مفاتيح أساسية لفك شيفرة السلوك الأمريكي... الشمال الشرقي والغربي، العقوبات وإعادة الإعمار

مفاتيح أساسية لفك شيفرة السلوك الأمريكي... الشمال الشرقي والغربي، العقوبات وإعادة الإعمار

أثناء كتابة هذه المادة، اقتربت إصابات كورونا في الولايات المتحدة من مليون إصابة، (حوالي ثلث مجموع الإصابات المسجلة في العالم أجمع). إنه أمر مؤلم ومحزن، سواء في ما يخص معاناة الشعب الأمريكي من هذه الكارثة، أو على الخصوص معاناة الكادر الطبي الأمريكي الذي يقف هناك على خطوط المواجهة الأولى في نضالٍ مخلصٍ ضد الفيروس ودفاعاً عن صحة الناس.

إنّ انعدام إنسانية النخبة المالية الحاكمة في الولايات المتحدة، اتجاه الشعب الأمريكي قبل أي شعب آخر، يَظهر الآن ليس في حروب يجري شنها ما وراء المحيطات، بل في نيويورك ونيوجرسي وإلينوي وميشتيغان وكاليفورنيا... حيث بات ترامب ينصح الأمريكيين بابتلاع المنظفات لكي يعقموا أجسادهم من الداخل للتصدي للفيروس، وهمه الأساسي، وحربه الكبرى، تتمثل في مسألة واحدة لا غير: ينبغي إعادة تدوير عجلة الاقتصاد فوراً وبغض النظر عن أي نتائج على صحة الناس.

نقول هذا الكلام لهدف واحد هو إزاحة أي حماقة قد تقول بأنّ النخبة الأمريكية مهتمة حقاً بمساعدة الشعب السوري أو أي شعب كان، بما في ذلك الشعب الأمريكي، لتجاوز محنة كورونا بأقل الخسائر والآلام.

الشمال الغربي

كنا قد عالجنا في مادة سابقة في قاسيون العدد 961 بعنوان (أمريكا «ذات القلب الرحيم»، القائد أبو الفتح الفرغلي... و«المصادفات» التي بالجملة!)، المحاولات التي تشتغل عليها واشنطن بالاتكاء على كورونا لمتابعة مخططها في «سورنة» النصرة ورفعها من قوائم الإرهاب، بهدف منع تطبيق سوتشي، وبالمحصلة منع تنفيذ 2254.

ولأنّ هذه المادة، هي بشكل ما استكمال للمادة السابقة، نعيد بشكل مختصر تثبيت الاستنتاجات الأساسية التي وصلنا لها:

  • محاولات الأمريكي منع إنهاء النصرة، ليست جديدة؛ بدأت مع العمل ضد أستانا ومن ثم ضد سوتشي بأشكال مباشرة أو غير مباشرة، ودائماً تحت الستار «الإنساني».
  • منذ أواخر العام الماضي، بدأت هذه المحاولات تأخذ أشكالاً أكثر علنية ووقاحة. بدأ ذلك مع تصريح جيمس جيفري يوم 30 كانون الثاني الذي قال فيه: «الولايات المتحدة تقرُّ بوجود إرهابيين في إدلب، وهناك مجموعة كبيرة من النصرة وهيئة تحرير الشام وهي متفرعة من القاعدة، وتعتبر منظمة إرهابية، ولكنها تركِّز بشكل أساس على قتال النظام السوري، وهم يدّعون أنهم مقاتلون وطنيون معارضون وليسوا إرهابيين، ونحن لم نقبل هذا الادعاء بعد، ولكن لم نر أنهم شكلوا تهديداً دولياً منذ فترة». وهو التصريح الذي سرعان ما استجاب له الجولاني عبر مقابلة مطولة مع مجموعة الأزمات الدولية، مظهراً فيه –بمساعدة المجموعة التي تبرعت لتلميع صورته بمقاطع مطولة من المقابلة- كل ما يمكن أنْ يرشحه لكي يخرج من قائمة الإرهاب. (عالجنا هذه «المسرحية الكوميدية الكاملة للثلاثي: جيفري، مالي، جولاني!» في مقال منفصل في قاسيون العدد 954).
  • في الشهر الأخير، ومع بدء الانتقال إلى خطوة حاسمة في تنفيذ اتفاقات سوتشي عبر البدء بتسيير الدوريات المشتركة على أجزاء من الطريق M4، بناء على بروتوكول 5 آذار بين الرئيسين الروسي والتركي، ظهر تسريب صوتي لأبو الفتح الفرغلي القيادي في النصرة، وإلى حد ما «شرعي النصرة»، يعبر فيه وضوحاً عن انتقال النصرة إلى خانة العداء المباشر مع تركيا، وانتهاء مرحلة «الاستعانة بالكافر على الكافر»، وفقاً لوصفه لطبيعة العلاقة مع تركيا.
  • بالتوازي مع ذلك، بدأت مراكز الأبحاث الأمريكية، وعلى رأسها معهد واشنطن الممول من آيباك الصهيونية، بالاتكاء على كورونا، للحديث عن «ثلاث حكومات» في سورية. إحدى هذه «الحكومات»، بل أفضلها وفقاً للتقرير، هي «حكومة التكنوقراط» المسماة حكومة الإنقاذ، أي الحكومة التابعة للنصرة.
  • الاتجاه العام للعمل الأمريكي في سورية، لا يقف عند حدود محاولة الحفاظ على النصرة، بل يتعدى ذلك إلى محاولة الحفاظ على «ثلاث حكومات» في سورية منفصلة عن بعضها، متقاتلة فيما بينها؛ وبكلمة واحدة: الحفاظ على حالة الحرب وتكريس التقسيم ومنع تطبيق 2254.

