة، فإنّ النموذج السياسي الأمني ينبغي أن يعمل للحفاظ على هذا التوزيع، ولمنع تشكّل أي احتجاجٍ منظمٍ ضده. وهذا يتطلب منطقاً محدداً في التعامل مع المسألة الحزبية على العموم، ويتطلب سجوناً وسجانين وهراوات وأسلحة... أي قوة صلبة ويداً حديدية، ومركزة عالية للقرار وللسلطة وللسياسة ككل.

ثالثاً: نموذج سياسي- ثقافي وظيفته استكمال القوة الصلبة بالقوة الناعمة؛ أي المزاوجة بين الأداتين اللتين لا بد منهما لأيّ حُكمٍ كان، وأياً تكن هويته، وهما: (القمع والتراضي). وحديثنا هنا (عن مسائل التنوع وكيفية التعاطي معها) إنما يندرج بالضبط تحت هذا البند الأخير، التراضي، أي تحت بند النموذج السياسي- الثقافي؛ ولذا لن نحاول اختصاره ببضع كلمات هنا، بل سنترك الاستفاضة فيه للفقرات التالية.
قبل عدة أعوام، أو حتى قبل عقدين من الزمن تقريباً، كان من الممكن أن يقارن المرء بين السلوك الفعلي والنظري للنظام، وبين البرامج والطروحات النظرية للمعارضة؛ إذْ لم تكن المعارضة بمختلف أشكالها قد «دخلت في التجربة» في حينه، وكان يمكنها أن تقول فقط دون أنْ يتاح لها هي نفسها، أو للناس، اختبار مصداقية ما تقول. رغم ذلك، فإنّ القسم من المعارضة المدعوم غربياً، كان قد عبّر بما يكفي من الوضوح عن النموذج الاقتصادي الاجتماعي الذي ينشده. يمكن الرجوع مثلاً إلى برنامج «الإخوان» المنشور عام 2005، والذي بيّن بأشد وضوح ممكن، أنّ المطلوب هو «اقتصاد سوق حر»، واختيار عام 2005 لنشر هذا التوجه لم يكن مصادفة فيما نعتقد، بتزامنه مع إعلان النظام عن التوجه نحو ما أسماه «اقتصاد السوق الاجتماعي» والذي سرعان ما جرى فكّ طلاسمه ليتكشّفَ عن اقتصاد سوقٍ حُرّ هو الآخر، من النمط الذي يحقق الصفات الست التي أتينا على ذكرها في أولاً ضمن هذه الفقرة. وكانت مادة سابقة في قاسيون قد وقفت عند هذه المسألة بالذات، أي: («مصادفة» عام 2005 بين «الاقتصاد الحر» و«اقتصاد السوق الاجتماعي»).
وإذاً، فإنّه إذا كان ممكناً قبل أعوامٍ المقارنة بين النظري والعملي عند النظام من جهة، والنظري فقط عند المعارضة من جهة أخرى، فالآن، وبعد أن جرى ما جرى خلال السنوات الماضية، وبعد أن تمكنت أقسام من المعارضة المدعومة غربياً أن تأخذ بيدها السلطة في مناطق معينة من سورية، بات من الممكن عقد مقارنة شاملة، في الطرح النظري وفي الممارسة العملية في آنٍ معاً.
الحقيقة، أنّ الممارسة العملية و«التجربة»، لم تأتِ بأي جديدٍ غير متوقع؛ فأولئك المرتبطون بالغرب، والسائرون على نهج التبعية الاقتصادية تحت مسمى الاقتصاد الحر، أو اقتصاد السوق أو إلخ، قد مارسوا بالمعنى العملي الممارسات نفسها من حيث الجوهر، وفي كل المجالات، وضمناً في النموذج السياسي- الأمني، بما في ذلك من قمعٍ وسجونٍ وما إلى هنالك. ومارسوا أيضاً الممارسات نفسها من حيث الجوهر في النموذج السياسي- الثقافي المطلوب لتخديم النهب ولتخديم التوزيع المتوحش للثروة.
الجوهر المشترك إذاً، هو أنّ هنالك لدى المتشددين والناهبين في كلٍ من النظام والمعارضة، العقلية الاقتصادية- الاجتماعية- السياسية- الثقافية نفسها، والتي تتمحور حول مركزة الثروة والسلطة في أيدي قلة قليلة هي مرة أخرى: عابرة للقوميات والأديان والطوائف وإلخ، وعلى حساب البلاد وأهلها.
كل الكلام السابق، هو تمهيدٌ ومدخل، نعتقد أنّه ضروري لمعالجة الجانب السياسي- الثقافي من المسألة، والذي سنبدأ بتناوله تالياً.

