«الكبتاغون»... النسخة المعاصرة من «قيصر»... والهدف تكريس الفوضى والعمل ضد أستانا!
قبل أية كلمة عن قانون العقوبات الجديد وغاياته، ينبغي التذكير أنّ الرعاية الأمريكية لتجارة المخدرات في أمريكا الجنوبية وفي أفغانستان وفي أماكن أخرى من العالم، هي أمرٌ مثبت ليس بالوقائع السياسية فحسب، بل وباعترافات المسؤولين الأمريكيين؛ ولعل أبرزها تلك الخاصة بدور المخابرات المركزية الأمريكية في تجارة المخدرات في كولومبيا، وتمويل نفسها وعملياتها القذرة من تلك التجارة. وكذلك فإنّه تحت الاحتلال الأمريكي بالذات، تحوّلت أفغانستان من إنتاج 5-10% من الأفيون العالمي، إلى إنتاج 90% منه...
ربما هذه المقدمة ضرورية لتحييد الادعاءات الكلامية الفارغة للأمريكان وأتباعهم، ولمحاولة فهم ماذا يريد الأمريكان حقاً من فرض قانون كهذا، وفي توقيت كهذا..
وقّع الرئيس الأمريكي، بايدن، في الثالث والعشرين من الشهر الماضي كانون الأول 2022 قانون إقرار الدفاع الوطني لعام 2023، وهو قانون فيدرالي للولايات المتحدة، يحدد ميزانية ونفقات وزارة الدفاع الأمريكية لكل سنة مالية ويصدر سنوياً. ويشمل القانون كل عام عدداً من الأحكام والقوانين التي يتم إقرارها تحت عناوين فرعية واسعة النطاق، ترتبط ليس بوزارة الدفاع فحسب، بل وأيضاً بوزارات أخرى، مثل: وزارة الخارجية ووزارة الأمن الداخلي وأجهزة الاستخبارات. وشملت نسخة القانون لعام 2023، ما يسمى بـ «قانون الكبتاغون»، تحت الباب 1238، بعنوان «الاستراتيجية بين الوكالات لتعطيل وتفكيك إنتاج المخدرات والإتجار بها، والشبكات ذات الصلة المرتبطة بنظام بشار الأسد في سورية»، وأتى ذلك تحت العنوان الفرعي: «الأمور المتعلقة بسورية والعراق وإيران». ومن الجدير بالذكر قبل الخوض بتفاصيل هذا «القانون»، أن ما يسمى بـ «قانون قيصر» كان أيضاً جزءاً من قانون إقرار الدفاع الوطني في نسخته السنوية لعام 2020.
ماذا يقول «قانون الكبتاغون»؟
نص القانون ليس طويلاً، لذلك فإنّ ما سنورده منه تالياً، يشمل تقريباً كل ما ورد فيه، والذي يبدأ بالمغزى لدى الكونغرس من وضع القانون، حيث يقول في بدايته: إنه في تقدير الكونغرس، فإن «تجارة الكبتاغون المرتبطة بنظام بشار الأسد في سورية تشكل تهديداً أمنياً عابراً للحدود؛ ويجب على الولايات المتحدة تطوير وتنفيذ استراتيجية مشتركة بين الوكالات، لمنع وتجريد وتفكيك شبكات إنتاج المخدرات والإتجار بها المرتبطة بالأسد».
