العمل ضد «أستانا» بوصفه أحد أدوات «التطبيع»!
تحافظ السياسة الأمريكية على مجموعة من الاتجاهات العامة العابرة للإدارات المختلفة. وهي سياسة لها جانبها الإستراتيجي المتعلق مباشرة بطبيعة الفهم والتحديد الأمريكي للـ «الأمن القومي الأمريكي»... ومن بين هذه السياسات الثابتة، الموقف المعادي لصيغة أستانا، ليس ببعدها السوري فحسب، بل وأهم من ذلك بما لا يقاس: ببعدها الإقليمي وإطلالتها الدولية...
لم يكن جديداً بالكامل، موقف ممثلة واشنطن في مجلس الأمن كيلي كرافت، يوم 28 شباط 2020 بعد الهجوم الذي قتل على إثره جنود أتراك. في حينه قالت كرافت: «هذا الهجوم الأخير يجب أن يمثل نهاية حتمية لصيغة أستانا، وهذه الصيغة فاشلة لا يمكن إصلاحها ولا يمكن التعويل عليها لنتوصل إلى وقف لإطلاق النار».
جيمس جيفري، المبعوث السابق للولايات المتحدة إلى سورية، كان قد سبق زميلته في تصريح أطلقه نهاية 2018 قال فيه: «مسار أستانا فشل»، ودعا في حينه إلى «دفنه».
وهنالك عبر السنوات الماضية، وبالتوازي مع التصريحات الأمريكية، تصريحات لمسؤولين بريطانيين وفرنسيين في الاتجاه ذاته...
فلاش باك
خلال الشطر الأعظم من القرن العشرين، ارتكزت قوى الاستعمار الغربي التقليدي، وخاصة بريطانيا، ومن بعدها الولايات المتحدة، إلى ثلاثة مراكز قوة أساسية ضمن المجال الجغرافي لـ«الشرق الأوسط»، وفقاً لتقسيم «حكومة جلالة الملكة» للعالم. هذه المراكز كانت: إيران الشاهنشاهية، تركيا الناتو، و«إسرائيل» الصهيونية... وبقيت ممالك وإمارات الخليج مركزاً للسيطرة على الطاقة وللتدخل في السياسات الإقليمية، دون أن تمتلك قوة عسكرية أو صناعية أو ثقافية جدية تمكنها من لعب أدوار بسعة وامتداد أدوار المراكز الثلاثة المشار إليها آنفاً.
إذا شئنا العودة بالتاريخ إلى الوراء أكثر قليلاً، مروراً بـ«الاتفاق الودي» لعام 1904 الذي مثّل الكروكي الأولي لسايكس بيكو، ووصولاً إلى نداء نابليون الشهير لليهود عام 1799 خلال حملته على فلسطين، والذي مثّل النسخة الأولى من وعد بلفور لعام 1917، فإنّ الاتجاهات الواضحة والثابتة بالمعنى الجيوسياسي ضمن تصورات الاستعمار الأوروبي بقوتيه الأخيرتين (بريطانيا وفرنسا)، وطوال أكثر من قرنين، كانت:
1- الاستعمار الأوروبي قوة بحرية، وشرط الحفاظ على سيطرته هو منع القوى القارية من التواصل فيما بينها... وبكلامٍ أوضح: إبقاء شرايين الحياة الاقتصادية شرايين بحرية، ومنع أي تواصل بريٍ حقيقي بين قوى آسيا.
2- بما يخص «الشرق الأوسط»، فإنه طوال أكثر من ألف عامٍ ما قبل الاستعمار الأوروبي، بقيت هذه المنطقة فضاءً جغرافياً سياسياً واقتصادياً واحداً، تناوبت في السيطرة عليه عدة إمبراطوريات: عربية وفارسية وتركية... وبعيداً عن إسقاط صراعات الحاضر على الماضي، فإنّ الأكيد هو أنّ قوة هذه الإمبراطوريات وقدرتها على الاستمرار والتأثير استندت في أحد دعائمها الأساسية على الاتساع والترابط الجغرافي، لمنطقة هي بطبيعتها إقليم اقتصادي متكامل... ولضمان السيطرة الغربية فإنّ الأولوية القصوى كانت لمنع هذا الترابط وتقطيعه بكل وسيلة ممكنة.
