التسلل الإماراتي وحماس المُعلّق الأمريكي!
الحدث الرئيسي خلال الأسبوعين الماضيين بما يخص سورية، كان اللقاء الثلاثي لوزراء دفاع سورية وروسيا وتركيا في موسكو. وهذا الحدث بقي طوال هذه الفترة في بؤرة التركيز الإعلامي والسياسي في كل المنابر والدوائر المعنية والمهتمة بالشأن السوري.
وهذا ليس مستغرباً بطبيعة الحال؛ فالمعلوم أنّ هذا اللقاء هو ثمرة عملٍ طويل الأمد من ثلاثي أستانا، وأنه خطوة على مسار ستليه ليست فقط لقاءات على مستوى الخارجية والرئاسية بين تركيا وسورية، بل وأيضاً سيليه وضع الأساس الحقيقي للبدء بتنفيذ الحل السياسي وفق 2254 بشكل كامل، ناهيك عن أنّ التسوية السورية التركية ستقوّض واحدة من أهم الأدوات الأمريكية في التخريب والابتزاز، ونقصد هنا الحصار والعقوبات.
كل هذا طبيعي ومفهوم، ولكنّ ما يبدو مثيراً للريبة والتساؤل، هو أنّه بعد زيارة وزير الخارجية الإماراتي إلى سورية قبل أيامٍ قليلة، بدأت حملة إعلامية وسياسية ضخمة، قادها مسؤولون في الكونغرس وفي الخارجية الأمريكية، «ضد الإمارات»؛ الحملة تهدد الإمارات بالويل والثبور وعظائم الأمور إنْ هي «طبّعت علاقاتها مع الأسد»!؟
ما الجديد؟
أما أنّ الإمارات قد طبعت علاقاتها مع النظام السوري، فهذا أمر قد حدث منذ سنوات، منذ ثلاث سنوات تقريباً. ولم نسمع منذ ذلك الحين وحتى اللحظة تهديدات أمريكية بالحدة التي نسمعها الآن موجهة للإمارات بما يخص عملية التطبيع هذه. وللتذكير فقد شملت عملية التطبيع هذه ليس افتتاح السفارات المتبادل فحسب، بل وأيضاً زيارات متبادلة على أعلى المستويات. وليست الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الإماراتي بالأمر النافر عن مسار واضح ومعلن وقديم؛ أي أنّ فهم الحملة الأمريكية يحتاج إلى تغيير زاوية النظر، ويحتاج إلى تعميقها ووضعها ضمن السياق العام للمتغيرات المتعلقة بسورية والمنطقة.
لا بد من السؤال بداية: ما هي المهمة وراء التطبيع الإماراتي مع سورية، ليس اليوم، بل ومنذ ثلاثة أعوام مضت على الأقل؟
هذا السؤال سبق أنْ أجابت عليه قاسيون مراراً، والجواب باختصار هو التالي: بينما تقوم الولايات المتحدة ومعها «إسرائيل» بالضغط من جهة، فإنّ وظيفة الإمارات ضمن هذا الفريق أن تكون هي الحامل غير المعلن لعروض الصفقات من الجانب الأمريكي و«الإسرائيلي». وكل ذلك تحت شعار عامٍ، هو شعار «الخطوة مقابل خطوة»، والذي لا علاقة له لا بتطبيق 2254 ولا بإنهاء معاناة السوريين، ولا حتى باستعادة الوحدة الجغرافية السياسية لسورية... ولكنّه يخص العمل الأمريكي «الإسرائيلي» على تحويل تقسيم الأمر الواقع إلى تقسيم دائم، والعمل مع كل من يستعد للتعاون لتأريض دور ثلاثي أستانا، ولتكريس «المستنقع» وإطالته، ولمنح المتشددين والفاسدين في الطرفين، هوامش يستطيعون من خلالها القفز على الحبال وابتزاز الأطراف المختلفة، وخاصة أطراف أستانا، والإيحاء بالاستعداد للقفز إلى الحبل الغربي متى تم الضغط عليها.
واليوم؟
اليوم تراجع الوزن الأمريكي أكثر وأكثر في سورية مع تعمّق تفاهمات ثلاثي أستانا، وتراجعت إمكانيات القفز على الحبال أيضاً. ولذلك فإنّ الإمارات فيما نعتقد، ومجدداً، تنفذ مهمة «اقتحامية» موكلة لها من الأطراف المعتادة نفسها.
هدف المهمة يتلخص بالتالي:
الدخول على خط ثلاثي أستانا باسم «العرب». شكل الدخول هو الوسيط والداعم، وهدفه بالحد الأقصى هو التعطيل والتخريب متى استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وخاصة عبر محاولة دعم المتشددين ضد التسوية السورية التركية لدفعهم نحو عنادٍ هدّام، لعل وعسى يتم تخريب العملية.
هدف الحد الأدنى، في حال لم يتم التمكن من تخريب التسوية ومن تعطيل الطريق الذي رسمته أستانا باتجاه تنفيذ 2254، أنْ تكون الإمارات باباً خلفياً للغرب يحاول من خلاله تحسين شروطه ضمن القادم...