وينص القانون على الاستراتيجية المطلوبة، والتي تحدد أنه «في موعد لا يتجاوز 180 يوماً بعد تاريخ سن القانون» يتوجب على وزير الخارجية بالتشاور مع بعض المسؤولين الذين يحددهم القانون «تقديم استراتيجية مكتوبة– مع ملحق سري، إذا لزم الأمر– إلى لجان الكونغرس المناسبة، لتعطيل وتفكيك إنتاج وتهريب المخدرات والشبكات ذات الصلة المرتبطة بنظام الأسد في سورية». ووفق القانون يجب أن تشمل الاستراتيجية ستة أشياء:
«أ- خطة مفصلة لـ: (1) استهداف وتعطيل وتفكيك الشبكات التي تدعم بشكل مباشر وغير مباشر البنية التحتية للمخدرات التابعة لنظام الأسد، لا سيما من خلال الدعم الدبلوماسي والاستخباراتي لتحقيقات إنفاذ القانون؛ و (2) بناء قدرات مكافحة المخدرات للبلدان الشريكة من خلال المساعدة والتدريب لخدمات إنفاذ القانون في البلدان (عدا عن سورية) التي تتلقى أو تنتقل عبرها كميات كبيرة من الكبتاغون؛
ب- (1) تحديد البلدان التي تتلقى أو تنتقل عبرها كميات كبيرة من الكبتاغون؛ (2) تقييم قدرة هذه البلدان في مجال مكافحة المخدرات لاعتراض أو تعطيل تهريب الكبتاغون؛ (3) تقييم المساعدة وبرامج التدريب الحالية التي تقدمها الولايات المتحدة لبناء مثل هذه القدرات في هذه البلدان؛
ج- استخدام العقوبات، بما في ذلك العقوبات بموجب قانون قيصر... والإجراءات ذات الصلة لاستهداف-بشكل مباشر أو غير مباشر- الأفراد والجهات المرتبطة بالبنية التحتية للمخدرات التابعة لنظام الأسد؛
د- استخدام العلاقات الدبلوماسية الدولية المرتبطة بحملة الضغط الاقتصادي ضد نظام الأسد، لاستهداف بنيته التحتية الخاصة بالمخدرات؛
هـ- الاستفادة من المؤسسات المتعددة الأطراف والتعاون مع الشركاء الدوليين لتعطيل البنية التحتية للمخدرات التابعة لنظام الأسد؛
و- تنظيم حملة إعلامية عامة لزيادة الوعي بمدى ارتباط نظام الأسد بتجارة المخدرات المحظورة».
"القانون لا يمكنه أن يكون أداة في وقف إنتاج الكبتاغون بل على العكس تماماً سيؤدي إلى زيادة إنتاجه لتعويض أية خسائر ناجمة عن المصادرات التي يمكن أن تحصل"
حملة ضخمة للدفع بالقانون
كان عضو مجلس النواب الأمريكي، فرينش هيل، من المساهمين الأساسيين في وضع مسودة هذا القانون، وكان قد قال حول الموضوع: إن الكبتاغون وصل إلى أوروبا، ووصوله إلى أمريكا هو مجرد مسألة وقت. وقال هيل حول القانون الذي ساهم فيه: «أنا فخور بهذا الإنجاز، وسأواصل العمل بلا كلل لمنع نظام الأسد من تعزيز نفوذه والانتشار الدولي للكبتاغون». وكان هيل قد وقع على رسالة في تموز 2022 وجهها لوزير الخارجية الأمريكي، بلينكين، حول ضرورة تضمين «قانون الكبتاغون» في قانون إقرار الدفاع الوطني، الأمر الذي لم يحصل في نسخة القانون لعام 2022، وقال في الرسالة: «تُعتبر تجارة الكبتاغون أحد أسباب عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، ولها آثار سلبية على الأمن القومي للولايات المتحدة وحلفائها وشركائها». وكان هيل قد عبّر عن خيبة أمله عندما لم يتم تضمين سورية من قبل البيت الأبيض في مذكرة وردت فيها قائمة الدول الأساسية لإنتاج المخدرات أو نقلها، حيث إن القائمة شملت 22 دولة، معظمها في أمريكا الجنوبية أو البحر الكاريبي، أي لها علاقة مباشرة أو على الأقل قريبة جغرافياً من أمريكا، وبعض الدول التي ظهرت على هذه القائمة سابقاً، مثل: أفغانستان والهند وباكستان. لذلك على الأقل حتى منتصف شهر أيلول 2022 لم يكن مخططاً أن تكون سورية ضمن القائمة، ولا أن يكون هذا القانون ضمن قانون إقرار الدفاع الوطني لعام 2023، حسب البيت الأبيض. ومع ذلك لاحقاً تم تضمين هذا القانون، ووقع عليه الرئيس الأمريكي.