3- تستخدم ضمن عملية التقطيع هذه، التمايزات القومية والدينية والطائفية والعشائرية، ويجري استحضار التاريخ بشكل مشوه بحيث يشكل أساساً لصراعات لا تنتهي.
4- تتمتع منطقة «الشرق الأوسط» والتي تقع في قلب العالم القديم، بدور مفصلي في ترجيح كفة القوى البحرية على القارية وبالعكس، ولذا فإنّ اهتمام الاستعمار الأوروبي بها، هو أمر شديد الوضوح عبر كل تاريخ ذلك الاستعمار. وهذا الاهتمام انتقل بالوراثة إلى الأمريكي... ولعل بين المؤشرات الفريدة بالمعنى التاريخي على عملية الوراثة هذه، هي أنّ أول تحركٍ قام به الرئيس الأمريكي روزفلت بعد مؤتمر يالطا مباشرة، هو زيارته التي قام بها صوب مصر (والتي أثارت غضباً هستيرياً لدى تشرشل)، والتقى خلالها بكل من الملك فاروق والملك عبد العزيز آل سعود، على ظهر الطراد الأمريكي يو إس إس كوينزي في شباط 1945... وطرح خلالها مع الملكين كما تشير الوثائق مسائل التعاون المشترك بما في ذلك تلقي شكاوى الملكين على بريطانيا، إضافة إلى طرحه مسألة «الهجرة اليهودية»...
5- تتعزز عملية تقطيع «الشرق الأوسط»، عبر تنصيب وتثبيت مجموعة من الدمى لقيادة الممالك المقطّعة، وإغراقها بالفساد وتوجيهها نحو تكريس اقتصاد متخلف وغير منتج، وهو الخيار الذي عززته مسألة الثروة النفطية الهائلة في المنطقة، والتي كان أحد شروط نهبها أن يجري تصديرها خاماً، والحفاظ على عملية التصدير الخام يتطلب بالضرورة منع استهلاكه في أماكن استخراجه، أي منع تطوير تلك الأماكن صناعياً بشكل أساسي... (من الأمور التي تستحق الدراسة بالمعنى التاريخي، إضافة إلى تأثير مسألة النفط الخام في الشرق الأوسط، ومسألة الكتلة البشرية الضخمة في أقصى الشرق الآسيوي، هي أنّ حركة تصدير رأس المال الغربي وضمناً تصدير عمليات التصنيع، مع انخفاض معدل الربح في الغرب، قد اتجهت نحو أقصى الشرق الآسيوي، وذلك على الرغم من أنّه كانت هنالك إمكانية نظرية في حينه لتصدير رأس المال نحو بعض مناطق الشرق الأوسط المضمونة التبعية للغرب، والتي كان من الممكن ربما أن يحمل التصدير نحوها (بوجود النفط) معدلات ربح أعلى بالمعنى الاقتصادي المباشر، ولكن مخاطر أعلى بالمعنى الإستراتيجي... ربما التفسير الأولي لهذا الاختيار هو الفهم الغربي لضرورة إبقاء التخلف في المناطق المفصلية ضمن العالم القديم، والتي يمكنها أن تلعب دور الوصل بين القوى القارية الكبرى، ويمكنها أن تتحول هي ذاتها إلى قوة قارية كبرى. ولذا فإنّ التصنيع العالي في أقصى الشرق الآسيوي، كان مقدراً له، مع انطلاقته الأولى على الأقل، أن يبقى مرتبطاً صميمياً بطرق التجارة البحرية التي يسيطر عليها الغرب، وبات مقدراً له اليوم –ممثلاً بالصين- أن يمر عبر الشرق الأوسط نحو استكمال مشروعه العالمي).