لتحقيق أيٍّ من الهدفين، فإنه من المفهوم تماماً، أنه كان لا بد من قنابل دخانٍ أمريكية كثيفة للإيحاء بأنّ الإمارات تشق عصا الطاعة، وأنها تعمل بشكل مستقلٍ عنها وعن «إسرائيل»... ولذا فإنّ دعاية مركزة قد جرى تعميمها خلال الأيام الماضية، تُوحي وكأنما الإمارات قد قلبت الأمور في سورية رأساً على عقب، وكأنما يمكنها أن تفعل أي شيء ذي بال، في حين أنّ وزنها الفعلي هو وزن الريشة في الصراع السوري، ووزنها الحقيقي يتأتى من الوساطة التي تعمل عليها منذ سنوات، ومِمن وراء تلك الوساطة.
كيف سيتعامل ثلاثي أستانا مع هذا التسلل؟
ليس من الصعب على ثلاثي أستانا أن يفهم الدور الحقيقي الذي تحاول الإمارات لعبه، ولكنه مع ذلك لن يقطع مع هذا الدور بشكل تامٍ، ولن يقف في وجهه بشكل حاسم، ليس لأنّه قد يؤدي إلى تفاهم ما مع الغرب حول سورية كما قد يظن البعض؛ لأنّ القناعة المشتركة اليوم بين روسيا وإيران وتركيا أنّ الغرب لا يريد التفاهم لا في سورية ولا في أية نقطة أخرى حول العالم، ولا مصلحة له بأيّ تفاهم، وكل من يسعى أو ينتظر تفاهماً معه، سيكون شأنه شأن من انتظر تطبيق اتفاقيات مينسك لمدة ثماني سنوات، بينما كان الأمريكي والأوروبي يعدان العدة للانقلاب على الاتفاق، وللدفع نحو الحرب.
المنطق الضمني لثلاثي أستانا في التعامل مع التسلل الإماراتي، هو أنه سيتم التغاضي عنه، وربما حتى الترحيب به، طالما لم ينتج عنه أي هدف، أو حتى أي تهديد حقيقي للمرمى.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، فثلاثي أستانا يعلم بشكل يقيني، أنّ استبعاد الولايات المتحدة بشكل ناجح وكامل من الشأن السوري، يتطلب عدة أمور:
تفاهم عميق بين أطراف ثلاثي أستانا وحول كل القضايا الأساسية بما يخص سورية.
المضي بالتسوية السورية التركية إلى الحد الأدنى الكافي لكسر العقوبات والحصار الغربي، ولوضع الأساس القانوني والسياسي لعملية إعادة توحيد الجغرافيا السورية لاحقاً.
ضمان دورٍ للصين تحديداً، وربما الهند أيضاً، في خلفية المشهد، حين الوصول إلى مرحلة إعادة الإعمار.
ضمان موافقة (أوعلى الأقل عدم اعتراض) الدول العربية الأساسية؛ وهنا نتحدث عن السعودية، وعن مصر بشكل أساسي.
بهذا المعنى، يمكن الاستفادة من التسلل الإماراتي وقلبه على الدافعين باتجاهه، عبر تحويله إلى مدخل إضافي لتحقيق التطويق الكامل المطلوب، عبر العناصر الأربعة السابقة...
عاملان إضافيان
يضاف إلى كل ما سبق عاملان أساسيان في فهم الأمور، لا يجوز إهمالهما بحالٍ من الأحوال:
العامل الأول: هو أنّ كل الدول تقريباً، واستجابة للتغيرات الفعلية في موازين القوى الدولية، فإنها تبحث عن آلياتٍ لإعادة التموضع بما يتناسب مع العالم الجديد، الذي تتضح معالمه أكثر فأكثر؛ والإمارات نفسها، ورغم دورها وتموضعها التاريخي المعروف، بما فيه عبر اتفاقات التطبيع سيئة الذكر، إلا أنها تواصل تعميق علاقاتها بكل من الصين وروسيا، وحتى أنها قد بدأت بتسوية علاقاتها مع تركيا، وبفتح الباب نحو تسوية علاقاتها لاحقاً مع إيران. وهذا يعني: أنّ التموضع القلق الراهن للإمارات، ورغم وضوح أغراضه الآنية، إلا أنه يمكن أن يتم احتواؤه وتحويله نحو ضفة أخرى مع الزمن.
العامل الثاني: هو أنّه لا يمكن الاستهانة إطلاقاً بقدرة الغربيين والأمريكان على التخريب، وعلى العمل ضد ثلاثي أستانا، وضد الطريق نحو تطبيق 2254، ولذلك فإنّ الاحتواء التدريجي للأدوار الغربية، وباستخدام الإمارات ضمناً إنْ تطلب الأمر، هو أمرٌ لا بد منه لتذليل العقبات المتعددة، التي لا بد أن تنشأ، ولا بد أنها ستُخلق على طريق الوصول نحو تنفيذ 2254 ونحو إنهاء حالة الخراب في مجمل منطقتنا...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1104