وخلال الفترة التي كان يتم العمل فيها على القانون، كان هناك تركيز كبير على الموضوع في الإعلام، وفي مراكز الأبحاث– الغربية، وبالتحديد الأمريكية، وأيضاً جهات إعلامية وبحثية عربية، أو على الأقل شكلياً عربية، ولكن بتمويل على الأغلب يمكن إذا تم النظر فيه أن يوصلنا إلى عنوان في واشنطن. وبالرغم من أن القانون شكلياً بسيط وموجز، إلا أنه بالتأكيد يحمل في طياته ما هو أبعد وأكبر من حجمه، ولذلك رافقته حملة إعلامية ضخمة– غربياً وعربياً.
ما هو تأثير القانون؟
كنقطة بداية، ومن منظور قانوني، فإن هذا القانون فيه الكثير من الكلام العام والفضفاض، وهو خالٍ من أية معايير حقيقية فيها أي وضوح قانوني، ما يعني أنّ سقف الأدوات التي يمكن استعمالها في تنفيذه هو سقف مفتوحٌ، يمكن أن يشمل كل شيء وأي شيء. كما أنه ضمن المعطيات الحالية للقانون، فالدولة السورية لا يمكنها أن تكون شريكة في تنفيذ القانون، كما إن القانون يحدد النظام السوري بوصفه الجهة المتورطة والمستهدفة، لذلك فالقانون فعلياً لا يمكن له أن يكون أداة في وقف إنتاج الكبتاغون، بل يمكنه نظرياً فقط أن يكون أداة في حصار تصدير ذلك الإنتاج، وهذا على العكس تماماً، سيؤدي إلى زيادة الإنتاج لتعويض أية خسائر ناجمة عن المصادرات التي يمكن أن تحصل. وهذا الأمر ليس بالأمر الجديد بما يخص مكافحة الإتجار بالمخدرات؛ بل هو أمر معروف ومختبر بشكل كبير، وفي عدة أماكن في العالم: حين لا يتم إنهاء عملية إنتاج المخدرات في مكان من الأماكن، فإنّ تهريبه سيستمر أياً تكن الجهود المبذولة في المراقبة والتضييق، بل وكلما زادت الرقابة زاد الإنتاج... وذلك كلّه بافتراض أنّ لدى الأمريكان أية نية حقيقية في إيقاف تجارة الكبتاغون، والواقع والتاريخ يقولان: إنّ السلطات الأمريكية وأجهزتها الاستخبارية هي الشريك الأكبر في القسم الأكبر من عمليات الإتجار بالمخدرات حول العالم.
أبعد من ذلك، فإن هذا القانون يعطي الصلاحية لأمريكا لتواجد أكبر في دول الجوار بالدرجة الأولى، والتي ستتعاون مع الولايات المتحدة، ورقابة أمريكية أشد فيما يتعلق بموضوع العقوبات بذريعة مكافحة المخدرات. ووفق القانون، يمكن للولايات المتحدة أن تفرض أية عقوبات تراها ضرورية لاستهداف إنتاج المخدرات، ولا توجد أية ضوابط تمنع الولايات المتحدة من فرض عقوبات كهذه على سورية، أو أية دولة أخرى، أو معايير واضحة لما يمكن أن تكون ذريعة لهذه العقوبات، بما أن الاستهداف يمكن أن يكون مباشراً أو غير مباشر. بكلام آخر، هذا القانون لا يهدف لا من قريب ولا من بعيد لتحسين الوضع في سورية، أو وضع حد لإنتاج وانتشار وتعاطي المخدرات، ولكنه فقط يخدم كذريعة إضافية لتضييق الحصار على سورية، ووقف دخول مواد إضافية لا تغطيها العقوبات الحالية. كما أنه يخدم تشديد الرقابة على دول الجوار لمنعها من أن تكون خياراً في كسر الحصار الخانق على سورية والسوريين.
