في السويداء: شكلان من الاحتجاج ومشروعان متناقضان!
الهدوء الظاهر على السطح، ليس في السويداء وحدها، بل وفي سورية كلها، ليس استكانة وليس انكساراً لا قومةً بعده، كما يحلو للبعض تصويره وتصوره، بل هو دائماً نارٌ متقدةٌ تحت الرماد، وجاهزة للظهور عند أول سانحة؛ وليس ذلك بالغريب، فموجبات الاحتجاج والتحرك الشعبي ليست موجودة فحسب، بل وهي أعظم كثافة وتركيزاً من أي وقت مضى.
- في السويداء
فإذا كانت مرحلة الصراع بشكله العنفي قد طغت بأصواتها المدمرة على أصوات الناس، وألزمت العقلاء منهم باتخاذ موقف الحيطة والتهدئة، لما كان واضحاً فيها من تدخلات خارجية، ومن تطرفٍ ممولٍ ومدروس، فإنّ هدوء صوت الرصاص قد أفسح المجال أمام صوت الأمعاء الخاوية، وأمام صوت القهر المتراكم للبحث عن متنفساتٍ له من حينٍ إلى آخر، وفي أكثر من مكان من الخارطة السورية.
«العمل الممل الرتيب الأسود»
بات من الواضح، أنّ بروز محافظة السويداء كنقطة تفاعلٍ للأحداث، لم يكن بحالٍ من الأحوال مسألة تصادفية، بل مسألة لها قانونيتها الموضوعية التي تكاد تكثف مجمل الوضع السوري؛ إذ بالرغم من وجود «خصوصيات» لكل منطقة من المناطق السورية، إلا أنّ ما لا يمكن إنكاره أنّ مشتركات البؤس أعم وأشمل وأقوى حضوراً. كذلك، فإنّ أية ظاهرة حين تتكرر أكثر من مرة، فإنّ قانوناً حاكماً يكمن خلفها بالضرورة، ولا يمكن ردّها إلى المصادفة، أو إلى حادثة آنية أو سبب مباشرٍ وحيد.
السويداء كغيرها من المناطق السورية، يعيش أهلها الأمرّين، على المستوى الاقتصادي الاجتماعي، الفقر والجوع ينهش الناس، وعلى المستوى السياسي، فإنّ «أولي الأمر» لا يكلفون أنفسهم حتى بزرع آمالٍ ولو كانت وهمية، بل «يبشرون» بالمزيد من التردي ومن البؤس، و«يبشر» من يحتل منهم مواقع التنفيذ بأنّ الليبرالية بأكثر أشكالها توحشاً، من خصخصة وإنهاءٍ للدعم وارتفاع للأسعار وغياب لدعم الزراعة، مستمرةٌ ومتسارعة... و«يبشرون» أيضاً، وبأشكال مباشرة وغير مباشرة، بأنهم غير معنيين بالحل السياسي من أساسه، وأنّه ليس هنالك من داعٍ أساساً للحل السياسي!
في ظل ذلك كلّه، فلا أقل من أن تعبّر الناس عن قهرها وعن رفضها للموت. ولما كان الشكل الأساسي الذي احتل موقع الصدارة مطلع 2011 هو شكل التظاهر، فإنّه من المنطقي إلى حدٍ ما أنْ يكون هذا الشكل نفسه هو أول ما قد يطرأ على بال من يعتزمون الاحتجاج.
ويبدو التظاهر السلمي بوصفه عودةً لوصفةٍ صحيحة خرّبها السلاح وخربها العنف، ولكن يتضح أمام الناس وبسرعة كبيرة، ونتيجة الخبرات المرة السابقة أنّ الموضوع أعقد من ذلك.
فـأولاً: التظاهر ينبغي أن يكون سلمياً، وألا تشوهه أية أعمالٍ عنيفة أياً كان شكلها، لأنّ النتيجة المباشرة للأعمال العنيفة هي قسم الشارع المحتج على نفسه، وإعطاء الذريعة لمن يترصدون بالحراك للبطش به مادياً وسياسياً.
وثانياً: إنّ التظاهر نفسه يحتاج إلى شعارات ناضجة وجامعة على المستوى الوطني، لأنّ أية شعارات ضيقة أو متطرفة سياسياً أو انعزالية، من شأنها أيضاً أن تفعل الفعل نفسه الذي يفعله العنف، وإنْ بشكلٍ أقل وضوحاً.
وثالثاً: التظاهر ليس الشكل الوحيد للنشاط السياسي وللاحتجاج، هنالك الاعتصام وهنالك الإضراب، وهنالك العمل السياسي المنظم، وهذه الأشكال كلها أشد تعقيداً وأكثر صعوبة، حتى وإنْ استخف بها البعض؛ فهذه الأشكال تتطلب جهداً يومياً منظماً يستقطب قلوب الناس وعقولهم على حد سواء، وهو على حد وصف أحد أبرز ثوريي القرن العشرين «العمل الممل الرتيب الأسود»، ولكنّه العمل الوحيد الذي يكفل النجاح وتحقيق الغاية، ويكفل حفظ دم الناس، وتقليل خساراتهم إلى الحد الأدنى، ويكفل تكبيل أدوات القوة والبطش المادية والثقافية.
شكلان ومشروعان
ضمن هذا التمايز الواضح، فقد ظهر خلال الأسبوعين الماضيين شكلان من الاحتجاج في السويداء؛ أحدهما: الذي جرى ضمنه اقتحام مبنى البلدية وحرقه من قبل قلة قليلة، والآخر: هو الاعتصامات التي جرت بعد ذلك بأيام، والتي رفعت بين ما رفعت من شعارات، المطالبة بالحل السياسي وبتطبيق القرار 2254.
