«الأحاديّة القطبية» تخسر على الجبهة الإعلامية أيضاً
سيكون تضييقاً لحدود وأهمّية الحرب المتصاعدة على الجبهة الإعلامية اليوم بين «المعسكرين» لو تم اختزالها بأنها تعبير فقط عن الاستقطاب بين «قوّتين عظميين» أو «دولتين» هما روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، وتصويرها كمجرّد صراع إيديولوجي لـ «تحاصص نفوذ بين متنافِسَين متماثلَي الأهداف» سينتهي بـ«صفقة» تُعيد الأمور إلى «مجاريها السابقة»، فوجهة نظرٍ كهذه تتجاهل المنعطف التاريخي الحادّ والهائل الذي تشهده البشرية جمعاء اليوم، وانقلاب العلاقات الدولية السياسية والاقتصادية والاجتماعية و«الزلزال» المرافق له في الوعي الجماعي، وهو ما يتكثف توصيفه المرحلي بالانتقال من عالَم «الأحادية القطبية» الآفل إلى عالَم «التعددية القطبية» الجديد، أو حتى «اللا- قطبية». فالمسألة تتعلّق بالعمق في استنفاد ذروة المنظومة الإمبريالية الرأسمالية عالمياً لآخر مبرّرات وجودها، بعد تلك العقود القليلة التي كان ما يسمح لها بالاستمرار، هو فقط بقايا عطالتها غير المكبوحة بمقاومة كافية بعد تراجع وتفكك الاتحاد السوفييتي، وهو ما بدأ يتغيّر جذرياً منذ سنوات. دون هذا الأساس المادّي للصراع العالمي المحتدم حالياً لا يمكن إدراك مغزى معاركه وأدواته على مستوى البنيان الفوقي أيضاً؛ ومنها: الحرب الإعلامية والفكرية والنفسية بين «المعسكرَين» الرئيسيَّين اليوم.
هل هناك «مبالغة» بالقول بأنّ هناك «خسائر» للغرب في حربهم الإعلامية الدائرة حالياً؟ لنستمع إلى اعترافات أحد أهمّ مراكز الأبحاث الغربية، وتحديداً الأمريكية، وهو مركز «راند» المعروف بارتباطه وعمله لصالح دوائر القرار العسكري والسياسي الأمريكي.
الحرب الإعلامية بدأت قبل سنوات من حرب أوكرانيا الحالية
كمثال على الاهتمام والقلق الأمريكي الجدّي من تغيّرات ميزان القوى في ميدان المعركة الإعلامية العالَمية، نذكر بأنّ مركز «راند» نشر منذ العام 2016 دراسة بعنوان: «النموذج الدعائي الروسي «دفق نيران الباطل»- لماذا قد ينجح؟ وخيارات لمكافحته». ومطلع الدراسة يُعبّر عن مستوى الجدّية التي تأخذ بها المؤسسة الأمريكية- الغربية تهديد حرب المعلومات مع روسيا، وتؤرّخ لنقطة تحوّل انعطافية على هذه الجبهة، عندما تقول: «منذ توغّلها في جورجيا عام 2008 (إنْ لم يكن قبل ذلك)، بات هناك تطوُّرٌ ملحوظ في نهج روسيا الدعائيّ. لقد ظهر هذا النهج الجديد بشكل كامل خلال ضمّ شبه جزيرة القرم عام 2014. ويستمر تجلّيه في دعم الصراعات الجارية في أوكرانيا وسورية، وفي السعي لتحقيق أهداف شائنة وطويلة الأجل في (الخارج القريب) لروسيا وضد حلفاء الناتو».