الشمال الشرقي

في إطار الاستنتاج السابق، يبرز أيضاً تصريح جيفري يوم 30 آذار الماضي، الذي عبّر فيه عن سخطه على روسيا لأنها -وفقاً له- أوقفت المعبر في الشمال الشرقي، والذي تعوّل عليه الولايات المتحدة لتكريس واقع انفصال اقتصادي -وأهم من ذلك، سياسي- بين الشمال الشرقي وبقية سورية.

يوم السابع عشر من شهر نيسان الجاري، صدر بيان عن «الإدارة الذاتية» حول وفاة أول مصاب بكورونا من مناطق الشمال الشرقي. الأكثر وضوحاً في البيان هو تركيزه غير الموضوعي على أنّ المصدر المحتمل لإصابات كورونا في الشمال الشرقي، إنما هم السوريون القادمون من «مناطق سيطرة النظام»، وعلى هذا الأساس، المطالبة بمزيد من الإجراءات على «المعابر» مع بقية سورية بأنواعها المختلفة. وذلك في الوقت الذي يغض فيه من كتبوا البيان النظر نهائياً عن المصادر الأخرى المحتملة للعدوى، وهي عديدة كما يعرف الجميع وعلى رأسها الجنود الأمريكيون الذين ظهر أن جيشهم المنتشر حول العالم قد يكون بين أعلى البؤر في نسب الإصابة!

بكلامٍ آخر، فإنّ البعد السياسي للبيان المشار إليه، سواء قصد ذلك من كتبوه أم لم يقصدوا، إنما يصب في الطاحون الأمريكي نفسه، الساعي إلى تكريس عزلة المناطق السورية عن بعضها البعض، ناهيك عن استمرار مراوحة الحوار بين قسد والنظام في مكانه، بالتوازي مع تصاعد محاولات الأمريكان للدفع نحو حوار بديل يتم بين قسد وتركيا!

تحركات موازية

بالتوازي مع «الجهود الإنسانية» الكثيفة، تتكرر الدعوات والمبادرات التي يرعاها الأمريكي بشكل رئيسي، والهادفة لنسف العتبة التي تم التوصل لها على مستوى هياكل المعارضة وعلى مستوى اللجنة الدستورية. العتبة التي تم التوصل لها رغم سنوات من التخريب المستمر، ورغم العيوب الكثيرة التي تكتنفها، ونتحدث بشكل أساسي عن اللجنة الدستورية، هي رغم ذلك، عتبة كافية للانطلاق نحو تنفيذ 2254. ولذلك فإنّ الأمريكي - وكذلك المتشددين من الأطراف السورية - يرى أن من الضرورة بمكان نسفها ككل، وبشكل خاص نسف اللجنة الدستورية.