الهيمنة الخلويّة

أول من استخدم مصطلحات «الهيمنة الخلويّة» و«الحرب الخلويّة» و«حرب الحركة» و«حرب المواقع»، هو المفكر الإيطالي الراحل أنطونيو غرامشي. ولن نثقل على القارئ بعرضٍ نظري حول هذه المصطلحات، ولكنْ أشرنا إلى غرامشي اعترافاً بأصل نظري أساسيٍ نستند إليه في المعالجة التي نحاول تقديمها للمسألة موضع الدرس.
جوهر الفكرة بشكلٍ مبسط، هو التالي: ضمن تشكيلة اقتصادية اجتماعية طبقية، أي ضمن مجتمع غير عادلٍ اقتصادياً- اجتماعياً، فإنّ السلطة الحاكمة تحتاج بشكل مستمر، ليس فقط إلى السيطرة على المجتمع (السيطرة عند غرامشي كناية عن التحكم باستخدام القوة الصلبة)، ولكن أيضاً إلى الهيمنة عليه (وهذه كناية عن التحكم باستخدام القوة الناعمة: كل الجوانب الثقافية والأيديولوجية والفكرية). أكثر من ذلك، فإنّ غرامشي يرى أنّ الاتجاه الموضوعي لتطور الصراع يجعل من الهيمنة أكثر أهمية بما لا يقاس من السيطرة؛ فأدوات القمع المباشر تقوّضها مع الوقت نضالات الشعوب، وما تفرزه من قوانين وأعراف وتقاليد وإلخ، وكذلك فإنّ التطور الطبيعي للقوى المنتجة ولعلاقات الإنتاج ضمن المنظومة الرأسمالية، يتطلب توسيع نطاق «الحريات الشكلية» للمجتمع، وتضييق نطاق الحريات الاقتصادية- الاجتماعية والسياسية في الوقت نفسه.
بالملموس، فإنّ الهيمنة تتطلب تذرير المجتمع، أي تفتيته بكل وسيلة ممكنة، بحيث لا يعود قادراً على مقاومة عملية نهبه. وعملية التذرير هذه تبدأ من تحويل التمايزات الطبيعية ضمن أي مجتمع إلى صراعات غير قابلة للحل؛ صراع بين الرجال والنساء، صراع بين القوميات، بين الأديان، الطوائف، العشائر، وصولاً إلى «حرب الجميع ضد الجميع».
حينها، تتحول السلطة شكلياً، إلى «القاضي» الذي يسوي الصراعات ويضبطها ويعاقب المعتدين، ويتعالى فوق المجتمع ككل. وبكلمة تصبح السلطة، وبالأحرى الطبقة الناهبة، هي الخصم والحكم والهراوة، في آنٍ واحد.

