«مصادفة» عام 2005 بين «الاقتصاد الحر» و«اقتصاد السوق الاجتماعي»!
تحت ستارٍ كثيفٍ من الادعاءات الإنسانية الطابع، تمارس وسائل الإعلام المحلية والدولية قدراً كبيراً من الانتقائية في تصوير أوضاع الشعب السوري وفقاً لمناطق النفوذ؛ فتسعى لتصوير أحوال منطقة نفوذٍ بعينها (تؤيد من يسيطر عليها سياسياً) على أنها: نعم سيئة، لكن أفضل من بقية المناطق، والحق أنّ مناطق سورية كلها في وضع أكثر من سيئ من كل النواحي، سيئ إلى الحد الذي لا تعود للمقارنات معه أي معنى؛ فهل يغيّر من حقيقة الأمر مثلاً أنّ السوريين في إحدى المناطق هم تحت خط الفقر بمئة درجة، وفي منطقة أخرى بمئة ودرجة؟!
وأما عن أسباب الوضع الكارثي، فهنالك قائمة من التبريرات تتباين وتتقارب وفقاً لكل حالة من الحالات، وأيضاً انطلاقاً من البروباغندا السياسية المطلوب ترويجها؛ ففي مناطق سيطرة النظام، فإنّ العقوبات هي السبب الجامع المانع لكل الأزمات. وفي المناطق نفسها (على لسان وسائل إعلام أخرى)، فإنّ الفساد والتسلط والنهب هو السبب الجامع المانع، ولا دخل للعقوبات لا من قريبٍ ولا بعيد.
وفي المناطق الأخرى من سورية، فالسبب هو سياسات النظام التي تسبب العقوبات! (أي أنّ العقوبات نفسها التي لا تأثير لها، تغدو فجأة مؤثرة). والسبب هو فساد المليشيات المسلحة وحواجزها، ولا شيء آخر... وهكذا.
من الفضائل القليلة لاستمرار الأزمة وتطاولها، أنّ عموم السوريين قد قطعوا شوطاً كبيراً في فهم البروباغندا الخاصة بكل الأطراف «المتصارعة»، وقطعوا شوطاً مهماً في تفسير الأمور على ما هي عليه، فباتت القناعة المشتركة بين غالبية السوريين، وفي كل مناطق وجودهم داخل وخارج وسورية، أنّ المتنفذين من كل الجهات هم سواءٌ في نهاية المطاف بسياساتهم ومواقفهم الحقيقية من سورية نفسها ومن الشعب السوري ككل.
الأساس الاقتصادي- الاجتماعي
عالجت قاسيون وبشكل متكرر، منذ مطلع 2011، بل وفي وثائق الحزب الذي تنطق باسمه منذ 2005، موضوع «الثنائية الوهمية» التي تضع النظام على جانب والمعارضة على جانب مقابل. وقالت: إنّ التناقض بينهما موجود ولا شك، ولكنه تناقض وصراع على السلطة لا على طبيعة النظام.
عام 2005 أصدرت جماعة الإخوان المسلمين في سورية، التي تمت توليتها الزعامة الإعلامية للمعارضة بشكل قسري، وبدعم غربي ابتداءً من 2011، أصدرت برنامجها السياسي والاقتصادي ونشرته. في برنامجها ذاك تتبنى الجماعة «اقتصاد السوق الحر».
في الوقت نفسه، (وللمصادفة التاريخية التي ليست مصادفة كما سنبين)، يجري تبني ما سمي «اقتصاد السوق الاجتماعي» من قبل النظام في سورية، والذي يتضح مع الوقت، أنه هو اقتصاد السوق الحر ذاته.
كلتا التسميتين تعبران عن النموذج نفسه، وهو نموذج التبعية الكاملة للمنظومة المالية والاقتصادية الغربية، (والتي تنتج طال الوقت أم تأخر التبعية السياسية)، وتقوم على الامتثال لتوصيات صندوق النقد والبنك الدوليين، وخاصة في تدمير الدعم وتوسيع الخصخصة والقضاء على القطاع العام، والاستناد إلى قطاعات السياحة والتجارة، وتدمير الإنتاج الصناعي والزراعي. وهذا ما قد بدأ العمل فيه فعلاً طوال سنوات الخطة الخمسية العاشرة، وما أسهم بشكل فاعل في وضع الأساس المادي للانفجار الذي جرى عام 2011.
ليست مصادفة!