في هذا الإطار أيضاً، نرى هجوماً مستمراً ضد أستانا، يخبو قليلاً ثم لا يلبث أن يعود مجدداً. وهو أمر لا ينفصل في جوهره عن الهجوم على أطراف أستانا كل على حدة، ومن ذلك الأكاذيب التي يجري ترويجها في الجنوب السوري حول دورٍ روسي في تجنيد سوريين للقتال في ليبيا، وهو الأمر الذي تشير المعطيات أنّ هنالك من يعمل عليه ويدفع باتجاهه فعلاً من أطراف سورية وغيرها. وكذلك لا ينفصل عن الأكاذيب التي يروجها بعض المتشددين السوريين عن مسائل اقتصادية، هم في نهاية المطاف الضالع الأول فيها، وخاصة عبر ما يظهر في ملف العقوبات.

العقوبات

الألعاب الأمريكية الهادفة إلى استمرار الحرب في سورية واستمرار الأزمة ومنع الخروج منها، لا يمكنها أن تنجح دون درجة عالية، بل وانفجارية، من عدم الاستقرار؛ ذلك أنّ الميل العام خلال السنوات الماضية، وعبر الدور الذي لعبته أستانا بشكل أساسي، هو باتجاه حصر بؤر التوتر العسكري وإنهائها واحدة وراء الأخرى، وهو ما بات في مراحله الأخيرة مع تقدم السير نحو تنفيذٍ كاملٍ لسوتشي.

ولذلك، فإنّه لا بديل لدى الأمريكي ولدى المتشددين السوريين، عن افتعال حرائق جديدة في المناطق السورية المختلفة، وعبر المدخل الاقتصادي بشكل أساسي، إلى جانب مداخل أخرى، طائفية حيناً وقومية حيناً آخر.

لا يمكن للمرء أن ينسى مشهد مسؤول أمريكي يعرض أمام مجالسيه من السوريين تطبيقاً على هاتفه المحمول يتابع حركة سعر صرف الليرة السورية، وهو يظهر لهم فرحه بانهيار سعر صرف الليرة السورية على أساس يومي. ما يقوله ذلك المسؤول، هو أن هذا الانهيار يعني أن النظام على وشك الانهيار!

حقيقة الأمر أنّ العقوبات الأمريكية على سورية، بالتكافل مع الفساد الكبير الداخلي، هما توأمان، ووجهان لعملة واحدة. ليس أدلّ على ذلك من دراسة ملف القمح مثلاً، حيث تصر الحكومة السورية على استيراده بسعر أعلى من السعر الدولي بذريعة العقوبات رغم توفر البدائل كما وضحت قاسيون مراراً، وخاصة في مادة نشرتها مؤخراً بعنوان «العقوبات و(السلبطة)... مثال من القمح». مثال آخر معروف، هو امتناع الحكومة عن شراء سفينة شحن نفطية خاصة بها، يمكنها أن تتجاوز كل عقوبات الأمريكان والغربيين بمساعدة الأصدقاء، بما يخفض العمولات الإضافية التي يجري دفعها (نتيجة العقوبات) بنسبة تصل إلى 72% (العقوبات مجدداً لماذا لا نشتري سفننا المستقلة؟!- قاسيون العدد 909). هذان مثالان ليسا سوى غيض من فيض أمثلة تصب كلها في مكان واحد: العقوبات الغربية تحولت إلى مزراب ذهب عبر العمولات الفلكية، يجري تقاسمه بين الفاسدين الكبار داخل النظام والحلقات المالية في الغرب، وكل ذلك على حساب الشعب السوري.

وعدا عن مسألة الأرباح، فإنّ العقوبات بالتكافل مع الفساد الكبير الداخلي، توفر بيئة توتر مستمر، تبدأ معيشية واقتصادية وتبقى مفتوحة دائماً على توترات أمنية يجري إشعالها من حين لآخر وفقاً للحاجة، وبما يخدم تعطيل السير باتجاه الحل السياسي.

إعادة الإعمار

تضاف كذبة الموقف الغربي من إعادة الإعمار إلى كذبة الهدف من العقوبات؛ كلاهما يستهدفان وفق ما يصرح الأمريكي، الضغط على النظام لدفعه نحو الحل السياسي. واقع الأمور يقول إنّ العقوبات لم تغير نظاماً من الأنظمة عبر التاريخ، (هذا إذا كان من حق طرف خارجي أصلاً أن يفرض عقوبات لتغيير نظام بلد آخر، وهو أمر مرفوض ومخالف للقانون الدولي، ومستمد من العقلية الاستعمارية الغربية التقليدية).