1108-17

الممارسة الفعلية

لندع الكلام النظري جانباً، ولننظر في الوقائع:
تقوم الدعاية السياسية- الثقافية للنظام على فكرة، أنّه ليست هنالك في سورية مشكلات طائفية أو قومية أو دينية، ولكن في الوقت نفسه، فإنها تستحضر في كل مناسبة ممكنة «اللوحة الفسيفسائية» بكل مكوناتها، وبشكلٍ استعراضي مفضوح يدل على وجود المشكلة أكثر حتى من الصمت عنها.
وربما أهم من ذلك، أنّ السوريين يعرفون تماماً، أنّ الممارسة العملية، (بما في ذلك ما يتعلق بمجلس الشعب، والبلديات وغيرها من المناصب المختلفة في الدولة)، تأخذ بعين الاعتبار، بشكل مدروس وغير معلن، توزيعاً محدداً بالمعنى الطائفي والقومي والديني والعشائري وإلخ... وبطبيعة الحال، فإنّ أولئك الذين يجري تصديرهم نحو هذه المناصب، ضمن وصفٍ ضمنيٍ بأنهم «ممثلو مكوناتهم»، هم في الحقيقة، وفي الغالبية العظمى من الحالات، ممثلو الطبقة الحاكمة، وممثلو مصالحها، وممثلون على المكونات التي ينتمون إليها، وفي الغالب هم نوعية محددة من «الوجهاء» لا تختلف في علاقتها مع الناس ومع السلطة بشكلٍ جوهريٍ، عن «الوجهاء» أيام الإقطاع والاحتلالات الأجنبية في علاقتهم مع الناس ومع السلطات، بل إنّ التمحيص بالأسماء يكشف أنّ قسماً غير قليلٍ من هؤلاء هم خلف أولئك، ليس في الوظيفة والموقع الاجتماعي فقط، بل وخلفهم البيولوجي المباشر أيضاً!
على الضفة المقابلة، أي ضفة القسم من المعارضة المدعوم غربياً، فإنّ اللوحة لا تكاد تختلف عنها عند النظام، سوى في أنّ «عملية التوزيع» ليست مضمرةً بل معلنة إلى هذا الحد أو ذاك. وهذا «التوزيع» هو الآخر ينهج النهج نفسه، حيث يكون «الممثلون» ممثلين على المكونات التي يجري القول: إنهم يمثلونها، وممثلون في الحقيقة لمصالحهم ولمصالح السلطات الحاكمة.

ثلاث شيفرات

جوهر المسألة، أنّ الطبقات الناهبة، ولأنّ مصلحتها هي في النهب وفي استمراره وتدعيمه، ليست قادرةً بأية حالٍ من الأحوال على استرضاءٍ طويل الأمد للسواد الأعظم من المجتمع، ولذا ينبغي أن تلجأ لقمعه من جانب، والضحك عليه عملياً من الجانب الآخر؛ أي عبر حرف وعيه عن الصراع الأساسي المتعلق بالمصالح الاقتصادية والاجتماعية، نحو الصراعات الثانوية حول القومية والطائفة والدين، وربما حتى البيئة والهوية الجندرية وإلخ. وإدخاله في صراعات بينية وإدارة تلك الصراعات، وخاصة عبر الإيحاء بتمثيل الجميع، بينما يتم التمثيل على الجميع...
وفي إطار هذه العملية، وفي الخصوصية السورية، تظهر ثلاث شيفرات يجري استخدامها بشكل مستمر ومكثف، تبدو من حيث الظاهر محقةً إلى هذا الحد أو ذاك، ولكن يجري توظيفها بعكس ما توحي به، وهي:

أولاً: الأكثرية والأقلية

و(نقتبس فيما يلي من مادة سبق أن نشرت في قاسيون): أوضح وأبسطُ استخدامٍ لمقولتي «أكثرية» و«أقلية»، هو ذلك الذي يقسّم الشعب السوري على أساس قومي أو ديني أو طائفي، ويحوّله انطلاقاً من ذلك إلى «أكثريات» و«أقليات».
أحد استهدافات هذه العملية، هو أنّ جهاتٍ سياسية بعينها، ضمن النظام وضمن المعارضة، وبشكل علني أو من تحت الطاولة، تستخدم توصيفات «الأكثرية» و«الأقلية»، القومية تارة والدينية الطائفية تارة أخرى، لغرض أساسي هو ادعاء تمثيل ملايين من السوريين (ودون استشارتهم)، بل وتقديم صورة المدافع والمحامي عنهم. وضد من؟ ضد «الأقلية» أو «الأكثرية» المقابلة!
يتضمن هذا النوع من التقسيم توصيفاً كاذباً لحقيقة الصراع الذي جرى- ولا يزال- في البلاد؛ فيقدم كلٌّ من الممثلين المفترضين لـ«الأقليات» و«الأكثريات»، رواية للحدث السوري، تناسب مآربه السياسية، وتتضمن تلك الرواية عادة ثلاثة عناصر متكاملة:
القول بمظلومية فئة بعينها، هي بالضرورة فئة قومية أو دينية أو طائفية...
إنكار وجود مظلوميات مقابلة أو التقليل من شأنها.
نسب الظلم الواقع على الفئة المعنية إلى فئة مقابلة «قومية أو دينية أو طائفية».
وقد عززت- من إمكانات انزلاق أعداد من السوريين نحو الاقتناع بهذه التقسيمات- عمليات العنف والقمع والقتل والدماء الكثيرة التي سالت، بالتوازي مع عمليات التحريض الداخلي والخارجي التي مورست طوال سنوات...
هذا كله، له بكل تأكيد آثاره السلبية التي تسمح حتى الآن بالاستثمار الدنيء في هذا النوع من الانقسامات الوهمية، التي لا تفعل سوى أنها تقسّم الفقراء والمنهوبين السوريين بين الجبهات ليتحارب بهم «الكبار»، بدمائهم وعذاباتهم، لإعادة تقسيم النهب مع بقاء المنهوبين منهوبين...
هنالك مستوى آخر في الحديث عن «الأكثرية» و«الأقلية» هو ذاك المتعلق بالانتخابات وبالعملية الديمقراطية على العموم.
المقصود، هو أنّ نتائج الانتخابات، والبرلمانية خاصة، تؤدي إلى تشكل أكثرية نيابية وأقليات نيابية، ويعتبر هذا الأمر صحيّاً تماماً، بل ومثالياً، ويجري تقديمه بوصفه أحد عناصر الدواء الشافي للمأساة السورية، وخاصة لحالة تقسيم الأمر الواقع القائمة... والمقصود طبعاً، هو أول انتخابات حرة بعد تشكيل جسم الحكم الانتقالي، وهو الأمر الذي لا يخلو من صحة، ولكن لا يخلو أيضاً من مخاطر كبرى، إنْ سلّمنا مسبقاً بأنه سيتحول بذاته إلى رافع للوحدة الوطنية وللهوية الوطنية...
الفرز الحقيقي، هو بين أكثرية ساحقة مسحوقة من المنهوبين تتجاوز 90% من السوريين، وتتوزع على مختلف الطوائف والقوميات والأديان والانتماءات السياسية الآنية، وبين أقلية ناهبة هي أقل من 10% من السوريين، وتتوزع هي الأخرى على مختلف الطوائف والقوميات والأديان والانتماءات السياسية الآنية (وضمناً نظام ومعارضة).
وبكلمة، فإنّ الحديث عن «أكثرية وأقلية» والذي يبدو مشروعاً بالمعنى السياسي، يتحول إلى شيفرة يجري تحتها تغطية الكلام الطائفي والديني والقومي، الذي يصب في مصلحة «الأقلية الاقتصادية» العابرة لكل الانتماءات، سواء التي في النظام، أو في المعارضة.