رغم أنّ هنالك تقاطعات بحدودٍ معينة بين الفاعلين والمشتركين في كلا الشكلين، إلا أنهما يعبران عن منطقين مختلفين كل الاختلاف، وعن مشروعين مختلفين كل الاختلاف.
الأول والثاني يستندان إلى أساس موضوعي صلبٍ هو مظلومية محقة وقهر متراكم طال أمده، ولكن كلاً منهما يختط مشروعاً مستقلاً عن الآخر، بل وربما معارضاً للآخر على طول الخط... وهذا بالرغم من أنّ السواد الأعظم من المشتركين في كلا الشكلين، محمّلون لا بالقهر فقط، بل وبتطلع وطنيٍ لا يُشكك فيه إلا متصيدٌ يريد الشر بالبلاد وأهلها.
في الشكل الأول وما رافقه من عنفٍ ومن طبيعة شعارات، تظهر الرغبة المحمومة في تجريب المجرب وتكرار المكرر، ومضافاً إليه حمولةٌ ظاهرة حيناً ومخبأة حيناً من الشكل الطائفي والانعزالي، وهذا الشكل ودون أدنى شك، يحقق مصالح رافضي التغيير ضمن النظام، ومصالح قوى خارجية تريد إعادة إشعال البلاد ضمن الصيغ السابقة وبشكل أكثر دموية وحسماً.
الشكل الثاني، الذي قد لا يعجب بعض أصحاب العنتريات، ولا «يرقى» إلى غليان الدماء في عروقهم، يعبّر عن درجة أعلى من المسؤولية والنضج، وعن رغبة صادقة ولو حتى غير متبلورة بشكل كامل، في بذل الجهود التراكمية التي تجمع المنهوبين وتجعلهم صفاً واحداً، وتربط آلامهم بأسبابها الحقيقية وبطرق حلّها الحقيقية، أي بالواقع السوري بأكمله، وليس بواقعٍ مناطقي هو مجرد نتيجة ضمن سياق عام. الشكل الثاني هذا، ومرة أخرى، رغم أنه قد لا يرضي بعض أصحاب الرؤوس الحامية، إلا أنّه بذرة أشكالٍ أكثر نضجاً وتنظيماً، بما فيها التظاهر أيضاً، ولكن التظاهر المنظم والمدروس، وليس تظاهر «الفزعة» و«الحمية»؛ فالفزغة والحمية قيمتان أخلاقيتان وثقافيتان عميقتا الجذور في السويداء، وفي سورية كلها، ولكنّهما تأخذان قيمتهما من الاتفاق بين الناس على أشكال ممارستهما، ومن وجود عرفٍ سائد متفقٍ عليه لتطبيقهما، ومن وجود زعامات يختارها ويحترمها الناس، تنظم ذلك التطبيق.
وفي حالة خاصة كالتي تعيشها البلاد اليوم، فإنّ الزعامات المعنية بتغيير جذري، ليست هي بالضرورة الزعامات التقليدية (التي هي نفسها منقسمة فيما بينها)، وغالباً ما تكون زعامات التغيير الجذري قادمة من الأوساط الشعبية، وتختلف إلى هذا الحد أو ذاك عن الزعامات التقليدية.
الوضع اليوم، أنّ هنالك زعامات تقليدية، هي أميل للتعقل ولتهدئة الأمور، وهذا جيد. وهنالك زعامات مستجدة، رفعها السلاح قبل أي شيء آخر، وبعضها رفعها المال، وهذه منقسمة على نفسها هي الأخرى. ولكن الواضح لكل ذي نظرٍ أنه لا هذه ولا تلك، على الأقل بشكلهما ومواقفهما الحالية، هما زعامة التغيير الجذري... وهذا لا يعني أنه لا يمكن الاستفادة منهما بما يمكن أن تقدماه، وخاصة في إطار التعقل وتهدئة الأمور حين يسعى أصحاب المصلحة في التفجير إلى التفجير.
النخوة والفزعة والحمية، تحتاج إلى تأطيرٍ يقوده زعماء من نوعٍ خاص، زعماء عقلاء وثوريون في الوقت نفسه؛ وهؤلاء بغالبيتهم العظمى، وكما علمنا التاريخ، لن يأتوا لا من الزعامات التقليدية، ولا من زعامات السلاح المستجد، ولا من زعامات الأحزاب... هؤلاء سيأتون بمعظمهم من أناسٍ موثوقين ومحترمين في مجتمعاتهم، وفوق ذلك عقلاء وثوريون في آن معاً... ووظيفة العمل الممل الرتيب الأسود هي خلق هذه الزعامات واختيارها وتجميع الناس حولها، وأهم من ذلك، تجميعهم حول رؤية وطنية واضحةٍ وجامعة... والإرث التاريخي الوطني للسويداء وكذلك الإرث السياسي والاجتماعي، هي عوامل غنية ومساعدة على الوصول إلى الغاية المرجوة بالتغيير الجذري الشامل عبر الحل السياسي، وعبر القرار 2254، وعبر تنظيم الناس لصفوفها باستخدام مختلف أشكال الاحتجاج والتجمع، وعبر «العمل الممل الرتيب الأسود»، أي العمل التنظيمي الجاد اليومي، بقلوبٍ حارة وعقولٍ باردة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1102