يقدم الغرب (العقوبات وإعادة الإعمار) بوصفهما (العصا والجزرة) اللتان يتعامل من خلالهما مع النظام السوري. ولكن إذا تركنا جانباً ادعاءات الغرب ونظرنا في الوقائع، سنجد أمامنا أمرين أساسيين:

أولاً، إذا استثنينا مشروع مارشال بعد الحرب العالمية الثانية، والذي جرت ضمنه إعادة إعمار جدية لأوروبا الغربية تحت ضغط التنافس مع النموذج السوفياتي في حينه، وفي ظل الحملة المكارثية المجنونة، فلن نجد مثالاً واحداً ناجحاً لعملية إعادة إعمار موّلها الغرب. (لبنان، العراق، كوسوفو، البوسنة والهرسك، أفغانستان، الكونغو... إلخ)، في كل هذه الأمثلة وغيرها (وهي تجارب قدمت قاسيون دراسة لها على 13 حلقة في أعداد سابقة)، ما جرى هو تكبيل هذه البلدان بديون فلكية، وتنصيب مجموعة من اللصوص والسماسرة التابعين للغرب مباشرة. تمثلت إعادة الإعمار الغربية دائماً وأبداً بالقضاء على أية إمكانيات نهوض اقتصادي حقيقي، وعلى العكس من ذلك العمل لتنمية القطاعات الخدمية وغير الإنتاجية على حساب الإنتاج الحقيقي. بل حتى الشكل الأبسط المتمثل في تعمير البيوت للناس الذين فقدوا بيوتهم، لم يجر إنجازه إلا بنسبٍ لا تكاد تذكر. ولذا فإنّ إعادة إعمار غربية هي كارثة ينبغي على السوريين تجنبها، لا التعامل معها بوصفها «جزرة»، وإن كانت قد تشكل «جزرة» بالنسبة للفاسدين الكبار.

ثانياً، الوضع الاقتصادي المتدهور والمأزوم للولايات المتحدة وللدول الأوروبية، يجعل الحديث عن «تبرّع» هذه الدول لإعادة إعمار سورية، ضرباً من الهذيان غير المبرر.

على أساس هاتين الحقيقتين، فإنّ الموقف الغربي، والأمريكي خصوصاً، من مسألة إعادة الإعمار، ليس في جوهره أكثر من استكمال لمسألة العقوبات. بكلام آخر، إنّ أفضل ما يمكن للغرب تقديمه ضمن عملية إعادة إعمار سورية هو أن يترك السوريين وشأنهم، أي أن يرفع عقوباته الإجرامية عن رقابهم.

ولأن الأمريكي لا مصلحة له في استقرار سورية وفي مضيها نحو حل سياسي يقرر فيه السوريون مصيرهم بأنفسهم، فإنه يحافظ على لعبة العقوبات وإعادة الإعمار بالشكل الذي يعرضه فيها. أي بالشكل الذي يسمح بإبقاء التوتر وبرفع احتمالات التفجير التي بات بحاجة إلى تعزيزها إلى أقصى الحدود لعلمه أنّه غير قادر على الاستمرار بوجوده المباشر وقتاً طويلاً على الأرض السورية، وذلك بالضبط نتيجة لأزماته الاقتصادية العميقة.

خلاصة

المخرج الوحيد من الكارثة، كان ولا يزال متمثلاً بالدفع نحو تنفيذ 2254 كاملاً بأيدي السوريين ولمصلحتهم، وعبر إنهاء العقوبات الغربية، وإنهاء كل محاولات التخريب التي يساهم فيها الأمريكي والمتشددون السوريون في الشمال الغربي والشرقي وفي الجنوب وفي كل مناطق سورية وخارجها، وبالأدوات السياسية والأمنية والاقتصادية.

الجيد في المسألة، أنّ قدرة الأمريكي، وكذا المتشددين المرتبطين به بشكل أو بآخر من كل الأطراف، تعاني ضعفاً مزمناً متصاعداً، وهو ما ينبغي استثماره عبر تكاتف جهود كل الوطنيين السوريين، وأياً تكن اصطفافاتهم الحالية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
963
آخر تعديل على الإثنين, 11 أيار 2020 12:46