بالعودة إلى ذلك التاريخ الذي تم فيه إقرار «اقتصاد السوق الاجتماعي» و«اقتصاد السوق الحر» فيه، أي إلى عام 2005، وبالنظر إلى الظرف السياسي العالمي في حينه، فإنّ مَعلَمه الأكثر وضوحاً كان احتلال أمريكا لأفغانستان والعراق، وتهديدها المستمر بمد احتلالها إلى سورية.
يقول البعض: إنّ التحول الذي جرى في الاقتصاد السوري في حينه كان بمثابة انحناءٍ للعاصفة، هدفه درؤها وإبعاد مخاطرها. ورغم أنّ القاعدة العامة التي أثبتها التاريخ مراراً وتكراراً، هي أنّ «إغضاب المستعمر أسهل من إرضائه»، ورغم أنّ القاعدة الخاصة في التاريخ بالتعامل مع أمريكا قد حددها أحد صناع سياستها التاريخيين، هنري كسينجر، بقوله: «أنْ تكون عدواً لأمريكا قد يكون أمراً خطيراً، لكن أن تكون صديقاً لها فهو أمرٌ قاتل».. رغم ذلك كلّه، فإنّ مصداق استخدام الانحناء الاقتصادي لتفادي العاصفة هو سيرورته، أي ما الذي جرى تبنيه من سياسات مع مرور الوقت؟
الواقع يقول: إنّ المتسلطين والمتنفذين ضمن النظام، ورغم وجود الصراع المعلن والواضح مع أمريكا، ومنذ ذلك الحين وحتى اللحظة، أي طوال 17 عاماً، ما يزالون سائرين في الطريق نفسه، طريق لبرلة الاقتصاد وخصخصته وضرب القطاعات الحيوية فيه، حتى بعد وصول العقوبات الأمريكية إلى مستوى غير مسبوقٍ تاريخياً بالنسبة لسورية. وهذا يسمح بتفسير التزامن بين البرنامجين المعلنين في حينه، أي في 2005 بطريقة مختلفة، بوصفه سباقاً قاده تجارٌ من الضفتين اللتين يطلَق عليهما نظام ومعارضة، سباقاً للاندماج مع المعتدي، وليس لتفادي هجومه، ناهيك عن التصدي له.
ولهذا الأمر أسبابه التطورية الداخلية بطبيعة الحال، والتي سبق أن مرّ عليها مركز دراسات قاسيون في مادة منشورة بتاريخ الرابع من أيلول لهذا العام بعنوان: «تحولات الفساد والنهب في سورية، سياق مستمر عمّقته وسرعته الأزمة».
عودٌ على بدء
ما يراه السوريون اليوم في كل مناطق البلاد، من تغوّل وتوحش ليس في العقوبات والحصار الغربي فحسب، بل ومن قبل «أبناء جلدتهم»، في نهبهم وامتصاص دمائهم، وما يرونه من بطرٍ ورفاهٍ فاق الوصف لدى المتنفذين والحرامية الكبار من كل الأطراف، كلّ ذلك يعيد التأكيد على حقيقة أن التناقض بين «النظام» و«المعارضة»، بشكله القائم، ليس سوى أداةٍ لكلٍ منهما في السيطرة على الناس وفي توجيه غضبها بحيث لا يضر أصحاب الأرباح، بل ويُستثمر لتكبيرها.
التناقض الفعلي هو بين المنهوبين الذين يشكلون أكثر من 90% من السوريين، والذين يصنفون أنفسهم سياسياً بشتى التصنيفات، ولكنّ تصنيفهم الأصدق هو أنهم أبناء الـ90%... التناقض الفعلي هو بينهم وبين أبناء العشرة بالمئة أو أقل، والذي يصنفون هم أيضاً أنفسهم شتى التصنيفات، ويتصارعون فيما بينهم، ولكن جوهر صراعهم ليس متعلقاً بتغيير النظام، بل بتغيير السلطة الحفاظ عليها أو تقاسمها، أي بالاستيلاء على النهب أو تقاسمه.
لأنّ الحركة الشعبية السورية، ورغم كل الصعوبات، بدأت بإطلاق إشارات أنها تتجهز للانفجار مجدداً، فإنّ هذا الكلام ضروري، وتكراره ضروري... وربما الأكثر أهمية هو أنّ المنهوبين في كل سورية، باتوا يدركونه بشكل أكبر من أيّ وقت مضى، ولم يعد من السهل التلاعب بهم عبر لعب الأوراق القومية تارة والطائفية تارةً ثانية، و«السياسية» تارة ثالثة...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1101