اتفاقات التطبيع
إذا كنا قد بدأنا حديثنا بالقول إنّ هنالك اتجاهات ثابتة ضمن السياسية الأمريكية، فإنّ الأكيد أنّ ضمنها محاولة الإبقاء على وضع «الشرق الأوسط» الضعيف والمفتت، وذلك حتى في إطار الانسحاب العسكري المحتمل منه.
أي إنّ الأمريكي، وفي إطار تراجعه العام، ذي الأساس الاقتصادي بالدرجة الأولى، وفي إطار عمله على إعادة التموضع في معركته الكبرى مع الصين، فإنّه لا يزال يصر على ترتيبات معينة ضمن الشرق الأوسط، تضمن له أن تبقى هذه المنطقة مُرجّحاً للقوى البحرية على القوى القارية بالمعنى الدولي.
مع خروج إيران من ثلاثي الاستناد الذي أشرنا إليه سابقاً، ابتداءً من 1979، ومع تأرجح تركيا بين الشرق والغرب ابتداءً من 2016 بشكل علنيٍ ومما قبل ذلك بأشكال أقل علنية، فإنّ ثالثة الأثافي المتبقية التي أحرقت المنطقة فوقها هي «إسرائيل» الصهيونية، إضافة إلى الدور المساند الذي كانت تلعبه ممالك الخليج، والتي جرى تعزيزها إلى حد ما بالمعنى العسكري خلال السنوات القليلة الماضية.
ليس مصادفة إذاً أننا بدأنا نسمع بالحديث عن «ناتو عربي» ضد إيران، حتى ما قبل اتفاقات التطبيع الأخيرة. وكذلك بدأنا نسمع «تعاطفاً مفاجئاً» من دول خليجية مع السوريين ضد الاعتداءات التركية على سيادتهم، والتي كانت بعض هذه الدول جزءاً منها، وممولاً ومساهماً فيها قبل بضعة سنوات فقط.
الموقف من تركيا وإيران
ما يجعل الأمر أكثر تعقيداً، هو عمليات التسطيح والتبسيط التي تحاول تقديم أستانا بوصفها جمعاً بسيطاً لثلاث قوى هي روسيا وتركيا وإيران. يسمح هذا التصور المبسط للبعض بسحب الموقف المنفرد من أيٍ من الدول الثلاث ليغدو موقفاً من أستانا نفسها.
المعلوم هو أنّ الرياضيات البسيطة لا تصلح، بحالٍ من الأحوال، لفهم المعادلات السياسية الواقعية؛ لأنّ كلّ وحدةٍ تحمل في داخلها ما هو أكثر وأكبر من مجموع مكوناتها... تحمل جانباً نوعياً لا يملكه أي من هذه المكونات منفرداً، وتملكه الوحدة بالذات لأنها تجمع تلك المكونات المنفردة بتفاعلاتها وتناقضاتها... وبكلام ملموس:
1- عملية إخراج القوى الأجنبية من سورية، وبينها التركي، وإذا كانت تمر عبر التطبيق الشامل للقرار 2254، فإنّ إحدى أدوات ذلك التطبيق المباشرة هي ثلاثية أستانا نفسها، لأنها تجمع في مسار واحد ثلاث قوى هي بمجموعها الأعلى تأثيراً في الوضع السوري ككل.