"يمكن لقانون الكبتاغون أنْ يستخدم كما قانون قيصر من قبله أي كأداة ضمن المشروع المسمى خطوة مقابل خطوة أي بوصفه أداة إضافية في عملية الابتزاز والتفاوض"
التوقيت؟
ربما ينبغي التذكير بأن «قيصر» هو الاسم الرمزي الذي حمله قانون العقوبات الأوسع على سورية، والذي حمل اسم وشعار «حماية المدنيين»؛ والتذكير ضروري لأنّ العقوبات لم تكن ولن تكون لها أية علاقة حقيقية بحماية المدنيين، بل أثبتت أنها أداة سياسية- اقتصادية، تم من خلالها تعميق مأساة السوريين، دون أن تؤثر فعلياً على النظام السوري كما كانت الادعاءات، بل على العكس من ذلك، فإنها فتحت أبواباً عديدة أمام تجار الحرب والمتشددين من كل الأطراف لتكريس نفوذهم على الناس، من خلال توسيع السوق السوداء والإجرامية إلى الحدود القصوى، بحيث باتت هي السوق الأساسية... أي أنّ قانون قيصر قد أسهم بشكل ملموس ليس في تدمير أي اقتصادٍ منتج في سورية فحسب، بل وفي تكريس طابعٍ مافيوي للدورات الاقتصادية في مختلف المناطق السورية.
الآن، ومع قانون «الكبتاغون»، فإنّ الأمر في الجوهر هو نفسه... بعد وقت غير طويل سيصبح واضحاً للجميع، أنّ محاربة تجارة الكبتاغون ليست أكثر من شعارٍ وهمي، شأنها شأن حماية المدنيين في قانون قيصر، بينما الهدف الفعلي هو محاولة توسيع أدوات التحكم الأمريكية ليس في سورية وحدها، ولكن خصوصاً في الدول المجاورة لها، وبالتحديد عبر الأردن ومن ثم العراق؛ حيث ستحاول الولايات المتحدة وعبر هذا القانون وغيره أنْ تلغي مفاعيل عمل ثلاثي أستانا، الذي بات يتحدث بشكل علنيٍ أو شبه علني بأنه ماضٍ ليس فقط في التسوية السورية التركية، بل وأيضاً نحو تطبيق 2254 ونحو حل الأزمة السورية دون مشاركة الأمريكان، وبالرغم منهم إنْ احتاج الأمر ذلك...
يضاف إلى ذلك، أنّ هذا القانون نفسه، يمكنه أنْ يستخدم كما قانون قيصر من قبله، أي كأداة ضمن المشروع المسمى «خطوة مقابل خطوة»، أي بوصفه أداة إضافية في عملية الابتزاز والتفاوض بغرض التحكم بتناسبات القوى داخل سورية وفي محيطها، على أمل تحقيق هدفين، الأول: هو تمديد عملية الاستنزاف قدر الإمكان، والتي بموجبها لا يجري استنزاف وتخريب سورية وحدها، بل وتجري عملية منظمة لاستنزاف كل دول المنطقة لمصلحة الكيان «الإسرائيلي»، وكذلك استنزاف الخصمين الدوليين الأساسيين، أي روسيا والصين بالحد الأدنى عبر منع مشروعهما الاستراتيجي من استكمال تحقيقه: أي الحزام والطريق، والأوراسي... وهما المشروعان اللذان لا يمكن لهما أن يستكملا ما دامت منطقتنا التي تشمل سورية ولبنان والعراق وتركيا وإيران ومعها مصر والسعودية، في حالة من التوتر والاستنزاف والصراعات... واشتعال الأزمة في سورية واستمرارها، بات مدماكاً أساسياً للخراب في هذه المنطقة بأسرها، وربما أخطر من ذلك بالنسبة للأمريكان، أنّ حل الأزمة السورية بالذات، ولأنها باتت نقطة تشابك لمجمل الصراعات القائمة في المنطقة، من شأنه أنْ يقدم مفتاحاً لحلحلة جملة من الأزمات الإقليمية التي يستثمر فيها الأمريكان عبر عقود.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1104