ثانياً: اللامركزية

رغم أحقية الحديث عن المركزية واللامركزية وضرورة صياغة علاقة جديدة بينهما تناسب الاحتياجات الفعلية لتطور سورية ولتطور قوى الإنتاج فيها، وبما يضمن أخذ الشعب السلطة بيده على المستويات المختلفة من أعلاها إلى أدناها وبالعكس، إلا أنّ هذا الشعار نفسه يجري تحويله في كثير من الأحيان إلى مجرد غطاءٍ لمحاولات هيمنة، سواء مستجدة أو قديمة، محاولات يجري تقديم قوى وأشخاص فيها بوصفهم ممثلين «طبيعيين» لمكونات بعينها، دون أن يجري سؤال هذه المكونات، وبالتالي بوصفهم زعماء تلك المكونات التي ينبغي أن تأخذ حصتها من تقسيم الكعكة...
ولنقاش أوسع لهذه «الشيفرة»، وخاصة حين عزلها عن المركزية، نحيل القارئ لمادة مفصلة حول الموضوع، نشرها مركز دراسات قاسيون، في آب 2022 بعنوان «بين مركزية القهر ومركزية التراضي ولامركزية الفوضى ولامركزية سلطة الشعب».

ثالثاً: «سورية أولاً»

ربما بين أعقد الشيفرات، تلك التي يجري ترميزها بشعار «سورية أولاً»، والذي يخبئ تحته مضامين تتعلق بالتموضع السياسي والجيوسياسي لسورية بالمعنى الخارجي، ومضامين تتعلق بالداخل السوري، وبالمجتمع السوري في الوقت نفسه.
ورغم أنّ الشعار يبدو «جميلاً» من حيث ظاهره، إلا أنّ جوهره معاكس تماماً؛ فالقول: إنّ «سورية أولاً» يعني ضمناً أنها لم تكن كذلك، وأنّ السياسة في سورية كانت قائمة لتخديم مصالح ليست مصلحة سورية في مقدمتها، بل مصالح خارجية ما... وهذا يمكن أن يعني أنّ تموضع سورية السياسي والجيوسياسي ينبغي أن ينطلق من «مصالح بحتة» لا علاقة لها بالمبادئ والاصطفافات ضمن المعارك الكبرى (رغم أنّه لا فرق عملياً بين هذه وتلك حين الحديث عن مصالح الشعوب، ولكن هنالك الفرق كل الفرق حين الحديث عن مصالح النخب والفئات الناهبة).
بكلامٍ أوضح، يمكن أن يعني شعار «سورية أولاً» كلاماً إضافياً هو «وليس فلسطين، وليس العالم العربي، وليس الشعوب الإسلامية، وليس شعوب العالم الثالث».. وإلخ. بطبيعة الحال، ليس المطلوب بالمقابل هو أن تكون أي من هذه الأمور أولاً وقبل سورية نفسها، ولكن أولئك الذين يقولون «سورية أولاً».. «وليس فلسطين»، لا يقصدون بأنّ فلسطين يجب أن تأتي ثانياً، بل يقصدون أن فلسطين لا يجب أن تكون في القائمة من الأساس، وأنّ وجودها في القائمة هو المشكلة.
أضف إلى ذلك، أنّ القول بـ«سورية أولاً»، يتضمن: «وليس الاتجاهات لا الماركسية ولا القومية العربية ولا الإسلامية الشعبية» التي ترى سورية بارتباطها بمحيط أوسع، هو المحيط الطبيعي والموضوعي لوجودها. أي ضمناً، المطلوب ألا تكون في سورية الاتجاهات الأساسية للعمل السياسي الوطني، التي ورغم اختلافاتها، إلا أنها كانت بمجموعها الحامل السياسي لمرحلة الاستقلال، ولقسم مهم من حياة سورية ما بعده، ومن هوية سورية وهوية السوريين... المطلوب سورية بلا جذورها وبلا التيارات السياسية والفكرية الأساسية التي استخدمها وسيستخدمها السوريون للنضال من أجل مصالحهم داخلياً وخارجياً... المطلوب، تحييد أدواتٍ ووسائل أساسية في تجميع الناس سياسياً على أسس وطنية جامعة، بمقابل تنشيط أفكار «الأقليات والأكثريات» و«اللامركزية» بالشكل الذي أشرنا إليه آنفاً.
يتبع...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1108