2- عملية أستانا بمنحاها السوري، لا تضم الدول الثلاث فحسب، بل وتضم أيضاً بشكلها الرسمي، طرفين سوريين... إذا نظرنا إلى هذه التركيبة من زاوية واسعة، فإنها تضم إضافة إلى الروس، كلّاً من «الترك» و«الفرس» و«العرب»، وتطل أيضاً على القضية الكردية، وإنْ لم تكن تلك الإطلالة حتى اللحظة مؤثرة بالاتجاه الإيجابي المطلوب... أي إنّ العملية تشكل إطاراً فريداً وغير مكرر يجمع «قوميات» من المطلوب غربياً أن تكون متعادية ومتحاربة... يضاف إلى ذلك أنّ وجود الأتراك والإيرانيين معاً هو كذلك فريد من نوعه بما يشكله من تهديد للاستقطاب المطلوب غربياً بين «سنّة» و«شيعة»... وبكلمة، فإنّ هذا الإطار، ورغم نواقصه العديدة، إلا أنّه إطار فريد من نوعه بالمعنى التاريخي، ويسمح في حال تطويره عبر الحل السياسي السوري بالذات، أنْ يؤسس لشرق جديد خارج معادلة «الشرق الأوسط» الغربية.
3- إذا كان جزء منا كسوريين، لا يرون هذا الرأي، فربما يساعدنا في تبين صحته شكل التحالفات التي يسعى الأمريكي والصهيوني إلى تركيبها في منطقتنا؛ وأكثر الأمثلة وضوحاً على ذلك هو عمليات التطبيع التي جرى بناؤها تحت يافطة «الخطر الإيراني»... ومن ثم الظهور المفاجئ لخطاب يدّعي أنه «قومي عربي» من بعض ممالك وإمارات الخليج التي لطالما كانت معادية لهذا الخطاب حين كانت بوصلته هي فلسطين ومعاداة الصهيونية والاستعمار... وهذا الخطاب القومي الـ«مودرن»، لا يجد حرجاً في التقاطع مع «إسرائيل» الصهيونية، بذريعة تقاطع المصالح في وجه الإيرانيين والأتراك...
الموقف من أستانا
الهدف الأساسي من جملة اتفاقات التطبيع التي جرت خلال الفترة الماضية، فيما نعتقد، هو ترتيب المنطقة بحيث تبقى تابعة للغرب بعد الخروج العسكري الأمريكي منها.
وإذا كان اللعب الغربي القذر بثنائية «سني- شيعي»، قد وصل -مع تطويرها- نحو الحديث عن «ناتو عربي» يضم إسرائيل الصهيونية إلى جانب دول عربية ضد إيران، ومن ثم إلى التطبيع... فإنّ الأداة الأخرى التي يجري استخدامها هذه الأيام هي الأداة القومية... حيث فجأة، تتحول دولٌ كانت أشد الدول عداءً للطرح القومي العربي، إلى دولٍ مدافعة عن العروبة، ليس في مواجهة «إسرائيل» ولا في مواجهة الولايات المتحدة ولا في مواجهة بريطانيا، ولكن حصراً في مواجهة «الفرس والأتراك»...
أي إنه يجري الآن، وتحت مسمى «العربي» (سواء في الاقتصاد أو في السياسة أو في الثقافة)، ما جرى أمس تحت مسمى «سني»، وبالحالتين فإنّ الاستهداف واحد، وهو إبقاء كل دول المنطقة خاضعة وتابعة ومتخلفة، ومحكومة من دمى تابعة...
بهذا المعنى، فإنّ العداء الذي نراه اتجاه مسار أستانا اليوم، يتجاوز المسألة السورية ويحمل معاني مباشرة تخص ترتيب المنطقة بأسرها للمرحلة القادمة...
وهذا كلّه لا يعني بحال من الأحوال التفريط بأي جزء من السيادة السورية لمصلحة أي من دول ثلاثي أستانا، ولا يعني إطلاقاً التهاون في التعامل مع ضرورة الوصول إلى حل حقيقي للمسألة الكردية في سورية، ولكنه يعني بالضبط وضع المسألة السورية في سياقها الصحيح، الإقليمي والدولي، وبما يخدم المصلحة العميقة للشعب السوري ولشعوب المنطقة، والتي لا يمكنها بأي شكل من الأشكال أن تكون في الضّفة نفسها التي عليها مصالح الصهيوني والأمريكي...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1036