لا شكّ أنّ الاستفادة من هكذا نوع من الدراسات الغربية يتطلّب أن نميّز من جهة بين محتواها الموضوعي وما تكشفه من قلق مؤلّفيها تجاه تراجع الهيمنة الأمريكية الشاملة، الذي أساسه اقتصادي- سياسي، وبالتالي تراجعها في الميدان الإعلامي والإيديولوجي و«الحرب على العقول والقلوب»، وبين الشكل الذي يُقدَّم فيه هذا المحتوى عادةً، وهو شكلٌ «دعائي مضادّ» بالضرورة، ومليء بطبيعة الحال بعبارات «الشيطنة» لروسيا (وهذا طبيعي لكون صعود روسيا والصين، وتحرّرهما خطر على استمرار الهيمنة الأمريكية والغربية بنهجها الاستعماري الاستغلالي المزمن) وهذا ليس سرّاً، بل يترسّخ علناً في وثائق العقيدة الاستراتيجية والعسكرية للأنكلوساكسون وحلفائهم/ أتباعهم.
وهكذا نجد مثلاً في وثيقة «راند» 2016 المذكورة أعلاه بأنها عندما تعدّد «الخصائص المميزة للنموذج المعاصر للبروباغاندا الروسية» تذكر: «1- دعاية ذات حجم كبير ومتعدّدة القنوات. 2- سريعة ومتواصلة ومتكرّرة». ثم تشفعها بأنها «3- تفتقر إلى الالتزام بالواقع الموضوعي. 4- تفتقر إلى الالتزام بالاتساق».
مما له دلالته ضمن المثال نفسه، أنّه في حين كانت دراسة معهد «راند» حول هذا الموضوع مقتضبة في 16 صفحة عام 2016، فإنها تطوّرت إلى دراسة موسّعة ومحدَّثة في 175 صفحة في آب 2021 حملت عنواناً أكثر اكتراثاً وقلقاً: «فهم جهود المعلومات الخبيثة والتخريبية لروسيا في أوروبا والدفاع ضدّها».
وأكثر ما يلفت الانتباه فيها، أنّها اعترفت بنقاط ضعف ساعدت الدعاية الروسية على تحقيق اختراقات، حيث ذكرت عدة نقاط ضعف أساسية لدى الغرب هي التالية أدناه.
بيئة إعلامية مُعرَّضة
تتحدث الوثيقة هنا عن «الجهود الإعلامية الروسية» - وبطبيعة الحال تضيف لها دائماً صفة «التلاعبية» أو «الخبيثة» وما شابه... لكنّ اللافت أنّها تعترف بكون الدعاية الروسية تحقّق «الصدى الأكبر حيثما تغيب مؤسسات إعلامية مهنية ورصينة» في الغرب. وأنّ «المعايير الصحفية الضعيفة تسهّل اختراق» المعلومات الروسية «إلى منافذ الإعلام السائد» في الغرب. وأنّ «قصور المؤسسات الإعلامية [الغربية] في نيل ثقة الجمهور تخلق بيئة خصبة لاستقبال» المعلومات الروسية. وتضيف بأنّ «البيئة الإعلامية (الغربية) التي تُهمل بعض مجتمعات المتحدثين باللغة الروسية، فضلاً عن آخرين محتملين أيضاً، وتتركهم دون بدائل عن مصادر الإعلام المتحكّم بها، أو المؤثَّر عليها روسياً، يسمح لهذه الأخيرة بالسيادة في هذا المجال».
في هذا الصدد، نلمس مفارقةً بارزة تكمن فيما يلي: فرغم تشخيص أحد أهمّ أبحاث واشنطن والغرب لنقاط الضعف هذه في معسكرهم، قبل بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، لكنّ هذا لم يمنع من تكرار الغرب لأخطائه نفسها، بل وتعميق نقاط ضعفه رغم أنّه يعرف معظمها مسبقاً، وحدّدتها دراسة «راند» بالاسم في المقطع أعلاه: فعلى سبيل المثال: صعّد الغرب من اضطهاد القومية الروسية، وتمادى لدرجة مجنونة في قمع حتى رموزها الأدبية والفنية التاريخية (مثل دوستيوفسكي وتشايكوفسكي) وانتهج «عقوبات جماعية» على الطلاب والسيّاح والمسافرين الروس إلى الغرب، مقدّماً بيديه «هديّةً مجانية» للإعلام الروسي للاستفادة من النقمة الطبيعية التي تنشأ عن تصرّفات الغرب، وانكشاف زيف متاجرته بشعارات «احترام الرأي الآخر» و«الديمقراطية» و«الحريات»... إلخ. وكأنّ الغرب يوقع نفسه في «الحفرة» نفسها أكثر من مرّة! فهل يوجد تفسير معقول لهذا السلوك؟ يبدو أن التدهور الاقتصادي والانحطاط السياسي للنخب وصانعي القرار في الغرب قانونٌ موضوعي، لا بدّ أنْ يترك أثره بقوة لا رادّ لها على تراجع موافقٍ على مستوى بنائه الفوقي، بما فيه الإعلامي، وعلى قدرته بالتحكم بالوعي الاجتماعي محلياً وعالمياً– هذا ما يمكن التعبير عنه بـ«فقدان الهيمنة» بالمعنى الذي نظّر له غرامشي.
انقسامات داخلية ودُوليّة
تذكر دراسة «راند» 2021 أيضاً، بأنّ الإعلام الروسي «استغلّ الانقسامات الداخلية حول جدالات بشأن قضايا محدَّدة، مثل: الهجرة، والمثلية الجنسية (مجتمع الميم LGBT)، وانقسام الرأي بشأن العضوية في المؤسسات الغربية، والانقسامات المجتمعية على طول خطوط إثنية- قومية، ودينية وطبقية». وكذلك «الانقسامات ضمن الدول الأوروبية فيما بينها من جهة، وبين بعضها وبين الولايات المتحدة الأمريكية، قد خلقت بيئةً مستعدةً لتقبّل المحتوى الذي يهاجم الغرب والمؤسسات الغربية، مما أدى لانتشار المشاعر الشكوكية الأوروبية والمعادية لأمريكا...».
دور الفساد
لا نقول هنا بأنه ليس هناك فساد داخل روسيا و«طابور خامس» غربي ومصالح مرتبطة بالغرب، بالعكس؛ فقوى كهذه بالذات عملت وما زالت تعمل على عرقلة التوجهات والخطوات الجذرية للتحرّر من التبعية الغربية وانتهاج استقلال اقتصادي وسياسي وثقافي عنه... إلخ. ولكن يبدو أنّ الفساد هو نقطة ضعف مشتركة في الحقيقة في كلا المعسكَرَين؛ ففي هذا السياق سلّطت وثيقة «راند» الضوء على الفساد في المعسكر الغربي فقالت: «إنّ المؤسسات الضعيفة والفاسدة تولّد انعدام الثقة الشعبية، وتحوّل هيئات الدولة وشخصيات سياسية [في الغرب] إلى أهداف سهلة لجهود الإعلام [الروسي]».
ولكن، هنا أيضاً يلعب نوعٌ من «الحتمية التاريخية» دوره، لأنه كما نعلم فإنّ الجذر والمنشأ الأعمق للفساد المعاصر خلال القرون القليلة الماضية كان وما زال بالتحديد المنظومة الرأسمالية بحدّ ذاتها؛ فالرأسمال بطبيعته الجوهرية استغلالي وفاسد، ومولّد لشتى قابليات الفساد والإفساد والجريمة و«يولد مسربلاً بالدماء من رأسه حتى أخمص قدميه» على حدّ تعبير ماركس– فهذه القابلية ملازمة لأيّة دولة أو مؤسسة رأسمالية، حتى لو كانت من القوى الصاعدة، ولذلك فلا بدّ أنْ تشتدّ تناقضات آليات التطور الداخلي للقوى الصاعدة، وعلى رأسها روسيا والصين، وخاصةً التناقض داخلها بين قوى الفساد والرجعية وقوى الازدهار والتقدّم. وسيقدّم احتدام المعركة العالمية مع الإمبريالية- على كافة الجبهات- الأساس الموضوعي الذي يفتح إمكانية جدّية للانتصار على الفساد، وبقية الأمراض الملازمة بالضرورة للرأسمالية، انتصاراً جذرياً بتغييرها وبناء منظومة جديدة للاشتراكية في القرن الحادي والعشرين.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1102